"في ذكرى من اجتمع المسلمون والمسيحيون حول ضريحه منذ
لقائهم الأول" مقالة كتبها: الأب الياس زحلاوي، Elias Zahlawi ونشرها بتاريخ
2 يوليو، 2012، ولم تفقد أهميتها حتى اليوم، لذا أضعها تحت تصرف قراء صفحتي
الإلكترونة آملاً أن تفيدهم:
لم
يعد بخافٍ على أحد ما يدور في الأرض العربية والإسلامية، فيما طبول الحرب
الإعلامية في الشرق والغرب، تزداد دوياً وتهديداً وعهراً…
فثمة أصوات جريئة، وإن نادرة، ارتفعت في الغرب، وهي تحتج
وتستنهض الضمائر. وكنت دائماً أسارع للتعريف بها قدر الإمكان، عبر وسائل الإعلام
المتاحة.
واليوم،
وهو ذكرى شهيد الحق، القديس يوحنا المعمدان، الذي يستقطب ضريحه المبارك، المؤمنين
جميعاً، من مسلمين ومسيحيين، في قلب مسجد بني أمية بدمشق، يسعدني أن أعرّف بكاهن
فرنسي تجرأ وقدم إلى سورية خلال شهر أيار الماضي، وتجول فيها وسجل ملاحظاته،
وصاغها رسالة صادقة باللغة الفرنسية، ونشرها عبر البريد الإلكتروني في العشرين
منه. فكان أن جاءتني في اليوم التالي من كندا! وهي تقع في ثماني صفحات، مشحونة
بمعلومات ميدانية، وإحالتين تاريخيتين بالغتي الأهمية، ورؤية مستقبلية. فرأيت أن
أنقل منها إلى العربية بضع فقرات، عساها تحمل للعرب من سوريين وسواهم، في الوطن
والمغتربات، نوراً ولو ضئيلاً، من قلب عتمة الغرب القاسية.
يقول
بالحرف الواحد:
"الربيع السوري" بقلم الأب الفرنسي "فيليب تورنيول دوكلو" في
20/5/2012
"ما سمعناه، وما رأيناه
بأعيننا" (رسالة القديس يوحنا الأولى، الآية الأولى)
لو
كان كل إنسان يقول الحق، لأمكن إنقاذ السلام في سورية.
منذ
عودتي إلى دمشق، خلال هذا الشهر، أيار 2012، لا بد لي من الاعتراف الصريح بأن
الواقع الميداني، بعد عام من الصراع، يواصل ابتعاده عن اللوحة الكارثية التي
ترسمها أكاذيب الإعلام الغربي، القائم على تزييف الحقائق. ولقد سجّل شهر شباط
توقفاً في استفزازات الإسلاميين المتطرفين. وإن الاضطرابات، المقتصرة بمعظمها على
حماة وحمص، كان من الممكن أن تتقلص بسرعة أكبر، لو لم يلجم الضغط الدولي، تدخل
الجيش. وإن المناطق الحدودية مع تركيا والأردن ولبنان - حيث يتسرب المرتزقة - تظل
حساسة حتى اليوم. وفي العاصمة، فإن أقصى ما يُخشى هو السيارات المفخخة، والتفجيرات
بالقنابل، وهي في الغالب، من فعل انتحاريين أغوتهم الأموال أو اشتهاء الجنة.
يتوجب
علينا القول والتأكيد بأن الأيدولوجيا المتطرفة هي صناعة أجنبية، وأن سورية لم
تواجه يوماً دائرة التظاهرات والقمع، وهي تتعرض لعملية نسف للاستقرار فيها، على
نحو منظم ودموي، ينفّذه مغامرون ليسوا بسوريين. وإن هذه الحقيقة التي تعارض الصحف
والتحقيقات التلفزيونية، قد بذل سفير فرنسا السابق، السيد "إريك
شوفالييه"، كل ما بوسعه كي ينقلها إلى السيد "آلان جوبيه"، ولكن
الوزير الفرنسي رفض بإصرار أخذ تقاريره بعين الاعتبار، وكان يشوّه دون خجل
تحليلاته، كي يؤجج الحرب على سورية.
إن
قرّائي ليتذكرون جيداً الدعوة التي وجّهها "نقولا ساركوزي" للبطريرك
الماروني، صاحب الغبطة بشارة الراعي، من أجل استقبال مسيحيي لبنان وسورية، في
أوروبا، بعد أن استعلم عن عددهم. فجاءه جواب غبطته، غاضباً وشجاعاً, وقد تولّى فيه
الدفاع عن بشار الأسد، فكان من الرئيس الفرنسي أن سلّمه وسام الشرف الفرنسي، بيد
ممدودة بجفاء، بدل أن يقلده إياه وفقاً للمراسيم الرسمية المتبعة.
وصولي
إلى دمشق
يتنفس
الإنسان في دمشق، هواء يختلف عما يُراد لنا في الأرض كلها، أن نتنفس!
صحيح
أن السيارات المفخخة قد أحدثت منذ أربعة أشهر، في الضواحي، خراباً دامياً. فقد
فجّر العديد من الانتحاريين المتطرفين، أنفسهم، وسط حشد من الضحايا البريئة.
ويُسمع في الليل، أحياناً، تبادل لإطلاق نار. إنه الجيش الذي يسهر على حماية
السكان، والذي يُوفّق غالباً في الحؤول دون اعتداءات قاتلة. وفي هذه الأيام، فُجّر
باصان صغيران، محشوّان بالمتفجرات، في تزامن يخضع لخطة إرهابية باتت كلاسيكية. فقد
أُعدّت الشحنة الأولى لتنفجر بالقرب من نقطة ذات هدف استراتيجي، كي تثير الرعب
وتجلب أكبر عدد من المتدخلين، بحيث تنفجر الشحنة الثانية. وكانت النقطة المستهدفة
هذه المرة، المركز الرئيسي الخاص بمكافحة التجسس، حيث كان قيد الاعتقال الضباط
الأجانب الذين قُبض عليهم وهم يقاتلون، والذين كان السلفيّون يخطّطون لتحريرهم.
ولقد فشلت محاولتهم، إلا أن حصيلتها كانت رهيبة: (130) شهيداً، و(400) جريح، كما
أُلحِق الأذى بعدد مماثل من الشقق السكنية.
إن
الأسى شامل، والحزن لا يوصف، والمآتم الكثيرة تمزّق القلوب. ومع ذلك، ففي هذا
الشهر المكرس لمريم العذراء، امتلأت الكنائس، كلّ مساء، بالورود والمصلين، كما أني
شاهدت المساجد، كل يوم جمعة، مكتظّة بالمصلين. وكانت المروج الخضراء تستقبل
بانتظام جموع العائلات السعيدة باللقاءات في "سيارين" تمتد حتى ساعة
متأخرة من الليل. فإن الشعب السوري شعب بسيط ومرح، وهو يواصل حياته على نحو طبيعي،
على الرغم من فقدان الأمن، والمصاعب الاقتصادية المضنية، الناجمة عن العقوبات
الدولية.
المسيحيون
يعيشون في سلام
يقاسي
المسيحيون مع مواطنيهم القلق العام، ولكنهم يعترفون بصورة تلقائية أنهم لم يشعروا
فيما مضى، بما يشعرون به اليوم من حرية. وهم ينسبون هذا الشعور إلى حقيقة الاعتراف
الكامل بحقوقهم. ولقد أثار أمامي صديق دمشقي، ذكرى جده الذي كان، وفقاً لعادة
مألوفة، قد تبادل الدم السائل من جرح طفيف بيده، مع شيخ مسلم، ليصبحا أخوين بالدم.
ولقد أسرّ لي: "إن أعداء سورية جيّشوا الإخوان المسلمين، بقصد تدمير العلاقات
الأخوية التي كانت دائماً قائمة بين المسلمين والمسيحيين. إلا أنهم، مع ذلك، لم
يحقّقوا غايتهم، بل هم تسبّبوا في ردة فعل معاكسة، وأحدثوا تقارباً أعمق من
السابق، بين الجماعات والأفراد".
وهنا،
دعوني أذكركم بواقعة تاريخية. إن فتح العرب لسورية عام 636، لم يكن قط دامياً. ثم
هل هناك من يعلم أن المسيحيين والمسلمين صلوا معاً طوال سبعين عاماً، في كنيسة
القديس يوحنا المعمدان؟ وعندما أصبحت هذه الكنيسة تضيق بالمصلين، طلب المسلمون أن
يحوّلوها إلى مسجد بني أميّة (عام 705)، وهو الذي ينتزع إعجابنا اليوم. وتعويضاً
للمسيحيين، بنى لهم المسلمون أربع كنائس كبيرة في دمشق.
إن
أول انطباع لي في دمشق، كان عندما وجدتها وفية لذاتها، فشاهدت سحرها القديم،
وأسواقها الزاهية الألوان، والعابقة بروائح التوابل، والصخب المرح في طرقات
المدينة القديمة، فيما حركة السير فيها لا تقل عن حركة السير في القاهرة. وعلى
جنبات بردى المخضرة، كانت المطاعم تكتظ بالزبائن.
وكان
انطباعي الثاني، كرامة هذا الشعب المتواضع، ووداعته: فلا أثر لتسوّل، ولا لاستدرار
الشفقة أو العطف، من قبل فقراء يملؤون المدينة، ويخبّئون بؤسهم خلف جدرانهم
المشقّقة. وإنه ليستحيل هنا على الإنسان أن يرى إنساناً يرقد في الطريق، كما في
باريس.
ميدانيـــــاً
لم
يتدخل الجيش إلا بعد شهور كثيرة على بدء الأحداث. وقد تميّز التمرّد بقسوة بلغت من
الوحشية ما أعاد إلى الذاكرة مذابح عام (1860).
كان
الأتراك يومها أسوأ من سلفيّي اليوم. دعوني أذكّركم ببعض التاريخ. من يتذكر أن عام
1859، ظهر مرض أتى على دودة القزّ، فتلاشت صناعة الحرير في الصين وفرنسا على
السواء! سورية وحدها أفلتت من الكارثة. وكان "البروكار" الذي ابتكرته
عائلة "بولاد"، قد اجتاح العالم. والحال أن صناع الحرير السوريين كانوا
مسيحيين. وكان في ذلك ما يكفي ليدفع الحكومة الفرنسية في عهد نابليون الثالث، كي
تحرض المحتل العثماني على إثارة الأحداث الدامية المعروفة، على يد مسلمين متطرفين،
والاضطهاد الذي حلّ بالمسيحيين، والذي انتهى إلى هجرة جميع صناع الحرير إلى فرنسا،
حيث باعوا منتجاتهم بأسعار بخسة.
صارحني
أحد العسكريين، وهو اليوم في جنوب سورية، أنه صعق عندما وجد نفسه في مواجهة مع
مقاتلين ليسوا بسوريين، بل غرباء. وقد ذكر لي بعض الوقائع التي كان شاهداً عليها،
قال:
"عندما
بدأنا القتال، وجدنا أنفسنا في مواجهة مع ليبيين ولبنانيين، وقطريين وسعوديين،
وبالطبع، مع مقاتلين من القاعدة. وعندما اعتقلنا بعضهم، تبيّن لنا أن الكثيرين
منهم لا يتكلمون العربية: كانوا أفغانيين وفرنسيين وأتراك."
وقد
اعتُقل مئة وعشرون جندياً فرنسياً بين الزبداني وبلودان، بالقرب من الحدود
اللبنانية، وكانوا متخصصين في أجهزة الاتصال المتطورة. وهنا (42) جنرالاً تركياً
معتقلاً، تطالب بهم الحكومة التركية رسمياً. والكل هنا يتوقع اعترافات من شأنها أن
تسبب حرجاً كبيراً لدول كثيرة.
وقال
لي:
"من
هؤلاء الأجانب، عدد كبير لم يكونوا يعرفون أين هم. فبعض الليبيين كانوا قد عبروا
من الجولان، بالقرب من الحدود الإسرائيلية، كي يشاهدوا العلم الإسرائيلي، ويقنعوهم
بأنهم في الطريق إلى غزة، حيث سيقاتلون مع إخوانهم المسلمين… وقد اعتقل في حمص
ليبي، كان يعتقد أنه في العراق ليقاتل الأميركيين.
وبالقرب
من الحدود الإسرائيلية، ضبطت سيارات محشوّة بالمتفجرات. وهذا مثال من أمثلة كثيرة
على التدخلات المتلاحقة لمجموعات مقاتلة تجتاز كل يوم الحدود الأردنية
والإسرائيلية واللبنانية والتركية.
تذكير
بأحداث راهنة
يذكر
الجميع أن سكان حمص ظلوا طوال ثمانية أشهر يطلبون تدخل الجيش، الذي كان يخشى المس
بالسكان المدنيين.
إن
معارضي النظام، بعد أن حاولوا عبثاً إنشاء قاعدة لهم في درعا (بالقرب من الحدود
الأردنية)، ثم في إدلب (بالقرب من الحدود التركية)، وقد طُردوا منهما كليهما،
اختاروا حمص لدنوها من لبنان، لتكون قاعدة شاملة لهم. فلم تعد تحصى التجاوزات
والجرائم التي بلغت درجة من الوحشية، غريبة عن السلوك السوري.
ما
وراء الأحداث
كان
ضباط فرنسيون قد أقاموا غرفة عملياتهم، في فيلا تقع في إحدى ضواحي حمص، بعد أن
طردوا منها سكانها. وليُسمح لي بالتذكير بأحداث حمص، كما عرضها الإعلام الفرنسي
والعالمي، بما يجلب العار على بشار الأسد.
في
9/2/2012، بعد استنفاد جميع وسائل الوساطة، هاجم الجيشُ النظامي "الجيشَ
السوريَ الحر"، الذي كان قد استولى على حي "بابا عمرو"، واعتبر
سكانه بمثابة رهائن. وما لم تذكره الصحافة الفرنسية، هو أن ستة عشر ضابطاً فرنسياً
قد اعتقلوا خلال العملية، وكلهم عملاء مخابرات كانوا ينقلون للمتمردين خبرتهم في
قتال الشوارع.
قال
لي مضيفي: "قبل بدء الأحداث، ما كان ليخطر ببال أحد أن يتباهى بانتمائه
الديني. كنا نعيش جميعاً، دون أن يعرف أحدنا الديانة التي يعتنقها الآخر. كنا
سوريين، وكان هذا هو تعريفنا. كل شيء بدأ عام 2011، وأخذنا نبدي الاهتمام بهذا
الأمر".
ربيع
سوري
يسود
السوريّين شعور بأن نهضةً ستعقب الأحداث الراهنة. طالما أن أعداءهم مجتمعين لم
يحققوا من نتائج سوى أعمال تدمير جزئية، والتفاف السوريين حول رئيسهم. وإن أعمال
الانتحاريين الأخيرة، لتبدو لهم وكأنها الذيول الختامية للحرب.
تحت
أسوار دمشق، استولى السيد المسيح، على القديس بولس. لم يحدث ذلك لا في أورشليم ولا
في مكان آخر.
في
عام 2001، في حي الصوفانية المتواضع، الذي بدأت العذراء مريم، ظهوراتها فيه قبل
عشرين عاماً، قال لهم يسوع: "إن أياماً صعبة آتية… ولكن لا تخافوا، أنا
معكم". وكانت رسالة يسوع الأخيرة تقول (عام 2004):
"من
هنا انبثق نور من جديد، أنتم شعاعه لعالم أغوته المادة والشهوة والشهرة، حتى كاد
أن يفقد القيم. أما أنتم، حافظوا على شرقيتكم".
أوتكون
أم الرب وابنها، لم يقوما بزيارتهما لأولادهما، إلا ليتخليا عنهم؟
إن
عبارة "شرقيتكم"، ألا تراها تعبّر عن طبيعة العيش التاريخي الذي قام
دائماً بين المسلمين والمسيحيين؟ والجميع يعرف أن مسجد بني أمية يحوي هامة القديس
يوحنا المعمدان، التي يكرمها المسيحيون والمسلمون جنباً إلى جنب. وهل هناك من يعلم
أن أيقونة سيدة الصوفانية العجائبية، قد جُلبت من قازان (روسيا) حيث يكرّم
المسلمون والمسيحيون منذ القديم، أيقونة سيدة قازان العجائبية؟ أفلا يمكن أن يكون
النور الذي غمر دمشق في بدء العهد المسيحي، قد عاد للانبثاق منها؟
دمشق
20/5/2012
الأب "فيليب
تورنيول دوكلو"
الأب
الياس زحلاوي. الأزمنة 312 - 30/6/2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق