الجمعة، 28 فبراير 2014

الحلال والحرام


"الحلال والحرام" مقالة كتبها المفكر السوري برهان بخاري (تغمده الله بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته)، ونشرتها صحيفة تشرين الصادرة في دمشق بتاريخ 18/2/1996. وذكر فيها:



إذا لم تكن كلمتا الحلال والحرام من أكثر الكلمات شيوعاً على ألسنة الناس فإنهما من أكثر الكلمات أهمية وخطورة، خاصة حين يصل الأمر إلى حد استحلال دم فرد أو جماعة، ومع ذلك فإن نسبة تكرارهما في القرآن الكريم قليلة نسبياً فكلمة "حرام" مثلاً وردت 25 مرة، استخدمت فيها 15 مرة كصفة للمسجد بصيغة "المسجد الحرام".
ومع تطور الحياة والتعقيدات التي ترافق عادة مثل هذا التطور ازدادت حاجة الإنسان إلى مختلف أنواع الفتاوى التي تشمل كل صغيرة وكبيرة، الأمر الذي أدى بدوره إلى أن يتسع نطاق من يتطوعون للإدلاء بدلوهم في هذا الأمر الخطير، وأن تدرج تعابير مثل "على ذمة فلان"، أو أن يقال مثلاً عن شخص ما "ذمته واسعه" حين يستسهل الأمور ويفتي على "الطالعة والنازلة" دون أدنى مراجعة أو تمحيص، وهكذا أطلقت صفة الحرام على أشياء مختلفة (التلفزيون - السينما - لعب الشطرنج - لعب الورق - التدخين - قص الأظافر في الليل - الغسيل في بعض الأيام...) دونما تفكير حتى باستخدام كلمة "مكروه" كبديل لكلمة "حرام".
وفي رأيي أن استسهال استخدام هاتين المفردتين الخطيرتين ودون أدنى شعور بالمسؤولية ناجم عن عدة عوامل أهمها الدلالات المختلفة التي اكتسبتهما هاتان المفردتان - في الأوساط العوامية بخاصة - فتعبير مثل "حلال على الشاطر" يرينا المدى الذي ذهبت إليه الدلالة في خرق كل القيم والأخلاق، كما أن تعبيراً مثل "حرام عليك" - خاصة حين يستخدم في الأغاني التي تتحدث عن اللوعة في الحب - يكشف الدرجة التي وصل إليها الاختلاط في الدلالات، والذي جعل الكلمات الخطيرة مبذولة ومبتذلة على كل شفة ولسان.
يبقى غياب الموسوعات الشاملة القادرة على الإجابة عن كل صغيرة وكبيرة في أمور الدين، والمعدة بأسلوب جماعي لا يرقى إليه الشك، أحد أخطر الأسباب وراء استمرار حالة الفوضى والاضطراب والجهل.
وأثناء العمل في الموسوعة الشاملة للحديث النبوي الشريف وقعنا على عدد لا يستهان به من الأحاديث الموضوعة اتفاقاً، وتساءلت عندها ترى ما عدد الأحاديث الموضوعة السائرة على ألسنة الناس؟ وما حجم الخرافات الدائرة في عقولهم، والتي يبنون عليها حلالهم وحرامهم؟
وإذا كنا قد وقعنا في التراث المكتوب على مئات الأحاديث الموضوعة، فما عدد هذا النوع من الأحاديث في التراث الشفوي الذي يبثه "دعاة" دون مراقبة المرجعيات الدينية من كافة المذاهب؟
لقد أصبح التنطع للتدريس والفتوى والإرشاد مباحاً مع الأسف لكل من حفظ شيئاً يسيراً، وإن غابت عنه أشياء كثيرة، وصار أمراً ميسوراً لكل من أوتي بعض الفصاحة أو الحجة على الإقناع أن يجلس للتدريس والفتوى ولو بحدود بعض الأهل والأصدقاء والتلاميذ، ولا مناص أخيراً من أن يهب العقلاء والغيارى لوضع حد لهذه الظاهرة الخطيرة، ومواجهتها بما تستحقه من جدية تامة، وشعور كامل بالمسئولية. أذكر في مأتم بعض الأقرباء أن امرأة كانت تلقي الوعظ وهي أمية، ولما استغرب بعضهن ذلك أجابت: لست بحاجة إلى العلم فـ "القرآن إمامي" - مع ملاحظة تبديل حرف القاف بالكاف على عادة العوام - فبهت الجميع، ولم يحيروا جواباً، لكن إحدى القريبات الواعيات، مع أنها كانت شبه أمية، زجرتها في اليوم التالي قائلة: "إن كان عندك حديث نافع فقوليه، الدين ليس حديثاً عن عذاب القبر فقط، لقد جعلت النوم يهرب من أعين البنات وأنت تحدثيهن عن العقارب والأفاعي وكل ما تقشعر له الأبدان".
هذا هو الحال مع الأسف، مبالغات حول عذاب القبر، يتبعها نوع من الاستلاب، دونما إفساح لأي مجال للدور الحضاري والإنساني والفكري والاجتماعي للإسلام، بل قصص لا تنتهي ملأى بالخرافات والخزعبلات، يتبعها فاصل من النميمة لا ينقضي، والأنكى من ذلك كله أن مراسم الحداد يقررها بعض"الشيخات" ضمن طقس ديني (البنت العزباء لباس أسود لسنة، والمتزوجة لباس أزرق لأربعة أشهر، والكنة الصغيرة لباس أزرق للأربعين... إلخ)، مع أن رأي الإسلام واضح ومعروف بأنه لا يجوز الحداد لأكثر من ثلاثة أيام إلا على زوج.
وفي رأيي أن قضية المرأة والتدين بحاجة إلى مراجعة شاملة وعلى مختلف الصعد، ولا بد من التصدي لهذا الأمر الخطير بموضوعية ومنطق وشجاعة، وبما أننا نعيش في مجتمعات يعصف بها التخلف، وبما أن المرأة تعاني في الأصل من تخلف تاريخي مزمن فمن السهل تصور الحال الذي تعيشه المرأة اليوم.
سمعت عشرات القصص عما يدور من خرافات في الأوساط النسائية، وبات الأمر معروفاً على نطاق واسع، ومع أن بعض القصص صارت تزكم الأنوف إلا أن الأمر ما زال يجري مع الأسف الشديد بنوع من التسيب الذي لا ضابط له، وإذا احتاج الأمر فسنسمي الأمور بمسمياتها دون تردد.
صحيح أن هناك بعض النوايا الحسنة والجهود الصادقة لإشاعة الوعي الديني لكن ما هو حجمها بالنسبة لهذا التيار الكاسح؟ وهل نترك نساءنا وبناتنا فريسة للصدفة ولمن هب ودب؟ ألا يترتب على العائلة نوع من المسؤولية الجماعية توجب مشاركة جميع أفرادها في معالجة مسألة الوعي الديني؟
ولو تناولنا مسألة "الحجاب" والتي هي قضية الساعة بالنسبة للمرأة الآن، وحاولنا أن ننظر إليها من جوانب أخرى، فما الذي يمكن أن نخرج به ؟ من المعروف أن قسماً لا يستهان به من السافرات يؤدين مختلف الفروض الدينية من صلاة وصيام وحج وزكاة، فهل ننفي عنهن صفة التدين لكونهن سافرات؟ وهل الإسلام حكر على المحجبات فقط؟ وهل جميع المحجبات هن مسلمات حقيقيات ويؤدين جميع الفروض؟ وهل الإسلام كعقيدة وفكر وأخلاق وحضارة وعبادات ومعاملات متوقف عند "الحجاب" فقط؟ ومن منا يتصف بالكمال في دينه؟
ولماذا لا يتم التشديد على الزكاة - والتي هي ركن من أركان الإسلم - بالدرجة التي يتم فيها التشديد على الحجاب مع أنه ليس من الأركان؟ ولماذا لا تنصح المدججات بمختلف أنواع الحلي من أقراط وعقود وخواتم وأساور بالتخفف من بعض أثقالهن رأفة بمشاعر الفقراء، أو على الأقل الحض الدائم على وجوب دفع ما يتوجب من زكاة حقيقية عن هذه الأحمال من الذهب والفضة والماس ومختلف أنواع الجواهر؟
لقد تأثرت جداً ببعض الحوارات الهامة التي جرت بيني وبين عدد من الأخوات المحجبات حول موسوعة الحديث، وذلك حين لمست وراء الحوار شخصيات إسلامية متميزة عميقة التفكير والثقافة، وتدعو إلى الإسلام في مختلف الأوساط حتى الأجنبية منها بمنطق ووعي، وكان تحجبهن سمة راقية ومحتشمة فعلاً، تسبغ عليهن نوعاً من الوقار، وتعكس شكلاً من الخصوصية المتميزة، كما شاهدنا أيضاً بعض هؤلاء المحجبات في التلفزيون يتحدثن بثقة بالعربية وبلغات أجنبية، ولكن ألم يتحول الحجاب عند بعض الشرائح - نتيجة الجهل والعوامية - إلى حجاب للعقل نفسه؟ ألم يطرح "الحجاب" عند مثل هذه الشرائح كبوابة وحيدة للدخول إلى الدين ؟
وإلى الذين ما زالوا يستمرءون الحديث حول الحلال والحرام نقول: عقد "ابن عدي" ( ت 365 هـ) فصلاً كاملاً في كتابه "الكامل في الضعفاء" أظهر فيه مدى تورع الصحابة والتابعين وتشددهم في عدم الرواية عن الرسول (ص)، أو الإدلاء بأي فتوى. ولعل ما قاله "الذهبي" (ت 748 هـ)، والذي يعتبر من أهم العلماء، يلقي بعض الأضواء الهامة على الفوضى السائدة الآن، حيث يقول: " أن أبا هريرة كان يقول: إني لأحدث أحاديث، لو تكلمت بها في زمن عمر، لشج رأسي. قلت: هكذا هو كان عمر رضي الله عنه يقول: أقلوا الحديث عن رسول الله (ص). وزجر غير واحد من الصحابة عن بث الحديث؛ وهذا مذهب لعمر ولغيره.
فبالله عليك، إذا كان الإكثار من الحديث في دولة عمر، كانوا يُمنعون منه، مع صدقهم وعدالتهم وعدم الأسانيد، بل هو غض لم يشب؛
فما ظنك بالإكثار من رواية الغرائب والمناكير في زماننا مع طول الأسانيد، وكثرة الوهم والغلط، فبالحري أن نزجر القوم عنه؛
فيا ليتهم يقتصرون على رواية الغريب والضعيف، بل يروون - والله - الموضوعات والأباطيل، والمستحيل في الأصول والفروع، والملاحم والزهد. نسأل الله العافية؛
فمن روى ذلك مع علمه ببطلانه، وغر المؤمنين، فهذا ظالم لنفسه، جان على السنن والآثار، يستتاب من ذلك؛
فإن أناب وأقصر، وإلا فهو فاسق؛
كفى به إثماً أن يحدث بكل ما سمع. وإن هو لم يعلم، فليتورع، وليستعن بمن يعينه على تنقية مروياته. نسأل الله العافية؛
فلقد عم البلاء، وشملت الغفلة، ودخل الداخل على المحدثين الذين يركن إليهم المسلمون؛
فلا عتبى على الفقهاء وأهل المكارم". 2/601 سير أعلام النبلاء ولقد سبق "الذهبي" إلى التنبيه إلى هذا الأمر الخطير عدد من العلماء، راجع مثلاً مقدمة كتاب الكفاية في علم الرواية لـ"الخطيب البغدادي" (ت 463)، ومع ذلك فإن الأمر لا زال يستشري ويزداد سوءاً وتردياً، فالخرافات تتكاثر كالآفات، والأحاديث التي ما أنزل الله بها من سلطان دائرة على ألسنة الناس، والجزم بالحلال والحرام ما زال يجري بنوع من الرخص الشديد، بعيد عن أي تمحيص أو ورع، وأعتقد أنه آن الأوان أن تجري مراجعة شاملة لمثل هذه الأمور الخطيرة، وأن يشارك فيها أكبر عدد ممكن من الناس، إذا كنا نسعى فعلاً إلى "صحوة إسلامية حقيقية".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق