العلاقات الدولية المعاصرة والتبادل الإعلامي
طشقند 2008
وفي القارة الأوروبية أنشأت إيطاليا وكالة أنباء (ANSA): على أنقاض وكالة أنباء Stefani التي عملت دون انقطاع من عام 1853 حتى هزيمة الفاشية في الحرب العالمية الثانية. وفي 13/1/1945 بدأت أنسا عملها كشركة تعاونية ذات مسؤولية محدودة، تضم كافة الصحف الإيطالية اليومية.
وفي القارة الإفريقية تعد وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية MENA أول وكالة أنباء في مصر ومنطقة الشرق الأوسط والقارة الإفريقية، أنشأت عام 1956 كشركة مساهمة تمتلكها الصحف المصرية مناصفة مع الدولة، وانتقلت ملكيتها بالكامل عام 1962 إلى الدولة وأصبحت إحدى الشركات التابعة لاتحاد الإذاعة والتلفزيون، ومن ثم انتقلت ملكيتها إلى مجلس الشورى المصري عام 1978. وللوكالة مكتبين رئيسيين في القاهرة وباريس، ويعمل فيها 1067 موظفاً منهم 390 صحفياً، وتبث الوكالة يومياً: نشرة أنباء الشرق الأوسط باللغة العربية بنحو 57 ألف كلمة تقريباً؛ ونشرة أنباء الشرق الأوسط باللغتين الإنكليزية والفرنسية بنحو 23.800 كلمة تقريباً؛ والنشرة الدولية الخاصة بنحو 13.260 كلمة تقريباً؛ والنشرة الاقتصادية بنحو 17.930 كلمة تقريباً. كما وتبث التحقيقات والصور للمشتركين في داخل مصر وخارجها، وللوكالة 4 مكاتب و21 مراسلاً داخل مصر، و30 مكتباً ومراسلاً في العواصم العالمية. وتتبادل الوكالة الأنباء والصور مع 25 وكالة أنباء عربية وأجنبية، ولها إسهام في تطوير التعاون الإعلامي بين الدول العربية والإفريقية. وتسهم في تدريب الكوادر الإعلامية للدول العربية والصديقة عن طريق دورات تدريبية منتظمة في مجال التحرير والإدارة والهندسة الإعلامية، وتقيم علاقات تعاون مع وكالات الأنباء العالمية ووكالات الأنباء العربية ووكالات أنباء دول عدم الانحياز ووكالات الأنباء الإفريقية عن طريق الاتفاقيات الثنائية، وهي وكالة الأنباء الوحيدة في العالم الثالث التي تسمح بتدفق الأنباء محلياً إلى وسائل الإعلام الجماهيرية المصرية من خلال كافة وكالات الأنباء مباشرة ودون تدخل أو وصاية منها كوكالة وطنية في مصر. وقد دخلت وكالة أنباء الشرق الأوسط عالم الكمبيوتر منذ عام 1990، وبدأت باستخدام الأقمار الصناعية في نقل الأخبار اعتباراً من 25/10/1994.
ووكالة المغرب العربي للأنباء هي الوكالة الوطنية للأنباء في المملكة المغربية، أسست في نوفمبر/تشرين ثاني علم 1959، ثم تحولت إلى مؤسسة عامة في 19/9/1973 مقرها الرئيسي في العاصمة الرباط، ولها ثمانية مكاتب إقليمية في المدن الرئيسية، وسبعة عشر مكتباً دولياً في أفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وتضم الوكالة أربعة أقسام هي: قسم الإعلان؛ قسم الشؤون المالية والإدارية؛ القسم الفني؛ قسم العلاقات الخارجية. وتصدر الوكالة نشرتين يومياً، ونشرة دورية.
وتأسست الوكالة الموريتانية للإعلام AMT عام 1966، ومقرها نواكشوط العاصمة تحت إشراف وزارة الثقافة والإعلام والبريد والمواصلات. وبالإضافة لوكالة الأنباء الوطنية تعمل في موريتانيا الوكالات الأجنبية التالية: وكالة الأنباء الفرنسية، ووكالة أنباء الصين الجديدة "شينخوا".
ومع تأميم الصحافة السودانية عام 1970، أنشأت الحكومة وكالة الأنباء السودانية (سونا)، لتعمل على التحكم بتدفق الأخبار داخلياً وخارجياً. وبعد صدور قانون وكالة الأنباء السودانية عام 1981، بدأت الوكالة بالابتعاد عن وزارة الثقافة والإعلام لتصبح هيكلاً مستقلاً ومتكاملاً، حتى غدت واحدة من أقوى وكالات الأنباء في القارة الأفريقية بفضل خدماتها المتطورة، حتى أن وكالة أنباء عموم أفريقيا "PANA" اختارتها مركزاً لها في شرق أفريقيا عام 1985. وبصدور القانون الجديد أصبحت وكالة الأنباء السودانية وكالة وطنية تزود عدد كبير من وكالات الأنباء بالأخبار عبر اتحاد وكالات الأنباء العربية "FANA"، ووكالة عموم إفريقيا "PANA"، ووكالات دول عدم الانحياز. وفي عام 1985 تأسست الوكالة السودانية للصحافة التي يملكها صحفيين ومقرها الخرطوم. كما وتعمل في السودان وكالة الأنباء الفرنسية AFP؛ ووكالة أنباء الصين الجديدة شينخوا؛ ووكالة أنباء الشرق الأوسط.
وهناك تجمعات لوكالات الأنباء تأخذ إما طابعاً إقليمياً أو قارياً أو منحى سياسياً معيناً أو تخصصاً، مثال: إتحاد وكالات الأنباء الأوروبية الذي يضم أكثر من 16 بلداً أوروبياً؛ وإتحاد وكالات الأنباء العربية الذي يضم وكالات أنباء الدول العربية؛ وإتحاد وكالات الأنباء الإفريقية الذي يضم وكالات أنباء الدول الإفريقية؛ وإتحاد وكالات الأنباء الأسيوية، ...وغيرها من التكتلات والتجمعات.
وهناك وكالات متخصصة تقدم خدمات في موضوع معين ديني أو رياضي أو فني....الخ، أو مواد إعلامية جاهزة للنشر، أو صور صحفية، مثال: وكالة فيدس في الفاتيكان؛ ووكالة الأنباء الإسلامية؛ ووكالة جويس تلغرافيك؛ ووكالة كيوسنون؛ ووكالة أجيب؛ ووكالة دلماس؛ ووكالة إنتربريس؛ ووكالة فاما؛ وتعتبر وكالة أوبيرا ماندي التي تمثل في أوروبا مصالح: King's Features Syndicate americain، من أقدم الوكالات الصحفية المتخصصة في تقديم النصوص الصحفية الجاهزة في العالم، أنشأها بول وينلكار عام 1928، لتوزع المقالات بلغات العالم المختلفة عن الأحداث الهامة، ومقالات عن الشخصيات الكبيرة في العالم، وريبورتاجات مصورة. وتتميز هذه الوكالات بفهمها العميق لأذواق الجمهور وميوله العلمية، والاقتصادية، والثقافية، والفنية.
وفي الختام لابد من التأكيد على ملاحظة هامة وهي أن معظم وكالات الأنباء الوطنية في دول العالم كما هي الحال في الدول النامية تخضع تماماً لسلطة القانون في تلك الدول، بالإضافة لخضوعها للرقابة الصارمة من قبل الدولة التي تمارس نشاطاتها الإعلامية داخلها، وهو ما يستدعي التفكير جدياً في ما تدعيه بعض الجهات العالمية لنفسها من ديمقراطية وحرية كلمة وحرية التصرف واتهامها لبعض الدول وخاصة الدول النامية التي تحاول الخروج من دائرة تأثير تلك الجهات بغياب الديمقراطية وحرية الإعلام وكأن تلك الدول تعيش دون قوانين ناظمة لشؤون الإعلام في بلادها.
العلاقات الدولية في ظروف الثورة المعلوماتية: العولمة والثورة المعلوماتية أصبحت في الآونة الأخيرة من أهم المواضيع حساسية في إطار الحوار الدولي الجاري لتحليل تأثيرات الثورة المعلوماتية المختلفة وطرق التحكم بتطور الأحداث على الساحة الدولية. ويجري هذا في الوقت الذي يشكك فيه البعض بإيجابيات العولمة على الجوانب المالية والاقتصادية، والسياسية، والثقافية والأيديولوجية والإعلامية والاتصالية في العلاقات الدولية المعاصرة. في الوقت الذي يصور صندوق النقد الدولي العولمة بأنها: "مستوى متصاعد من التكامل الحثيث للأسواق السلعية والخدمية ورؤوس الأموال". وأشار ي.س. إيفانوف وزير الخارجية الروسي في كتابه "السياسة الخارجية الروسية في عصر العولمة" إلى بعض العناصر الرئيسية لعملية العولمة، السياسية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية وحاول تحليلها من وجهة النظر الروسية، وذكر أنها فجرت الحياة الحضارية وغيرت صورة الإنسانية.
بينما يعتبر أكثر المتخصصين أن مصطلح "العولمة" يعني مرحلة حديثة من التطور الرأسمالي الدولي، أو أنها تمثل المرحلة الأخيرة للإمبريالية. والتعريف الأكثر وضوحاً جاء على لسان الأكاديمي الروسي المعروف أ.ي. أوتكين الذي قال أن "العولمة فرضت نفسها بعد انتهاء الحرب الباردة، وأفرزت نظاماً عالمياً يوحد الاقتصادات الوطنية لدول العالم ويجعلها تعتمد على حرية تنقل رؤوس الأموال، والاعتماد على الانفتاح الإعلامي الدولي، وعلى التجدد السريع للتكنولوجيا، وتخفيض الحواجز الجمركية وإطلاق حركة البضائع ورؤوس الأموال، وزيادة التقارب الاتصالي بين الدول الذي هو من ميزات الثورة العلمية التي ترافقها حركة اجتماعية دولية أصبحت تستخدم أشكال جديدة من وسائل النقل وتكنولوجيا الاتصال المرئية، وخلقت نوعاً من التعليم الأممي".
ولكن الآراء اختلفت عند التحدث عن بدايات العولمة فالبعض يعتبر بداياتها من عصر الفاتحين الغربيين الأوائل أمثال: ماركو بولو، وماجيلان، وكولومبوس. في الوقت الذي يعتبر البعض الآخر أن نصف العالم كان معولماً منذ العصر الروماني القديم، وعصر الإسكندر المقدوني، وعصر جينغيز خان، متجاهلين تماماً العولمة التي نتجت عما قدمته الحضارة العربية والإسلامية للإنسانية في عصر ازدهارها عندما كانت أوروبا تسبح في غياهب الظلمات. بينما اعتبر بعض الباحثين أن التاريخ المعاصر كان المرحلة الأولى للعولمة، وتلتها المرحلة الثانية التي نعيشها اليوم. ويقولون بأن الأولى بدأت خلال المرحلة الانتقالية التي امتدت خلال القرنين التاسع عشر، والقرن العشرين أي فترة حروب التوسع الاستعمارية الغربية التي اجتاحت قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، والحربين العالميتين الأولى والثانية وما رافقهما من منجزات تكنولوجية وعلمية حديثة سرعان ما تطورت بشكل هائل أثر مباشرة في الاقتصاد الوطني والدولي، ورافقه ظهور وسائل اتصال جماهيرية متطورة دخلت عالم التجارة العالمية، وانتقال رؤوس الأموال والأشخاص بشكل واسع. وأدت إلى تشابك المصالح الاقتصادية والتجارية الداخلية والخارجية لتصبح معها المصالح المتبادلة بين الدول الكبرى الأهم وتبعد معها خطر الحروب بين تلك الدول حتى تصبح شبه مستحيلة. ولم ينسوا طبعاً الإشارة إلى أن ذلك التوجه لم يستطع إبعاد شبح الحرب وأشعل نيران حربين عالميتين خلال أقل من نصف قرن هي: الحرب العالمية الأولى التي انتهت بالقضاء على الدولة العثمانية وتثبيت السيطرة الاستعمارية واقتسام معظم مناطق العالم. والحرب العالمية الثانية، التي استخدمت فيها الولايات المتحدة الأمريكية ولأول مرة القنبلة الذرية أشد أسلحة الدمار الشامل فتكاً مرتين وبشكل متعمد ضد الشعب الياباني، ولم تستطع أية علاقات اقتصادية أو تجارية منعها بل على العكس كانت سبباً لها.
واعتبر بعض الباحثين أن الأرضية التي انطلقت منها المرحلة الثانية للعولمة كانت العقود الأخيرة من القرن العشرين، عندما أشاعوا أن المسيرة نحو العولمة بدأت في الغرب. وكانت في البداية تستخدم كمصطلح "الترابط المشترك"، ولكن الحركة الفعلية باتجاهها بدأت بالفعل مع حملات العلاقات العامة الدولية خلال أربعينات وخمسينات القرن العشرين، لتبدو العولمة وكأنه مخطط لها ودخلت حيز التنفيذ من قبل الأوساط المهيمنة في عالم المال والاقتصاد في الدول الغربية وحكومات تلك الدول والبنك الدولي للإنشاء والتنمية، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. وأصبحت بعض إيجابيات التطور الإنساني في ظروف العولمة مرئية حتى لضيقي الأفق، وأدت إلى ارتفاع المستوى المعيشي للناس، ووفرت وسائل اتصال وإعلام دولية تجتاز الحدود السياسية للدول بسهولة بالغة. وحققت لبعض الدول قفزات اقتصادية متقدمة كما حدث في دول آسيان "النمور الآسيوية" وشملت جنوب كوريا، وسنغافورة، وماليزيا وغيرها من الدول الآسيوية، وأصبحت الهند منتجة للصناعات الإلكترونية الغربية، وتحولت إلى واحدة من كبار مصدري المنتجات الإلكترونية وبرامج الكمبيوتر إلى العالم. وأدت العولمة بالتدريج إلى نمو حركة تدفق رؤوس الأموال حتى أصبح حجم التعامل المالي الدولي اليومي يبلغ حوالي 1.5 تريليون دولار أمريكي لتصبح عبارة "التصدير يحكم العالم" حقيقة ملموسة. فمع بدايات خمسينات القرن الماضي كانت الصادرات العالمية تقدر بـ 53 مليار دولار أمريكي، أما اليوم فتشير بعض المراجع إلى أنه بلغ حوالي 7 تريليون دولار أمريكي. وأخذت تظهر جزر كاملة للتكنولوجيا المتطورة في الدول النامية كـ: سان باولو في البرازيل، والشريط الحدودي من مصانع التجميع في شمال المكسيك، ومدن كاملة في الهند، وكل تايوان وغيرها من الدول.
وسهلت العولمة انتقال القوى العاملة والسياح، إذ تشير معطيات البنك الدولي إلى أن العمال المهاجرين يحولون من الدول الغنية التي تستخدمهم إلى أسرهم في الدول الفقيرة حوالي 70 مليار دولار أمريكي في السنة، وهذا الرقم يفوق بكثير الأرقام الرسمية للمساعدات التي تمنحها الدول المتطورة للدول النامية، وأن مئات الآلاف من العائلات تعيش معتمدة على تلك الأموال ولا تعرف أي شيء عن مصطلح "العولمة". وأن تطور السياحة الدولية يعتبر من الظواهر الإيجابية للعولمة حيث وصل عدد السياح في العالم إلى 500 مليون سائح في السنة. وأن الإنسان العادي يصطدم يومياً في حياته اليومية العادية بمظاهر العولمة بكل أشكالها من شراء البضائع، ومشاهدة البرامج التلفزيونية، واستعمال أجهزة الاتصال المحمولة، وغيرها. حتى أن البعض أصبحوا يقولون أن العولمة وفرت السبل من أجل مشاركة عشرات الدول والشعوب بالتقدم المالي والاقتصادي والعلمي المشترك.
وحتى الآن لم تعلن أية دولة في خطها السياسي الرسمي على الأقل معاداتها للعولمة، وأن الجميع يتقبلون العولمة كمؤشر إيجابي ولكن بوجهات نظر متفاوتة.
العولمة والتبادل الإعلامي الدولي: تحمل العولمة معنى "جعل الشيء على مستوى عالمي، أي نقله من حيز المحدود إلى آفاق "اللامحدود". واللامحدود هنا يعني العالم كله، فيكون إطار الحركة والتعامل والتبادل والتفاعل على اختلاف صوره السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، متجاوزاً الحدود السياسية والجغرافية المعروفة لدول العالم، وهذا المعنى يطرح "العولمة" ضمناً موضوع مستقبل الدولة القومية وحدود سيادتها، ودورها سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي". بينما عرف المفهوم الأمريكي العولمة بـ"تعميم نمط من الأنماط الفكرية والسياسية والاقتصادية لجماعة معينة، أو نطاق معين، أو أمة معينة على الجميع، أو العالم كله". وبما أن "العولمة" بدأت أساساً من الولايات المتحدة الأمريكية، فقد جاءت نظرياً كدعوة لتبني النموذج الأمريكي في الاقتصاد والسياسة والثقافة وبالتالي طريقة الحياة بشكل عام. وجاءت العولمة أساساً كنتاج للثورة العلمية والتكنولوجية، التي كانت في العصر الحاضر بمثابة نقلة نوعية في تطور الرأسمالية العالمية، في مرحلة ما بعد الثورة الصناعية التي ظهرت مع منتصف القرن 18 في أوروبا، نتيجة لاستخدام الطاقة، وغيرت بشكل جذري أسلوب وعلاقات الإنتاج، لتبدأ معها مرحلة جديدة من مراحل التطور الإنساني، اتصف بالتوسع الاقتصادي، والبحث عن الموارد الطبيعية، وفتح الأسواق العالمية. وكانت من مسببات ظهور الاستعمار التقليدي، وقيام الحروب الأوروبية لتلبية حاجات الرأسمالية الصاعدة. ومما سارع في شيوع "العولمة" استمرار التطور العلمي والتكنولوجي، وما رافقه من تطور هائل لوسائل الاتصال وجمع ونقل المعلومات الحديثة، التي شكلت بدورها تجديداً لنمط وطبيعة الإنتاج والتفاعلات والتعاملات الدولية. ولم تعد الحروب وسيلة لحسم الخلافات بين الدول الرأسمالية، بل أصبحت الحاجة ملحة لتوحيد أسواق الدول الصناعية المتقدمة من خلال سوق عالمية واحدة، أي ضرورة تجاوز الحدود الجغرافية والسياسية القومية المعروفة، وإعادة توزيع الدخل، والعمل على رفع المستوى المعيشي للإنسان ليمكن معه توسيع سوق الدول الصناعية المتقدمة، لاستيعاب المنتجات الحديثة، أي خلق "مجتمع استهلاكي كبير. وشكلت هذه السمات نقطة التحول من "الرأسمالية القومية" إلى "الرأسمالية العابرة للقوميات"، التي ارتبط فيها ظهور مفهوم "العولمة" الذي عبر عن ظاهرة اتساع مجال الإنتاج والتجارة، ليشمل السوق العالمية بأسرها. وتجاوز الفاعلية الاقتصادية التي كانت لمالكي رؤوس الأموال، من تجار وصناعيين، الذين كانت تصرفاتهم محكومة في السابق بحدود الدولة القومية التي ينتمون إليها، لتصبح الفاعلية الاقتصادية مرهونة بالمجموعات المالية والصناعية الحرة، المدعومة من دولها، عبر الشركات متعددة الجنسيات، وهكذا لم تعد الدولة القومية هي المحرك الرئيسي للفاعلية الاقتصادية على المستوى العالمي، بل حل مكانها القطاع الخاص بالدرجة الأولى في مجالات الإنتاج والتسويق والمنافسة العالمية. و"العولمة" ليست نظاماً اقتصادياً فقط، بل تعدته إلى كافة مجالات الحياة السياسية والثقافية والعلمية والإعلامية، لأن النمو الاقتصادي الرأسمالي العالمي استلزم وجود أسواق حرة، ووجود أنظمة سياسية من شكل معين لإدارة الحكم. وكما تعددت مراكز القوة الاقتصادية العالمية في الرأسمالية العالمية الحديثة، وتعددت معها مراكز القوى السياسية، حتى أنها خلقت بدائل وتعددية في القوى على مستوى السلطة، وهو ما دعم إمكانيات التطور الديمقراطي بكل شروطه، من عدم احتكار السلطة، وتداولها، وتعدد وتنوع مراكز القوى والنفوذ في المجتمع، ومنع تركيز الثروة في يد الدولة وحدها، محققاً نوعاً من اللامركزية في الإدارة.
ومما ساعد على الانتشار السريع للعولمة انتصار الرأسمالية على الأنظمة الأخرى، من نازية وفاشية وشيوعية بانهيار الإتحاد السوفييتي السابق، لتحل محله جمهوريات مستقلة، وسقوط النظم الشمولية في أوروبا الشرقية، وتحول الأنظمة الجديدة في تلك الدول نحو أشكال ديمقراطية للحكم ارتبط جوهرها بالتطور الديمقراطي والنمط الرأسمالي، يعتمد على الديمقراطية في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وأتاح الاتصال المباشر عبر القارات من خلال شبكات الاتصال العالمية ومحطات الإذاعة والتلفزيون عبر الأقمار الصناعية الفضائية، فرصة لإبراز ملامح العولمة التي أصبحت ملموسة حتى من قبل الأشخاص العاديين في أي مكان في العالم. ومن المنتظر أن يتيح هذا التطور الهائل في تكنولوجيا وسائل الاتصال الحديثة، إمكانية زيادة التواصل الثقافي بين شعوب العالم، ويساعد على إيجاد آمال وأهداف ومصالح مشتركة تتجاوز المصالح القومية ولا تتناقض معها، ولكن العديد من الحكومات أثارت مخاوف وشكوك كثيرة، سياسية يمكن أن تنجم عن بث بعض الدول برامج معادية لأنظمة الحكم، وأفكاراً وأيديولوجيات تهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي داخل دول أخرى يستهدفها البث الإذاعي والتلفزيوني كما وعبرت بعض القوى السياسية والاجتماعية المؤثرة في العديد من دول العالم عن خشيتها من النظام الإعلامي المفتوح الذي قد يهدد ثقافات وتقاليد وعادات ومقدسات الشعوب المغلوبة على أمرها.
وإذا كانت العولمة ترتبط بسيادة نموذج اقتصاد السوق، فإن هذا النموذج بدوره يثير قضية العلاقة بالدولة ودورها، ولا يبرر الانتقال إلى اقتصاد السوق أبداً اختفاء دور الدولة، وكل ما هنالك سيؤدي إلى تغيير محدود لهذا الدور. ومعظم من كتب في أهمية نظام السوق، كان يقرن ذلك دائماً بضرورة وجود دولة قوية، من دونها لا تستطيع أن تقوم السوق بدورها، ومن هنا ليس هناك مجالاً للحديث عن محاولة إلغاء أو تقليص دور الدولة، بل بالعكس لابد من التأكيد على هذا الدور وأهميته وضرورته، مع تعديل هذا الدور ليتوافق ونظام السوق. فالولايات المتحدة الأمريكية وهي أكبر دولة رأسمالية في العالم، تتدخل في الحياة الاقتصادية، وتحدد شروط النشاطات الاقتصادية، والسياسات النقدية والمالية والتجارية، والفارق المهم بين النظم المركزية، ونظم السوق، هو أن الدولة تتدخل في الحياة الاقتصادية باعتبارها سلطة، وليس باعتبارها منتجاً. لأن سلطة الدولة لا غنى عنها ولا تتناقض مع تطور الحياة الاقتصادية. والاقتصاد الحر لا يعني أبداً غياب الدولة عن النظام الاقتصادي والفرق بين النظام الليبرالي ونظام التخطيط المركزي، ليس في مبدأ "التدخل" ولكن في مضمونه، ففي ظل التخطيط المركزي تقوم الدولة بالإنتاج المباشر للسلع والخدمات، وتسيطر على النشاط الاقتصادي، عن طريق القطاع العام. أما في ظل الاقتصاد الحر، فإن الدولة تترك الإنتاج المباشر للسلع والخدمات للأفراد والمشروعات الخاصة، أي تحقيق التكامل بين دور الدولة ودور القطاع الخاص، ويكون تدخلها في سير الحياة الاقتصادية، بوسائل أخرى أكثر فعالية، من حيث الكفاءة الإنتاجية وتحقيق العدالة الاجتماعية. من خلال المحافظة على مستويات عالية للنمو الناتج القومي. والقيام بتوفير الخدمات الأساسية في مجالات التعليم والصحة، والقضاء، والأمن، والدفاع، ويدخل فيها قيام الدولة بمشروعات البنية الأساسية. ومبدأ الحرية الاقتصادية لا يعني أبداً إهمال مبدأ العدالة الاجتماعية، فالبلاد التي أخذت بهذا المبدأ، هي في مقدمة بلاد العالم من حيث الاهتمام بالفقراء، وتحقيق العدالة في التوزيع، وتوفير شبكة الأمان لكل المواطنين، ضد المخاطر الاجتماعية بما في ذلك البطالة والعجز والشيخوخة، وغيرها من الأمراض الاجتماعية. وهناك علاقة وثيقة بين الكفاءة في الأداء الاقتصادي وبين شروط العدالة. ذلك أن الكفاءة تعني نمو الاقتصاد القومي بمعدلات عالية، وتعاظم طاقة النظام الاقتصادي لتوفير فرص العمل المنتج لكل القادرين عليه، التي هي من المقومات الأساسية للعدالة الاجتماعية. والدور الجديد هذا للدولة يؤهلها للتكيف مع المتغيرات العالمية الجديدة، دون انتقاص لسيادتها، في ظل انتشار مفهوم "العولمة"، وشروط النظام العالمي الجديد. الذي يقوم على مبدأ الاعتماد المتبادل بين دول وشعوب العالم. والاندماج الإيجابي والواعي في النظام العالمي الجديد. انطلاقاً من حقائق أن "العولمة" ليست ظاهرة بلا جذور، بل هي ظاهرة تاريخية وموضوعية نتجت عن التطور الهائل لتكنولوجيا وسائل الاتصال وجمع ونقل المعلومات، والطبيعة التوسعية للإنتاج الرأسمالي. ولا يجوز البقاء خارجها، ويجب اللحاق بما يجري في العالم، والتعامل معه بوعي ووفق قواعد محددة تجنباً للبقاء خارج إطار التاريخ.
والنظام الاقتصادي الجديد جاء نتيجة لإنجازات كبرى في تاريخ تطور البشرية على كافة المستويات العلمية والثقافية والاقتصادية والتقنية والسياسية والفكرية، ويمثل نقطة جذرية مختلفة تماماً عن كل ما سبقتها من نظم. وأن الحضارة العالمية الحديثة قامت على أنقاض حضارات القرون الوسطى وثقافاتها، وفصلت الدين عن سلطة الدولة. وزودت الفكر البشري برؤية عقلانية تاريخية تنويرية، بتوجه ديمقراطي يقوم على أساس احترام الرأي والرأي الآخر، والتعددية، وحرية التعبير، وتكريس مبادئ حقوق الإنسان التي لا تعرف الحدود الجغرافية أو السياسية. وفرضت العولمة على الدول الأقل تقدماً واجب القيام بمزيد من خطوات التحديث الشامل الذي لا تمكن دون الدور الفاعل للدولة الذي تضطلع به من خلال الترشيد والأداء الاقتصادي، وتنظيم تفاعلات السوق.
سلبيات وأخطار العولمة: ولكن في حال اعترافنا بحتمية الانتقال إلى العولمة الشاملة من الضروري الإشارة إلى السلبيات والظواهر القاتلة والأخطار التي تفرضها العولمة على الإنسانية والموجودة فعلاً، ومنها: خطر خضوع العالم للشركات متعددة الجنسيات الغربية؛ وأخطار فرض مفاهيم وأسلوب التفكير والحياة الأمريكية على العالم؛ وخطر تعميق الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة في العالم (دول الشمال الغنية ودول الجنوب الفقيرة)؛ وخطر اتساع ظاهرة إضعاف دور الدول القومية، وعولمة الإرهاب، والتضييق على الثقافات واللغات القومية ومحاولة القضاء عليها، وإثارة الفتن في الدول متعددة القوميات. والنتائج السلبية للظاهرة الأولى قد تحصل على المدى البعيد نتيجة لزيادة هيمنة الشركات متعددة الجنسيات الكبرى على إدارة الاقتصاد العالمي وتحويلها إلى أداة دفع أيديولوجية للعولمة، لتجني من خلال دورها العالمي أرباحاً خيالية تدعم من قدراتها وإمكانياتها المالية والاقتصادية بشكل يفوق قدرات وإمكانيات بعض الدول في عالم اليوم، وهو ما تشير إليها بعض المصادر التي تقول أن حوالي 160 دولة عضوه في منظمة الأمم المتحدة تقل إمكانياتها وقدراتها عن إمكانيات وقدرات الشركات متعددة الجنسيات. وتنبأ البعض أنه في حال استمرار ظواهر العولمة أنفة الذكر فإنها ستؤدي حتماً إلى سيادة الشركات متعددة الجنسيات في الولايات المتحدة الأمريكية وغرب أوروبا واليابان وحكومات تلك الدول على الواقع الاقتصادي والمالي والتجاري في العالم ومن ثم السيطرة التامة عليه وعلى تفاعلات العلاقات الدولية. الأمر الذي يثير موجة احتجاجات واسعة من قبل الذين يعتبرون العولمة هي محاولة لفرض نمط الحياة الأمريكية على العالم من خلال 50 شركة أمريكية متعددة الجنسيات. ويرون أن الولايات المتحدة الأمريكية في الواقع مستمرة بتقدمها متجاوزة مصالح كل الدول الأجنبية، وحتى حلفائها المقربين، في المجالات العلمية والتكنولوجية، والتكنولوجيا العسكرية، لأنها تصرف ما يقارب الـ400 مليار دولار على شؤون الدفاع في السنة، وأن هذا الرقم يشكل نصف الميزانيات المخصصة في دول العالم للشؤون العسكرية. لأن حجم الإنفاق على مشاريع تطوير التكنولوجية العسكرية المتطورة في الولايات المتحدة الأمريكية يفوق بكثير ما تخصصه الدول السائرة في ركب الولايات المتحدة الأمريكية من الدول الأعضاء السبع الأخرى في مجموعة الدول الثمانية الكبرى مجتمعة. ولا يخفي القادة الأمريكيون سعيهم الحثيث لتوظيف كل القدرات الاقتصادية والمالية، والعلمية والتكنولوجية والعسكرية والسياسية من أجل فرض السيطرة الأمريكية على العالم في القرن الحادي والعشرين.
وتتمثل الهيمنة الأمريكية اليوم من خلال تحويل اللغة الإنكليزية باللهجة الأمريكية إلى لغة وحيدة لعولمة وسائل الاتصال والتبادل الإعلامي الدولي والعلاقات الدولية. وهو ما أشار إليه كتاب البريطاني د. كريستال "اللغة الإنكليزية لغة العولمة"، وكتابه "موت اللغات"، حيث أشار إلى أنه في نفس الوقت الذي يتسع فيه استخدام اللغة الإنكليزية تنقرض كل أسبوعين لغة من اللغات النادرة في العالم. وأشار بعض المتخصصين إلى أن أكثر اللغات جماهيرية على الكرة الأرضية ليست اللغة الإنكليزية بل اللغة الصينية التي يتحدث بها أكثر من 1.4 مليار إنسان، ولكنهم جميعاً خلف سور الصين العظيم، وفي جنوب شرق آسيا، وفي الأحياء الصينية المنتشرة في بعض بلدان العالم. عكس اللغة الإنكليزية التي يتحدث بها الجميع في كل مكان حتى أن الصين ألزمت مدارسها الابتدائية بتعليم اللغة الإنكليزية، ويتعلمها هناك في الوقت الحاضر عشرات الملايين من الصينيين الصغار والشباب والكبار. مما دفع بالكثيرين في الولايات المتحدة الأمريكية لاعتبار العولمة على الطريقة الأمريكية الطريق لوضع البشرية في خدمة المصالح الأمريكية والشعب الأمريكي الذي اختاره الله !
أما خطر تعميق الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة في العالم فيتمثل بالتفاعل الذي لا يؤدي إلى تسوية الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للإنسانية، بل على العكس يؤدي إلى تعميق الهوة بين الأغنياء والفقراء. والهوة تلك موجودة فعلاً داخل أكثر دول العالم، وحتى داخل الدول الغنية، ففي الوقت الذي يعاني فيه أكثر من 3 مليار إنسان من سوء التغذية، نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية تنفق أكثر من 100 مليار دولار أمريكي في السنة لمكافحة أمراض التخمة التي يعاني منها مواطنيها. في الوقت الذي يعيش فيه أكثر من 1.3 مليار إنسان على أقل من دولار واحد في اليوم، ووجود أكثر من مليار إنسان متعطلين عن العمل. وهو ما يعمق الآثار السلبية للعولمة وأشار إليها حتى التقرير الذي تعده منظمة الأمم المتحدة عن "تأثير العولمة على التطور الاجتماعي" حيث قدر المتخصصين العاملين على إعداده بأنه لا أمل خلال السنوات الخمسين القادمة للتقريب بين الدول الفقيرة والغنية من حيث مستوى الدخل وهو ما ينذر باشتداد المواجهة بينهما.
أما خطر اتساع ظاهرة إضعاف دور الدولة القومية، وعولمة الإرهاب، والتضييق على الثقافات واللغات القومية ومحاولة القضاء عليها، وغيرها من الظواهر فيتمثل بنمو وانتشار الجريمة المنظمة متعددة القوميات، والتي تنمو سنوياً بمعدل 5 % في الوقت الذي يبلغ فيه معدل نمو سكان العالم 1 %، وأشارت بعض المصادر إلى نمو الجريمة المنظمة الدولية بمعدل أربع مرات خلال السنوات العشر الأخيرة، وأن 450 مليون جريمة سجلت في عام 2001. وأدت العولمة إلى فتح الحدود أمام تدفق الأموال، والمعلومات، وملايين الناس، مما ساعد على نمو الجريمة متعددة القوميات، وأدت بدورها إلى تسارع نمو نوعين من الجريمة وهي: التجارة العالمية للمخدرات ليزيد عدد المدمنين على المخدرات في العالم حتى الـ180 مليون مدمناً، وليبلغ حجم تجارة المخدرات 800 مليار دولار أمريكي، مع اتساع جرائم أخرى كغسيل الأموال، حيث أشارت معطيات صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، إلى غسل 1.5 تريليون دولار أمريكي سنوياً في العالم، وهذا يعادل 5 % من الدخل العالمي.
ولا أحد ينكر أن العولمة ساعدت على انتشار الإرهاب الدولي الذي تحول بالتدريج إلى ظاهرة عالمية يحاول البعض وبإصرار ربطها بالعالم الإسلامي قبل وبعد الأعمال الإرهابية التي جرت في الولايات المتحدة الأمريكية في 11/9/2001، وأعقبتها أعمالاً إرهابية شملت الكثير من دول العالم كإسبانيا، وبريطانيا، وروسيا، ومصر، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، وإندونيسيا، وباكستان، والهند، وسورية، والأردن وغيرها من دول العالم وكلها تثبت العلاقة بين الإرهاب والعولمة، مما دفع بالملتقى الدولي الذي عقد في كرواتيا خلال نوفمبر/تشرين ثاني 2002 لمناقشة مشاكل الدبلوماسية العلنية، ووسائل الإعلام الجماهيرية والإرهاب. وتكرار ذلك من خلال المناقشات التي دارت أكثر من مرة وأظهرت حقيقة جديدة مفادها أنه لولا عولمة البث التلفزيوني لما كان الإرهاب. لأن الهدف الرئيسي للإرهاب كما أشار البعض ، ليس قتل بضع مئات أو حتى آلاف الناس، بل إخافة ملايين البشر، ولنكون أكثر دقة دب الخوف في قلوب 2 مليار مشاهد تلفزيوني تقريباً في كل دول العالم يشاهدون عادة الأخبار الرئيسية التي يبثها التلفزيون. هذا إن لم نشر إلى دخول المنظمات الإرهابية والجريمة المنظمة نفسها عالم استخدام وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية لتصعيد مشكلة الإرهاب في عالم اليوم أي عولمة هذا الشر عبر وسائل الاتصال الجماهيرية الإلكترونية الحديثة.
الثورة المعلوماتية: تعتبر ثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلوماتية التي بدأت أولى خطواتها مع غزو الإنسان للفضاء الكوني بعد إطلاق الاتحاد السوفييتي السابق لأول قمر صناعي تابع للأرض عام 1957 لتصبح تلك الخطوة من القوى الرئيسية الدافعة للعولمة، تتمة لمراحل النجاحات الاقتصادية في تاريخ البشرية منذ الثورة الصناعية التي لم نزل نعيش نجاحاتها كل يوم، إلى أن أحدثت اكتشافات ثورية في مجال الاتصالات والمعلوماتية فاقت بقدراتها اختراع التلغراف في أواسط القرن التاسع عشر، واختراع التلفون السلكي، والراديو، والسينماغراف في نهاية القرن التاسع عشر، ليجيء بعدها اختراع التلفزيون الذي أصبح شعار القرن العشرين للعمل على التطوير النوعي والكمي لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، وهكذا تمكنت البشرية مع نهاية القرن العشرين من امتلاك أكثر من 2.5 مليار جهاز استقبال إذاعي، وأكثر من 2 مليار جهاز استقبال تلفزيوني، وأكثر من 10 آلاف صحيفة يومية .. إلخ. وأخذ العالم بالفعل بالتحول حسبما توقع م. ماكلوهين، إلى "قرية عالمية"، وأصبح كل سكان العالم تقريباً يتلقونً في نفس الوقت نفس المعلومة. حتى تمكن 3.6 مليار مشاهد، في نفس الوقت من مشاهدة افتتاح الألعاب الأولمبية في سيدني عام 2000، والهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة الأمريكية عام 2001 عبر شاشات التلفزيون، وهذا الرقم يمثل عملياً كل البالغين من سكان الأرض. وحتى أن حوالي 2 مليار مشاهد من محبي كرة القدم أصبح بإمكانهم متابعة نهائيات كأس العالم بكرة القدم من مختلف عواصم العالم.
وتدريجياً تحسنت نوعية المصادر المعلوماتية ووسائل نقل المعلومات وحفظها واسترجاعها، وشهدت الحقبة الأخيرة من القرن العشرين ولادة عشرات شبكات البث التلفزيوني الدولية كشبكة سي إن إن العالمية وغيرها، وشهدت ولوج شبكة الانترنيت العالمية حيز الاستخدام الفعلي واسع النطاق. وتحول البث التلفزيوني إلى أداة من أدوات العولمة. وأصبحت شبكة الانترنيت العالمية أشد تأثيراً في عالم اليوم، وبعد أن كان عدد مستخدمي شبكة الإنترنيت في العالم عام 1993 حوالي 90 ألف مستخدم قفز هذا الرقم ليصبح 580 مليون مستخدم في عام 2004 ليتنبأ البعض بأن يصل هذا الرقم إلى مليار خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وهذا النمو السريع لم تشهده أية وسيلة اتصال وإعلام جماهيرية في تاريخ الإنسانية أبداً، واتجه التفاؤل نحو وسائل الاتصال الجماهيرية بعد أن أصبح عدد الهواتف المحمولة يقدر بحوالي 800 مليون جهاز في العالم، إضافة لمئات ملايين الهواتف العادية وكلها متصلة بشبكة الانترنيت عملياً. ومع اتساع استخدام وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية لوسائل النشر الإلكترونية الحديثة، مثل شبكة الانترنيت، زاد إلى حد كبير إشباع الإنسان أينما وجد بالمعلومات، وهو ما أصطلح على تسميته بمجتمع المعلومات أي دخول المعلومات والمعرفة عصر العولمة، الأمر الذي ضاعف كمية المعارف الإنسانية في سبعينات القرن العشرين، ولم تزل تلك الزيادة مستمرة حتى اليوم، ويطالب البعض بالقيام بعمليات كثيرة من أجل تحقيق المهام المتعلقة بنشاطات الإنسانية، الاقتصادية، والعلمية، والفضائية، والطبية، وغيرها، رغم أن الآلة في الوقت الحاضر أمست تكمل يد الإنسان، والكمبيوتر أمسى مكملاً لعقل الإنسان. ورغم أن العقل الإنساني هو أرقى مخلوقات الله، وحسب بعض المعطيات العلمية يتضمن 10 مليار نيرون، كل منها لها تقريباً ألف ارتباط مع غيرها من النيرونات ويمكنها القيام تقريباً بمأتي عملية في الثانية. ورغم أن المعادن نصف الناقلة لا تستطيع أن تسبق العقل البشري فقد ظهرت إمكانيات لصنع أنواع جديدة من الخلايا الخازنة للكمبيوتر تفوق مليون مرة العقل البشري من وجهة نظر التعامل والإمكانيات. وكان من المتوقع الانتهاء في عام 2003 من صنع كمبيوتر يفوق بحجمه حجم ثلاجتين منزليتين تبلغ سرعته ألف تريليون عملية في الثانية ويتفوق خمسة عشر مرة على 500 حاسب من أقوى الحاسبات الآلية لعام 2000.
وفي الوقت الذي تجهز الدول المتقدمة في العالم نفسها للانتقال إلى المجتمع المعلوماتي، نرى أن الاتحاد الأوروبي أعد في عام 1999 إستراتيجية "الرابطة المعلوماتية الأوروبية"، من أجل تجاوز التخلف عن الولايات المتحدة الأمريكية في هذا المجال. إلى جانب النجاح الهائل الذي حققته اليابان في هذا المجال، مما مكنها من أن تصبح في الطليعة في هذا المجال (لأن مصطلح "المجتمع المعلوماتي" ولد في اليابان أصلاً)، وأنهت سنغافورة برنامجاً لتعميم استخدام الكمبيوتر في كل أنحاء البلاد لتتحول إلى "جزيرة المعرفة"، وهو ما نجده في السياسة القومية للصين، والهند، وجميع الدول المتقدمة. وحتى أن الولايات المتحدة الأمريكية وضعت أمامها مهمة الانتقال إلى مرحلة ما بعد المجتمع الصناعي إلى مرحلة المجتمع المعلوماتي حتى عام 2020. عند ذلك سيشتغل 17% من سكانها فقط في مجال الإنتاج المادي والباقي في مجال المعلوماتية، والتعليم، والخدمات. وأن عمل 17% من السكان سيؤمن الرخاء لكل الشعب الأمريكي، لتتفوق الولايات المتحدة الأمريكية في العالم في كل المجالات. وفي نفس الوقت يعتبر المجتمع المعلوماتي نقطة تحضيرية للانتقال إلى عصر جديد، وهو مجتمع عصر الفضاء الكوني.
وأوصل التقدم الحثيث لتكنولوجيا المعلومات المتقدمة في السنوات الأخيرة إلى ظهور مستقبل آخر للأخطار التي تواجهها البشرية وحصلت على تسمية "الهوة الرقمية"، والحديث هنا يدور عن زيادة الهوة بين الأمم الغنية والأمم الفقيرة من حيث توفر وسائل الاتصال والمعلوماتية. و"الهوة الرقمية" عرفت من خلال تواجد من 250 مليون كمبيوتر على الكرة الأرضية اليوم، 40% منها في الولايات المتحدة الأمريكية، ونفس الكمية تقريباً في الدول "السبع الكبرى" الأخرى، و20% فقط هي حصة 5.5 مليار إنسان. فحوالي ثلث مستخدمي الإنترنت في العالم اليوم يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية، ونفس الكمية في أوروبا، وأقل قليلاً في اليابان، وجنوب كوريا، وجنوب شرق آسيا، وأقل من 10% في دول العالم الأخرى. وللمقارنة في الولايات المتحدة الأمريكية والسويد 600 هاتف لكل ألف نسمة، بينما في تشاد تلفون واحد لكل ألف نسمة وهذا يظهر عملياً أن كامل المعلومات وكل الاكتشافات في هذا المجال متمركز في الدول التي يعيش فيها 15% من سكان الأرض (وهذا يعني "المليار الذهبي")؛ في الوقت الذي يستطيع استخدامها 50% من السكان، ليبقى 35% (يعني 2 مليار إنسان) خارج هذه العملية. وأن عدم توفر شبكات الهاتف يفسر أسباب عدم تمكن أكثر من نصف الكرة الأرضية من إجراء اتصال هاتفي عام 2000. والتفوق الهائل للغرب في هذا المجال يشكل تهديداً ليس بتعميق الهوة بين الأغنياء والفقراء في العالم ، بل ويمهد لإساءة استخدام الساحة المعلوماتية من أجل العدوان، من خلال تحكم الغرب وتوجيهه للحملات الإعلامية لتحقيق أهداف محددة له، وخير مثال على ذلك أن قصف أفغانستان، وقصف العراق، وقصف يوغسلافيا، وقصف لبنان، وقصف فلسطين، بدأ والأمريكيين والأوروبيين يتابعون تلك الأحداث باهتمام على شاشات التلفزيون، وكأنها ألعاب كمبيوتر لا غير.
الإعلام الدولي والسياسة الخارجية: تقوم مؤسسات الإعلام عادة بنشر المبادئ والأفكار والمواقف والأخبار بواسطة وسائل الاتصال الجماهيرية المتنوعة بغرض الإقناع والتأثير على الأفراد والجماعات محلياً داخل المجتمع، وخارجاً بعد أن تخرج عن نطاق المحلية وتجتاز الحدود الجغرافية والسياسية للدولة، لنقل المبادئ والأفكار والمواقف والأخبار لمواطني الدول الأخرى، من أجل خلق نوع من التأثير أولاً، ومن أجل تحقيق نوع من الحوار الثقافي ثانياً متجاوزة الحواجز اللغوية، والسياسية، والجغرافية، لتتحول المؤسسات الإعلامية ووسائل اتصالها الجماهيرية إلى مؤسسات إعلامية دولية. ويعتبر الإعلام الدولي جزء لا يتجزأ من السياسة الخارجية للدول المستقلة المتمتعة بالسيادة الوطنية الكاملة، ووسيلة فاعلة من وسائل تحقيق بعض أهدافها السياسية الخارجية داخل المجتمع الدولي. ويخدم الإعلام الدولي المصلحة الوطنية العليا للدولة، وفقاً للحجم والوزن والدور الذي تتمتع به هذه الدولة أو تلك في المعادلات الدولية القائمة، وتأثيرها وتأثرها في الأحداث العالمية المستجدة كل يوم. وخاصة عند نشوب أزمات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو اضطرابات اجتماعية تطال تلك الدولة، أو الدول المجاورة لها، أو تطال مناطق المصالح الحيوية للدول الكبرى في أنحاء مختلفة من العالم، أو في حال حدوث كوارث طبيعية أو أوبئة وأخطار بيئية تهدد الحياة على كوكب الأرض، ككارثة الانحباس الحراري الذي يهدد البشرية اليوم.
وللإعلام الدولي دوافع متعددة، تعتمد على المصالح السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والاجتماعية، والعلمية، والثقافية، والإنسانية، بما يتفق والسياسة الخارجية للدولة المعنية، وتنبع كلها من المصالح الوطنية العليا للدولة، وقد يعمل الإعلام من خلال هذا المنظور على تعزيز التفاهم الدولي والحوار بين الأمم، ليؤدي إلى خلق تصور واضح للدول بعضها عن بعض، مفاده التحول من النظام الثقافي القومي التقليدي المغلق، إلى نظام ثقافي منفتح يعزز التفاهم الدولي ويعمل على تطويره أو إلى نظام ثقافي شمولي تديره جهات معينة من وراء الحدود للوصول إلى أهداف معينة تخدم مصالحها الخاصة. وكان للإعلام الدولي دوراً أساسياً في هذا التحول بعد التطور الهائل الذي حدث في تقنيات الاتصال خلال القرن العشرين، وساعد على إحداث تغيرات ثقافية واجتماعية واضحة، رغم تضارب المصالح الاقتصادية والسياسية والصراعات الإيديولوجية المؤثرة على القرار السياسي اللازم لأي تقارب أو حوار دولي هادف بين مختلف دول العالم.
وظائف الإعلام الدولي: ومن الأمور التي تميز البشر عن غيرهم من المخلوقات الحية أنهم قادرون على التواصل وإعلام بعضهم البعض. وكانوا منذ القدم بحاجة دائمة لمراقبة وفهم الظروف المحيطة بهم، ونشر الآراء والحقائق التي تساعد الجماعات الإنسانية على اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب، ونشر تلك القرارات على نطاق واسع دون تأخير، ونقل تراث الأجداد وبلورة التطلعات السائدة في المجتمع ووضعها في خدمة الأجيال الصاعدة، والترفيه عن أفراد المجتمع.
ولم تزل مهام الإعلام في المجتمعات القديمة وحتى يومنا هذا كما كانت قائمة عليه، ولكن بفارق أصبحت معه تطال قطاعات جماهيرية واسعة جداً، وبأساليب وتقنيات حديثة متطورة بعيدة المدى تحيط بالكرة الأرضية برمتها وبامتداد يشمل الفضاء الكوني لإشباع حاجات الأفراد والجماعات للمعلومات عن الظروف المحيطة بهم، وأصبحت تصلهم بسرعة فائقة ودقة كبيرة عن طريق وسائل الاتصال الحديثة، وأجهزة الاستشعار عن بعد التي باتت تستخدم أحدث المعدات الإلكترونية والتجهيزات المتطورة باهظة التكاليف، وتساعد على اتخاذ القرارات وتنفيذها في الوقت المناسب.
وهكذا نرى أن مهام الإعلام التي وجدت في المجتمعات القديمة هي نفسها الموجودة في المجتمعات الحديثة اليوم من حيث المبدأ والفارق الوحيد أنها أصبحت متعددة ومتشعبة وأكثر دقة بفضل وسائل الاتصال الحديثة المتطورة التي لم تكن معروفة من قبل. وأصبحت الدول أكثر من ذي قبل تشارك عن طريق ممثليها في التأثير على مجرى الحياة الاجتماعية في الداخل والخارج من خلال سياساتها الداخلية والخارجية مستعينة بوسائل الاتصال الجماهيرية، وأصبحت المصالح الوطنية العليا للدولة أكثر تأثيراً في عملية اتخاذ القرارات على الصعيدين الداخلي والخارجي. بعد أن دخلت وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية القرية والمدينة والتجمعات السكانية أينما كانت، وتحولت إلى نظام مفتوح أمام قوى التغيير الآتية من الداخل والخارج، ومعنى هذا أن الوظائف القديمة للإعلام اختلفت من حيث درجتها وحجمها فقط وليس في نوعها، والسؤال المطروح اليوم لماذا كل هذا الاهتمام بوسائل الإعلام الجماهيرية ؟
والجواب أن تلك الوسائل أصبحت تصل اليوم إلى جمهور واسع متعدد الشرائح والقيم والانتماءات، ووسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية التي كانت يوماً ما تصل إلى جمهور محدود وبتأثير محدود، أصبحت اليوم تصل إلى شرائح سكانية كبيرة منتشرة في أنحاء متباعدة من العالم، وأصبحت تؤثر على آراء الناس وتصرفاتهم وأسلوب حياتهم، فالصحيفة والمجلة والكتاب الذي كان يقرؤه في الماضي عدد محدود من الأفراد، يقرؤه اليوم ملايين البشر، مطبوعاً أم منقولاً عبر شبكات الحاسب الآلي المتطورة "الانترنيت". والبرنامج الإذاعي الذي كان يسمع ضمن دائرة محدودة أصبحت تسمعه ملايين البشر موزعين في مناطق متباعدة من العالم، والبرنامج التلفزيوني الذي كان حكراً على منطقة جغرافية محدودة أصبح اليوم في متناول المشاهد في قارات العالم. وتقنيات البريد الإلكتروني والفاكس أخذت تحل مكان التلكس والمبرقات التلغرافية القديمة، مما جعل الناس يؤمنون بأن تلك الوسائل تؤثر في المجتمعات وتعمل على تغييرها بشكل كبير وليس على الصعيد المحلي وحسب، بل وعلى صعيد العالم برمته وبرز الإعلام الدولي الذي عزز من مكانته وتأثيراته ووظائفه.
وللإعلام الدولي دوافعه ووظائفه المحددة يؤديها تنفيذاً للدور الذي تفرده له السياسة الخارجية للدولة أو الهيئة التي يتبع لها، وهي:
1- الاتصال بالأفراد والشرائح الاجتماعية والجماعات والكتل السياسية والمنظمات داخل الدولة الخاضع لقوانينها أو التابع لها وتتمثل بالحوار مع القوى المؤثرة على عملية اتخاذ القرار السياسي من شخصيات وتجمعات وأحزاب وكتل برلمانية، سواء أكانت في السلطة أم في المعارضة على السواء، للوصول إلى الحد الأقصى من الفاعلية التي تخدم سياستها الخارجية. وتخضع عملية الاتصال هذه عادة لمعطيات هامة من حيث المواقف والقضايا المطروحة قيد الحوار، ومواقف السلطة والمعارضة منها والخط السياسي الرسمي للدولة حيالها. وتتراوح هذه المواقف عادة مابين المؤيد التام، والمؤيد، والحياد التام، والحياد، والمعارضة التامة، والمعارضة، والعداء التام، والعداوة، ولهذا كان لابد من تحديد دقيق للموقف السياسي للدولة، ومقارنته بالمواقف الأخرى، للعمل على كسب التأييد اللازم لصالح القضايا المطروحة للنقاش، والعمل على زحزحة المواقف السياسية المعلنة للدولة، لصالح تلك القضايا. أو محاولة خلق مناخ ملائم للحوار الإيجابي حولها على الأقل. ويجب الأخذ بعين الاعتبار طبيعة النظام السياسي السائد في تلك الدولة، ومستوى ديمقراطية هذا النظام، وطرق اتخاذ القرارات السياسية في ظل النظام السياسي القائم، ومدى المشاركة الفعلية لكل القوى السياسية المشاركة في اتخاذ تلك القرارات. لأن الاتصال بالجماهير الشعبية في أي دولة من دول العالم يتم من خلال تلك القوى التي تمثل النخبة المؤثرة، وهي أولاً: أصحاب الحق باتخاذ القرارات؛ وثانياً: الجماهير الشعبية، التي هي بمثابة قوة ضاغطة على أصحاب حق اتخاذ القرار. ومن هنا نفهم مدى أهمية إلمام خبراء الإعلام والمخططين للحملات الإعلامية الدولية بالنظم السياسية للبلدان المستهدفة والقوى المؤثرة فيها سواء أكانت تلك القوى في السلطة أم في المعارضة، ودور تلك القوى في اتخاذ القرارات لاستخدامها في وضع خطط الحملات الإعلامية المؤيدة، أم المضادة وأن نأخذ بعين الاعتبار الحقائق الاجتماعية والثقافية التي تساعد على نجاح الحملات الإعلامية الدولية.
2- الاتصال المباشر بالجماهير الشعبية، عن طريق النشرات الإعلامية، والمؤتمرات الصحفية، والمقالات، والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، والعروض السينمائية والمسرحية، وأفلام الفيديو، وإقامة المعارض الإعلامية، وتشجيع السياحة وتبادل الزيارات، وغيرها من الوسائل التي تتيح أكبر قدر ممكن من الصلات المباشرة مع الجماهير، للوصول إلى تأثير إعلامي أفضل وأكثر فاعلية. وتأخذ بعض الدول لتحقيق سياستها الخارجية أسلوب مخاطبة الجماعات المؤثرة فقط، توفيراً للنفقات التي تترتب من جراء استخدام أسلوب الاتصال المباشر بالجماهير الشعبية العريضة، وتوفيراً للوقت الذي يستغرق مدة أطول من الوقت اللازم عند مخاطبة قطاعات وشرائح اجتماعية متباينة من حيث المصالح والتطلعات، ومستوى التعليم، والثقافة، والاتجاه الفكري ومزاجية تلك الجماهير العريضة في متابعة القضايا المطروحة، والمحصورة في بوتقة اهتمامات شريحة اجتماعية معينة فقط، لأن أسلوب الاتصال الفعال بالجماهير الشعبية يحتاج أيضاً لإمكانيات كبيرة ووسائل متعددة، تفتقر إليها الدول الفقيرة والنامية بينما نراها متوفرة لدى الدول المتقدمة والغنية والقادرة من حيث الإمكانيات المادية والتقنية والخبرات الإعلامية، وتمكنها من استخدام الأسلوبين في آن معاً.
3- يمثل الإعلام الدولي الدولة أو الجهة التي ينتمي إليها، سواء أكانت محلية أم إقليمية أم دولية أم متخصصة أم تجارية، كمكاتب الأمم المتحدة ومؤسساتها المتخصصة في العديد من دول العالم، ومكاتب جامعة الدول العربية، ومنظمة الوحدة الإفريقية، والجامعة العربية، ومنظمة الأوبك، والسوق الأوربية المشتركة، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، ورابطة الدول المستقلة، ورابطة أوروآسيا الاقتصادية، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ومنظمة جنوب شرق آسيا، وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية.
ونحن عندما ننظر اليوم إلى الطريقة التي تستخدم فيها الدول الغنية كل تقنيات وسائل الاتصال الحديثة في خدمة حملاتها الإعلامية الدولية، عبر أبسط صورها المتمثلة بالقنوات التلفزيونية الفضائية، بعد انتشار استعمال الدوائر المغلقة بالكابلات، وهوائيات استقبال البث التلفزيوني عن طريق الأقمار الصناعية في المنازل. وشيوع استخدام شبكات الحاسب الآلي واسعة الانتشار، ومن أهمها، شبكة الـ "إنترنيت" العالمية التي انطلقت من الولايات المتحدة الأمريكية، وتعمل دون منافس يذكر حتى الآن، وموجات البث الإذاعي الوطنية الـ FM المؤجرة للغير. في الوقت الذي نرى فيه الدول النامية تتخبط بمشاكلها الإعلامية، وتعاني من الآثار المترتبة عن التطور التكنولوجي الحديث، والخلل الفاحش في التدفق الإعلامي الدولي أحادي الجانب والتوجه والتأثير.
مشاكل يعاني منها الإعلام الدولي في الدول النامية: ورغم الجهود الحثيثة التي بذلتها وتبذلها الدول النامية والفقيرة حتى اليوم، للخروج من المأزق الإعلامي الذي تعاني منه، نراها تتخبط بمشاكلها الإعلامية التي تزداد تشعباً وتعقيداً كل يوم، بسبب التطور العلمي والتكنولوجي الهائل في ميدان وسائل الاتصال الحديثة، ووسائل الإعلام الجماهيرية حتى على الصعيد الوطني، ومن أهم تلك المشاكل: الخلط بين الوظيفة الإعلامية المحلية، والوظيفة الإعلامية الإقليمية، والوظيفة الإعلامية الدولية، ومتطلبات كل من تلك الوظائف وخصائصها المتميزة؛ والخلط بين السياسات الداخلية والإقليمية والخارجية للدولة عند التخطيط للحملات الإعلامية الدولية، والارتباك في تحديد الأولويات؛ وضعف أجهزة وتقنيات المؤسسات الإعلامية الوطنية، وافتقارها للمعدات والتجهيزات المتطورة، والإمكانيات المالية اللازمة للحملات الإعلامية الدولية، أو استخدامها للإعتمادات المالية المتاحة بشكل سيء، أو بشكل غير فعال لتحقيق الأغراض المطلوبة، إضافة لسطحية المساعدات الخارجية التي تحصل عليها تلك الدول من الدول الغنية، والمنظمات الدولية المتخصصة؛ والنقص الفاضح في الكوادر الإعلامية المتخصصة بالإعلام المحلي والإقليمي والدولي، وندرة أصحاب التخصص الأكاديمي بينهم، مما يؤدي إلى اختيار كوادر غير كفوءة للعمل الإعلامي الدولي، لاعتبارات سياسية في أكثر الأحيان، وهذا بدوره يؤدي إلى: غياب التنسيق بين المخطط، والمنفذ، وأجهزة متابعة الحملات الإعلامية الدولية؛ وضعف الإلمام بخصائص الجمهور الإعلامي الأجنبي، وعدم إتباع أسلوب إعلامي منطقي ملائم ومتطور قادر على إيصال مضمون الرسالة الإعلامية للقطاعات المستهدفة من الحملة الإعلامية الدولية؛ وغياب التعاون وحتى التنسيق بين المؤسسات الإعلامية، ومؤسسات التعليم العالي المتخصصة، ومؤسسات البحث العلمي، فيما يخص إعداد الكوادر الإعلامية الوطنية والبحوث العلمية التطبيقية، وخاصة فيما يتعلق بدراسة راجع الصدى الإعلامي وتأثير المادة الإعلامية، وفاعلية الخطط الإعلامية، والاكتفاء بالبحوث النظرية البحتة التي تتناول الجوانب الوصفية والتاريخية فقط، بابتعاد عن الدراسات التي تتناول جوهر التخطيط، وتحليل مضمون الرسائل الإعلامية، وتقدير راجع الصدى الإعلامي المخطط له وراجع الصدى الفعلي للمواد الإعلامية وقدرات الوسيلة الإعلامية المستخدمة.
الإعلام الدولي والصراعات الدولية: يعاني عالم اليوم كما في الماضي من صراعات سياسية ومنازعات عسكرية عديدة، وتبقى في مقدمتها اليوم القضية الفلسطينية التي مازالت تهدد الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والعالم منذ مدة تجاوزت النصف قرن وأدت إلى عدة حروب مدمرة منذ قيام دولة إسرائيل بموجب قرار الأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947 الذي قضى بإنشاء دولتين عربية وعبرية على أرض فلسطين التي كانت آنذاك تحت الانتداب البريطاني بتجاهل لمصالح الشعب الفلسطيني، وبدأت تلك الحروب بالحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948م وانتهت باحتلال إسرائيل لقسم من الأراضي المخصصة للدولة العربية في فلسطين وإعلان الهدنة، التي استمرت حتى العدوان الثلاثي الإنكليزي الفرنسي الإسرائيلي على مصر عام 1956 وانتهى بانسحاب القوات المعتدية من الأراضي المصرية المحتلة، ثم العدوان الإسرائيلي على مصر والأردن وسورية عام 1967 الذي انتهى باحتلال الجيش الإسرائيلي لشبه جزيرة سيناء المصرية وقطاع غزة الفلسطيني الذي كان تحت الإدارة المصرية آنذاك، وكامل الضفة الغربية لنهر الأردن الفلسطينية والتي كانت آنذاك تحت الإدارة الأردنية، وهضبة الجولان السورية بعد إعلان وقف إطلاق النار. والحرب العربية الإسرائيلية عام 1973 التي خاضتها مصر وسورية مدعومة من بعض جيوش الدول العربية لتحرير الأراضي العربية من الاحتلال الإسرائيلي وانتهت باحتلال إسرائيل لمزيد من الأراضي المصرية والسورية. لتعقبها المعركة السياسية من أجل تحقيق السلام في الشرق الأوسط، والتي تكللت بتوقيع أول معاهدة سلام بين إسرائيل والعرب، وهي المعاهدة الإسرائيلية المصرية المعروفة بمعاهدة كمب ديفيد، التي صمدت رغم الاجتياح الإسرائيلي للأراضي اللبنانية عام 1982 وعدوانها المستمر عليه، واحتلالها المستمر لجزء من أراضيه. لتبدأ عام 1991 المسيرة السلمية الشاملة في الشرق الأوسط بانعقاد مؤتمر مدريد الدولي لحل قضية الشرق الأوسط بمشاركة جميع الأطراف المعنية، وأطراف دولية أخرى برعاية الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وما أعقبها من اتفاقيات سلام بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، ومعاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية. لتعود وتصطدم الجهود السلمية مرة أخرى بالعدوان والتعنت الإسرائيلي المستمر والذي يحظى بمساندة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها دون قيد أو شرط، التعنت الذي يحول دون التوصل لسلام عادل ودائم في الشرق الأوسط يقضي بالانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من الأراضي العربية المحتلة، بما فيها هضبة الجولان السورية المحتلة، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. ومن بؤر الصراع الخطيرة الأخرى في العالم، الصراع الباكستاني الهندي على مقاطعة كشمير الحدودية المتنازع عليها بين الطرفين والتي تهدد بالانفجار في أي وقت كان خاصة بعد سلسلة التجارب النووية التي نفذتها الدولتين في أيار/ مايو 1998، معلنة عن مرحلة جديدة في إطار سباق التسلح الجاري في القارة الآسيوية. والحرب الأهلية الدامية والمدمرة في أفغانستان، التي بدأت عام 1979 ضد التدخل العسكري السوفييتي في الشؤون الداخلية لأفغانستان، وتحولها بعد ذلك إلى حرب عرقية ودينية إثر انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان، تلك الحرب التي هددت أمن واستقرار الدول المجاورة لها، وخاصة دول آسيا المركزية المستقلة حديثاً بعد انهيار الإتحاد السوفييتي السابق، أوزبكستان، وطاجكستان، وتركمانستان ولها حدوداً مشتركة معها. واستمرار الخطر رغم قيام التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بغزو الأراضي الأفغانية والقضاء على حكومة طاليبان فيها بذريعة الهجمات الإرهابية التي تمت عام 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية.
إضافة إلى مناطق التوتر الكثيرة التي ظهرت بعد انهيار الإتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، كالصراع في قره باغ الأذربيجانية، والصراع في الشيشان بين روسيا الاتحادية والمطالبين باستقلال جمهورية إشكيريا، والصراع في أبخازيا المطالبة بالاستقلال عن جورجيا، والحرب الأهلية التي هدأت نسبياً في طاجيكستان، والصراع بين البوسنيين، والصرب، والكروات وألبان كوسوفو، فيما كان يعرف سابقاً بيوغسلافيا الاتحادية، والوضع الشاذ في ألبانيا التي انهارت وبكل سهولة، أجهزة وبنى الدولة العسكرية والسياسية خلال تسعينات القرن العشرين.
والصراعات الكامنة الأخرى بين الكوريتين الشمالية والجنوبية، والحرب الأهلية في الصومال والسودان، والمغرب العربي، والخلافات الحدودية الإريترية اليمنية، والإريترية الإثيوبية، والوضع المتوتر في منطقة الخليج العربي بسبب الحرب العراقية الإيرانية المدمرة، والغزو العراقي للكويت وقيام التحالف الدولي بتحرير وطرد القوات العراقية من الكويت، ومن ثم غزو قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية العراق واحتلاله وإسقاط نظام الحكم القائم فيه حتى دون قرار من مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة، وتحول العراق بسبب الاحتلال إلى ساحة للصراعات العقائدية والطائفية والعرقية التي لا يحمد عقباها، وتهدد وحدة ترابه وثرواته الوطنية، التهديد الذي أصبح واقعاً بعد صدور قرار الكونغرس الأمريكي بتقسيم العراق إلى كيانات فيدرالية في سبتمبر 2007، وغيرها من بؤر التوتر الكثيرة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهي بمعظمها من التركة الثقيلة للاستعمار الأوروبي الطويل في تلك المناطق.
وقد بينت السوابق التاريخية أن لكل صراع أبعاده الداخلية، والإقليمية، والدولية، وعناصر قوى يجب مراعاة التفاعلات الجارية بينها، وتأثير هذا التفاعل على تطور الصراع بشكل عام، بقصد التعامل مع هذا الصراع ومعالجته بالشكل المناسب، وهذا لا يمنع وجود عناصر مشتركة بين الصراعات المختلفة، ويمكن الاستفادة منها عند معالجة تلك الصراعات أو التعامل معها إعلامياً. وتعتمد النتائج النهائية لأي صراع من الصراعات، على عناصر القوة المتوفرة لدى كل طرف من أطرافه، وتضم هذه العناصر القوى المعلوماتية، والعسكرية، والتكنولوجية، والإمكانيات الاقتصادية، والسياسية، والبشرية، والحالة المعنوية للقوى البشرية. وتعتمد كلها على مسائل أخرى كعنصر المفاجأة، وتطور استخدام الإستراتيجية والتكتيك، واللجوء إلى أساليب جديدة غير معروفة من قبل، مما تجعل عملية التنبؤ بنتائج الصراع صعبة جداً، وفي بعض الأحيان غير مجدية، إضافة للإمكانيات الذاتية للأشخاص القائمين على إدارة الصراع، ومدى توفر المعلومات لديهم، والتقنيات والأدوات الحديثة التي يستخدمونها في الصراع، فصانع القرار في أي صراع يبني قراره على معطيات ملموسة أولاً، وعناصر غير ملموسة تشمل الخصائص النفسية والحالة المعنوية للخصم ثانياً.
وتقتضي معالجة الصراع الاعتماد على العقلانية وبعد النظر، واستبعاد العواطف والانفعالات، لأن عملية معالجة أي صراع هي عملية معقدة وشاقة، ونابعة أساساً من عناصر القوى المشاركة فعلاً في الصراع من الجانبين أو من قبل الأطراف المتصارعة، أو المعنية بالصراع، مبنية على الحسابات الدقيقة والخطط الموضوعة والمستخدمة فعلاً من قبل طرفي أو أطراف الصراع. وتتنوع أدوات الصراع، عندما تقتضي ظروف الصراع اللجوء إلى القوة العسكرية تارة، وإلى القوة الاقتصادية تارة أخرى، أو إلى العمل السياسي والدبلوماسية الهادئة في حالات أخرى، أو قد يلجأ الجانبان المتصارعان إلى استخدام القوة العسكرية، والاقتصادية، والسياسية، والدبلوماسية في آن معاً، مستخدمين المرونة في تكتيك إدارة الصراع وفقاً لطبيعة الظروف المتبدلة محلياً وإقليمياً ودولياً.
ويبقى دور الإعلام الجماهيري في عملية الصراع متمثلاً بتعبئة الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي حول وجهة النظر الرسمية للدولة من الصراع الدائر وشرحها وتغطية أخبار أهم أحداثها تباعاً. وشرح وتحليل أبعاد هذا الصراع وأسبابه، مع مراعاة أن يأخذ خبراء الاتصال والإعلام والصحفيين بعين الاعتبار، خصائص الجمهور الإعلامي المخاطب ثقافياً وسياسياً وتاريخياً، ومدى تعاطفه مع وجهة النظر الرسمية للدولة المعنية في هذا الصراع، واختيار اللغة المناسبة للرسائل الإعلامية لتصل إلى أقصى حد ممكن من التأثير والفاعلية، لأن السلاح الإعلامي في أي صراع كان ولم يزل لا يقل أهمية عن القوة العسكرية والاقتصادية، لأنه الوسيلة الناجعة لرفع معنويات القوى البشرية في الدول المعنية، وتحطيم الروح المعنوية للخصم في الصراعات الدائرة، مع التأكيد على أن الإعلام الناجح هو السند القوي في الكفاح على الجبهة السياسية والعمل الدبلوماسي الهادئ والرصين والمنطقي.
مستقبل العلاقات الدولية: في مقارنة قام بها بعض المؤرخين للتنبؤات التي وضعها السياسيون عام 1900 وما حدث فعلاً خلال قرن من الزمن ظهر أنهم لم يتوقعوا من خلال تنبؤاتهم بالأحداث الهامة التي جرت خلال القرن العشرين، لا بالحربين العالميتين، ولا بثورة أكتوبر البلشفية في روسيا، ولا بتشكل الدول الاشتراكية، ولا بانهيار النظم الاستعمارية العالمية، ليثبت أن التنبؤ في مجال التطور العالمي صعب جداً، وهو أصعب بكثير من التنبؤ في مجال برامج الاستنساخ الطبية أو في مجال غزو الفضاء وانتقال البشر إلى الكواكب الأخرى، ومع ذلك فقد حاول البعض وضع سيناريوهات ممكنة للمستقبل منطلقين من حقائق العصر، منها:
أن توقع مستقبل انفراد الولايات المتحدة الأمريكية في مسعاها لفرض هيمنتها على العالم خلال السنوات العشرين القادمة ممكن لأن هذه الدولة مستمرة في المضي على طريق زيادة الهوة بينها وبين المجتمع الدولي في مجالات العلاقات المالية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية والسياسية وغيرها، وخلال سنوات الفترة الرئاسية الأولى من حكم بيل كلينتون (1992 – 1996) للولايات المتحدة الأمريكية، ارتفع المؤشر الاقتصادي للدخل القومي بحوالي 4% سنوياً، وهو ما حدث للدخل القومي الألماني، وخلال الفترة الرئاسية الثانية لبيل كلينتون (1996 - 200) زاد الدخل القومي الياباني، وتحدث الكثيرون عن "المعجزات الاقتصادية" الأخرى، وفي الواقع أن المعجزة جرت في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. لأن العولمة في ظروف القطب العالمي الواحد تضيق على الدول المستقلة الكبرى الأخرى، ولا تدعهم يسلمون بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية للعولمة، ولا يستبعد أن واشنطن كقائد ستقوم بتنفيذ خطط إستراتيجية لإضعاف أو إنهاك تلك الدول. وهنا لابد من التذكير بما كتبه س. هنتنجتون: من أن "النظام أحادى القطبية يبشر بقيام دولة عظمى واحدة، وغياب الدول العظمى الأخرى وعدد كبير من الدول الصغيرة". لنستنتج أن دولاً كبيرة مثل روسيا، والصين، والهند، غير مرغوب بها للولايات المتحدة الأمريكية ليبرز سؤال مهم إلى متى ستستمر حالة عالم القطب الواحد هذه ؟
وهو ما حاول الإجابة عنه الأكاديمي الروسي ن. مويسييف معتمداً على قوانين الرياضيات مؤكداً عدم إمكانية الاحتفاظ بهذا الوضع لفترة طويلة، لأن التاريخ أثبت أنه في كل مرة أدارت فيها قوة عظمى واحدة العالم دون أن يكون لها قوة معادلة انهارت كروما والإمبراطوريات الأخرى التي سيطرت على العالم القديم منفردة، وشبه هذا الوضع بكرسي يستند على ساق واحدة. وذكر أنه: "بعد التدمير الإجرامي لمركز القوة الثاني (الاتحاد السوفييتي السابق)، الذي قامت به جماعة صغيرة انهار التوازن السلمي لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ودمرت طبيعة تطور الأحداث في عملية التفاعل الكوني، وأصبح كل شيء مرتبط بشكل جديد من أشكال القوة العسكرية" وبدأت تظهر مساعي واشنطن التي تعلم أنه لا يمكنها الصمود طويلاً وحيدة، للحصول على مساندة غرب أوروبا لتكون الشريك الاستراتيجي الأصغر. في الوقت الذي أخذت فيه بالظهور دعوات تدعوا الغرب بالسعي لبناء تحالف أمريكي أطلسي من أجل تحقيق الاستقرار في العالم.
وأدى تركيز مراكز القوة المالية والاقتصادية والتجارية إلى تحول شرق وجنوب شرق آسيا إلى مركز لنصف الاقتصاد العالمي المالي والتجاري والسكاني. وتوقع البعض أن تملك الصين حتى عام 2020 أكبر اقتصاد عالمي، مشيرين إلى أن هذا لا يعني وزنها العسكري والسياسي بل مستوى الحياة في الصين نفسها الذي سيتفوق على نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وأن الصين لن تترك واشنطن تتحكم بالعالم وحدها. وأن الهند بسكانها الـ 1.2 مليار نسمة ستصبح الدولة الرابعة في عالم الاقتصاد، ووفق توقعات البنك الدولي، ستبقى ثلاث دول غربية هي الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، والبرازيل؛ ضمن الدول العشر الأكثر تتطوراً اقتصادياً في العالم حتى عام 2020 والسبع الباقية في آسيا. رغم أن التأثير المباشر على العلاقات الدولية خلال العشر سنوات القادمة سيبقى كما كان في السابق متركزاً في ثلاثة مراكز للقوة هي الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، واليابان، ومن المتوقع أن تنضم إليهم الصين والهند وأن تلعب روسيا وحلفائها دور مركز الثقل في تطور الأحداث العالمية.
ومن تحليل لتوقعات المتخصصين الأجانب، يمكن أن نجد أن العولمة: - عززت التشابك الاقتصادي والأمني لمختلف الدول، وتغيرت إلى حد بعيد الأجندة السياسية الدولية، ورافقها تغيير لأفضليات مصالح الدول على الساحة الدولية وتبدلت إمكانيات وسائل تنفيذ سياساتهم الخارجية. - وأن مفهوم "قوة الدولة" تغير من الاعتماد على القوة العسكرية إلى الاعتماد على تطوير الموارد المالية والاقتصادية والمعلوماتية والفكرية للدولة. - وأن دور اللاعبين الرئيسيين على الساحة الدولية تبدل من التحالفات والاتحادات العسكرية والسياسية، إلى التحالفات والاتحادات التجارية والاقتصادية الإقليمية، والدولية مثال: الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي، والرابطة الاقتصادية "أوروآسيا"، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ومجلس تعاون دول الخليج العربية، وغيرها لتبقى في مقدمتها مجموعة "دول الثمانية الكبرى"، وهو ما يعني تحول السياسة العالمية والدبلوماسية نحو الاقتصاد. - وأن العولمة كانت السبب في ارتفاع نسبة الوعي القومي بين سكان الكرة الأرضية، ويمكن أن تؤدي إلى ارتفاع عدد الدول المستقلة. خاصة وأن عدد الدول المستقلة كان (50) دولة بعد الحرب العالمية الثانية، وأن منظمة الأمم المتحدة تضم في عضويتها الآن أكثر من 192 دولة، مع إمكانية زيادة هذا العدد خلال السنوات القادمة، بسبب وجود أقليات عرقية في أكثر من (100) دولة ويزيد عدد أفراد كل جالية عن المليون نسمة، مع إمكانية انهيار تلك الدول وانقسامها إلى دول مستقلة، كما حدث في الاتحاد السوفييتي السابق الذي انقسم إلى خمسة عشر دولة مستقلة، ويوغوسلافيا التي انقسمت إلى عدة دول لم يزل الصراع قائماً بينها حتى الآن، وتشيكوسلوفاكيا التي انقسمت إلى دولتين مستقلتين، وإثيوبيا التي انقسمت إلى دولتين مستقلتين. وفي أحسن الظروف يمكن قيام فيدراليات شبه مستقل ذاتياً في بعض تلك الدول متعددة القوميات، وهو ما تسعى إليه الدول العظمى وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحاضر، مثل الحالة العراقية التي اتخذ الكونغرس الأمريكي قراراً في عام 2007 يدعو قوى الاحتلال إلى تقسيمه لكيانات فيدرالية على أسس عرقية ودينية، والحالة السودانية، والحالة الروسية، وغيرها. - وأن ارتفاع عدد الدول قد يؤدي إلى تراجع دور تلك الدول وشخصيتها ضمن الحدود الدولية المعترف بها (كما يجري الآن في غرب أوروبا). - وأنه من المرجح زيادة عدد الصراعات العرقية والحدودية وإعلان أكثر من (50) منطقة مناطق نزاع، بالإضافة إلى أكثر من (150) صراعاً على الحدود البحرية، وأكثر من (30) جزيرة تقع ضمن مناطق النزاعات. - وتوقع انهيار دور المنظمات الدولية الحكومية بداية من منظمة الأمم المتحدة مع ازدياد تأثير المنظمات غير الحكومية، مثل: الخضر، وأطباء بلا حدود، وغيرهم. - ومطالبة أغلبية الدول النامية بحق تقرير المصير مما سيعرض مبدأ عدم المساس بحدود الدولة ووحدة أراضيها إلى خطر كبير، ولنتصور ماذا سيحدث لو أعلنت التيبت، ومنغوليا الداخلية، وسينزيان حق تقرير المصير في جمهورية الصين الشعبية، أو إذا أعلنت كشمير حق تقرير مصيرها في جمهورية الهند، أو إعلان السكان السود واللاتينيين في الولايات المتحدة الأمريكية حق تقرير مصيرهم ؟ - وزيادة خطر انتشار السلاح النووي وغيره من أسلحة الدمار الشامل، وزيادة عدد الدول التي تملك السلاح النووي بعد انضمام إسرائيل والهند وباكستان لتلك الدول إضافة لعشرات الدول القريبة من امتلاك السلاح النووي. - وتأثير العولمة على العلاقات الدولية والعمل الدبلوماسي منذ بداية القرن الحادي والعشرين حيث أخذت تظهر على الخط الأول مسائل عسكرية وسياسية، رافقتها أزمات عسكرية، ولقاءات قمة، غلبت عليها مسائل التجارة الخارجية، والمالية، وحماية البيئة، والتبادل الإعلامي الدولي وغيرها. - وظهور هنتيجتون س. الذي تحدث في كتابه "تصادم الحضارات" عن الصراع بين سبع حضارات قائمة حالياً في العالم، وبجيزينسكي ز. الذي دعى في كتابه "رقعة الشطرنج العظمى" إلى هيمنة الولايات المتحدة على أوروبا وآسيا.
وبقيت المشكلة أمام روسيا (القطب المنافس السابق للولايات المتحدة الأمريكية قبل انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية) تدور حول التعامل مع العولمة، دون خلق مشكلة منها. والعمل على أن تتكامل روسيا مع العولمة دون إلحاق خسائر بمصالحها القومية، خاصة وأنها تشغل المركز 15 في العالم من حيث عدد أجهزة الكمبيوتر المستخدمة فعلاً، إضافة لتخلفها عن الدول الأوروبية بـ 8 مرات تقريباً من حيث حصة الفرد من عدد أجهزة الكمبيوتر لكل ألف نسمة من السكان، ونسبة المشتغلين في إنتاج تكنولوجيا المعلوماتية وخدماتها التي لا تزيد في روسيا عن 1%، بينما هي أكثر من 20% في الدول المتقدمة. في الوقت الذي يدعو فيه المتفائلون إلى عدم التخوف، مذكرين بالإمكانيات الضخمة التي تملكها روسيا من ثروات طبيعية وبشرية يمكنها إخراج روسيا من أزمتها الراهنة. وهو ما أعلنه رئيس الحكومة الروسية السابق م. كاسيانوف في المؤتمر الدولي لمنظمة الأمم المتحدة للتنمية الذي عقد في جوهانسبرج بجنوب إفريقيا وذكر أن روسيا تملك 25% من احتياطي الثروات الباطنية (12% من الفحم، و13% من النفط، و20% من المياه الصالحة للشرب، و20% من الكوبالت، و27% من الحديد، و30% من النيكل، و35% من الغاز، و40% من البلاتين)، ولكنها كلها خامات، والأسواق الدولية تنتظر المنتجات المتطورة الجاهزة، التي تنتج وتباع وهي غير كافية في روسيا. بالإضافة لمواجهتها بمنافسة شديدة على صعيد الاقتصاد والتجارة الدولية. الأمر الذي يدفعها وبإصرار للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية وهو ما لم يتحقق لها بعد، لتسهل خروجها إلى الأسواق الخارجية، وتبديل هياكل صادراتها. وسعيها من خلال برنامج العشر سنوات للدخول في حلبة التقدم العلمي الاقتصادي الذي تفرضه العولمة. وعلى الرغم من امتلاك روسيا لصواريخ ذرية قوية عابرة للقارات، والعضوية الدائمة في مجلس الأمن بمنظمة الأمم المتحدة، ومشاركتها في مؤتمرات قمة الدول "الثمانية" المتطورة في العالم، ومشاركتها في مؤتمرات الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ، والرابطة الاقتصادية "أوروآسيا"، ومنظمة شنغهاي للتعاون، وغيرها إلا أنه هناك محاولات حثيثة للتضييق عليها على صعيد السياسة الدولية، من أجل تهميش مصالحها الوطنية. حتى أن عضو أكاديمية العلوم الروسية مويسييف ن. كان مضطراً للإعلان عن: أن الهدف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية في السنوات القريبة التالية هو التضييق على روسيا لإخراجها من بحر البلطيق (عن طريق قبول دول البلطيق في حلف الناتو) وإخراجها من البحر الأسود (عن طريق استدراج أوكرانيا إلى حلف الناتو) وحصرها في المحيط المتجمد الشمالي، وتحويلها إلى دولة بحرية شمالية. أو كما كتب بجيزينسكي ز. تحويلها إلى دولة هامشية. وأن هذا الهدف مخفي تحت عبارات براقة عن الشراكة، وعن العلاقات الجديدة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو. المشترك لمختلف الدول، وفتحت الآفاق أمام المجتمع الدولي للتعاون متعدد الأطراف. وأبرزت وزن "الدبلوماسية الاقتصادية"، التي رافقتها "الدبلوماسية البيئية"، مع ازدياد أهمية "الدبلوماسية الشعبية"، و"دبلوماسية التنمية" لحل مشاكل دول الجنوب الفقيرة. الأمر الذي يدعو العالم إلى تشكيل منظومة عالمية لمواجهة التهديدات والأخطار الجديدة، الناتجة عن العولمة في القرن الحادي والعشرين. وهو ما دعى إليه مجلس وزراء خارجية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بجلسته التي عقدها بمدينة بورتو في بداية ديسمبر/كانون أول 2002 بمشاركة روسيا من خلال إصدار قرار لإعداد إستراتيجية تتعامل من خلالها المنظمة مع التهديدات الجديدة للأمن والاستقرار في القرن الحادي والعشرين. وتبعته موافقة الهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة في منتصف ديسمبر/كانون أول 2002 على مشروع القرار الروسي "للتعامل مع تهديدات وأخطار العولمة"، والنظر في إمكانية تشكيل نظام عالمي لمواجهة تلك التهديدات والأخطار، على أن يتم دراستها وتقديم تقرير عنها للدورة التالية للهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة. بينما نرى أن الدبلوماسيون، يفهمون أن العولمة غيرت جوهر جداول أعمال السياسة الدولية، وأفضلياتها، ووسعت من إمكانيات العمل.
العرب والساحة الإعلامية الدولية: وهذا في دولة عظمى سابقة بينما الوضع في الوطن العربي حالياً هو أشد قسوة ويعيش نكبة ليست أقل من نكبة فلسطين عام 1948 عندما قامت القوات الأمريكية والبريطانية بتدمير البنية التحتية للعراق واحتلاله، وهو الذي كان مهداً للحضارة العلمية والفنية والأدبية للإنسانية في عصر بابل، وحمورابي، وهو الذي كان في العصر الإسلامي العباسي مركز العالم ومنارته وأداة تقدمه العلمية والثقافية والحضارية، وهو الذي كان أحد أعمدة الوطن العربي المعاصر، وأحد أهم البلدان النامية في حقبة ما بعد التحرر من الاستعمار الأوروبي. والاجتياحات البربرية التي تستبيح من خلالها القوات الإسرائيلية بدعم كبير من الولايات المتحدة الأمريكية وتدمر البنية التحتية لفلسطين ولبنان وتعمل القتل والتشريد واقتلاع شعبين من مساكنهم وأرضهم على مرأى ومسمع من دول العالم دون أن يحرك ساكناً. حتى أن مؤتمر روما في تموز/يوليو 2006 خرج بما معناه تفويض لإسرائيل يطلق يدها لإبادة ما تستطيع من الشعبين الفلسطيني واللبناني واستكمال تدمير بنيتيهما التحتيتين وتدمير اقتصادهما بالكامل. ليشهد العالم ميلاد الشرق الأوسط الجديد الذي يريدونه دون أي مراعاة لمصالح شعوب المنطقة. وهذه النكبة ليست عربية فقط وإنما هي نكبة للإنسانية وللنظام الدولي وللمنظمة الدولية التي تعتبر عنوانا له وهي الأمم المتحدة التي لم تعبأ بها لا الولايات المتحدة الأمريكية ولا إسرائيل الخارجة على النظام الدولي بحماية ودعم الولايات المتحدة الأمريكية في الشأن الفلسطيني واللبناني والعراقي، وبقرارات الأمم المتحدة بشأنهم، حتى وصلت الأمور إلى قصف المقرات التابعة لهذه المنظمة الدولية في العراق ولبنان بالصواريخ، وهدم تلك المقرات وقتل وجرح من كانوا فيها بما في ذلك الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق لا لشيء إلا لتصريحه بأن الاحتلال الأمريكي للعراق مذل وجارح للعراقيين، ولابد أن الهدف الأساسي من اجتياح العراق كان تحطيم البنية الأساسية لقطاع البحث العلمي العراقي واعتقال كبار علمائه. ووقف الاختراق العلمي الذي حققه العراق ويمكن أن يضمن القوة والمنعة للدول العربية ويضمن لها التقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي والقدرة علي المنافسة في الأسواق الدولية التي يتزايد انفتاحها بشكل تدريجي في ظروف العولمة. وللمقارنة نرى أن إسرائيل خصصت خلال الفترة الممتدة من عام 1989 وحتى عام 2000 نحو 2.38% من دخلها القومي الإجمالي للبحث والتطوير العلمي في الوقت الذي خصصت فيه مصر أقل من 0.2% من ناتجها القومي للبحث والتطوير العلمي، وسورية 0.18%، والإمارات العربية المتحدة 0.45%، والكويت 0.2%، والأردن 0.26%، أما بقية الدول العربية فلم يكن هناك أية مؤشرات عن إنفاقها على البحث والتطوير العلمي، وهذا أقل بكثير من المعدلات الدولية المخصصة للإنفاق في هذا المجال، وأقل بكثير مما تنفقه إسرائيل العدو المصيري للعرب التي أنفقت (3.8) مليار دولار أمريكي علي البحث والتطوير العلمي في عام 2002 فقط وهذا ضعف ما أنفقته الدول العربية مجتمعة في هذا المجال، بالإضافة إلى ترهل الأجهزة الإدارية المشرفة على البحث العلمي التي تستنزف القسم الأكبر من المخصصات الموجهة للبحث العلمي في موازنة الدولة في أغلب الدول العربية. ومن مقارنة بسيطة ليس لثمار البحث العلمي التطبيقية بل في مجال نشر المقالات والدراسات العلمية في مجال التقدم العلمي والتكنولوجي والتقني نرى أن الدول العربية مجتمعة نشرت خلال عام 1999 حوالي (3416) مقالة وبحثاً علمياً، بينما نشرت إسرائيل وحدها (5025) بحثاً ومقالة علمية وهو ما يساعدها على تبادل نتائج البحث العلمي المتكافئ نوعاً ما لتبادل المصالح في مجال التطوير العلمي مع الدول المتقدمة، خاصة وأن إسرائيل استطاعت خلال عام 2001 تصدير منتجات عالية التقنية بلغت قيمتها (7456) مليون دولار أمريكي، بينما بلغت صادرات مصر من تلك المنتجات في ذلك العام نحو (12) مليون دولار أمريكي، وتونس (154) مليون دولار أمريكي، واستوردت الدول العربية مجتمعة منتجات عالية التقنية بقيمة (314) مليون دولار أمريكي، وهذا يعني وبكل بساطة أن الدول العربية ليست منتجة وليست مستهلكة لمنتجات التقنية العالية وهذا الأمر لا يحتاج لأي تعليق. ولكن لا بد من القول أن الدول العربية مجتمعة دون استثناء بحاجة لتطوير مداخلها وتوجهاتها نحو البحث والتطوير العلمي والتكنولوجي ودخول عام التكنولوجيا المتقدمة التي يفرضها دخول عالم اليوم عصر العولمة الشاملة وتتطلب تفعيل مراكز البحث العلمي القائمة وترشيد عملها وإيجاد الناقص منها لتتكامل دائرة التعليم والإعلام والبحث العلمي وإنتاج واستهلاك التكنولوجيا المتقدمة وتنسيق الجهود على صعيد الوطن العربي.
وكمثال أورد الإعلام الذي يعتبره البعض متفوقاً على الساحة العربية دون أي إشارة لمدى الخروقات الغربية للساحة الإعلامية العربية، وعجز الإعلام العربي عن مخاطبة الساحة الإعلامية الدولية وعجزه عن إيصال الخبر والصورة في موعدها دون تأخير وفق منطق ومفهوم وتفوق وسائل الاتصال والتقنيات الرقمية المتطورة عبر الأقمار الصناعية التي استخدمتها بنجاح كبير وسائل الإعلام الأمريكية لتغطية أخبار الأحداث الإرهابية التي وقعت عام 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية والحرب التي يخوضها الجيش الأمريكي حتى الآن في أفغانستان والعراق. وشهدت عمليات التغطية الإعلامية تطورات هائلة في القرن الحادي والعشرين، وأصبحت لا تعترف لا بالحدود الجغرافية ولا بالحدود السياسية لدول العالم، هذا إن لم نتطرق لبنوك المعلومات وطرق التعامل معها بعد تدشين موقع الإعلام الجديد www.ekateb.net الذي اعتبره البعض أول موقع عربي متخصص في مجال الإعلام الجديد يجري تحديثه بصفة دورية بهدف تزويد الإعلاميين العرب بكل ما يحتاجون معرفته عن الإعلام الجديد New Media، والتكنولوجيا المرتبطة به ومدى تأثيرها على الصناعة التي يعملون بها سواء كانت إعلاماً مقروءاً أو مرئياً أو مسموعاً، ولكن تلك المصادر (حسنة النية) لم تشر ولو بالتلميح لا لمصادر تمويل الموقع ولا لمصادر تلك المعلومات التي ستلبي وجهة نظر مموليها لتمريرها عبر موقع الإعلام الجديد، ولا لتوجهات تلك المصادر التي سيكون لها تأثير كبير دون شك على الوعي العربي وخاصة وعي الإعلاميين البسطاء الذين سينقلون عن موقع الإعلام الجديد عن حسن نية.
وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية كأدوات للنظم السياسية: تواجه وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية مجموعة من التحديات الدولية رافقت التغيرات الهائلة في أشكال ملكيتها وهياكلها التنظيمية والإدارية وانتشارها الواسع خارج الحدود الوطنية بفضل التطورات المتسارعة في تكنولوجيا الاتصال والمعلوماتية والإنتاج الصحفي خلال القرن الماضي، وأفرزت هذه التغييرات مجتمعة تعديلات جوهرية في السياسة الإعلامية، وفي مفاهيم المسؤولية المهنية والاجتماعية للإعلام والاتصال الجماهيرية داخل المجتمعات. وبقيت مشكلة التحديث والتطوير لتدعيم قدراتها على المنافسة عن طريق إحداث تغييرات ثقافية ومهنية وفي طرق وآليات التحكم بالعمل الصحفي التي كانت دائماً العامل الرئيسي لما وصلت إليه وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية الوطنية. ولعل تحديث وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية، مرتبط بتغيير البيئة والأطر القانونية والمهنية التي تتحكم بأدائها لتعطي الصورة الشاملة لمؤشرات التعايش مع المشكلات، ومواجهتها وليبقى الإصرار على طرح المشكلات مفيدا للوصل إلى حلول تمكن وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية من مواكبة عصر "العولمة"، سيما وأن الصحفيون هم صناع التفاؤل وزراع الثقة بالمستقبل. وتميزت التجربة العربية السورية بعد ثورة الثامن من آذار عام 1963 بتغير النظرة إلى المهنة الصحفية ووسائل الإعلام والاتصال والجماهيرية باتجاه نحو إخراجها من واقع المشروع الاستثماري التجاري، إلى العمل التثقيفي والتوعية الفكرية التي تقدم خدمة تشمل جميع الشرائح الاجتماعية، من خلال الالتزام بمصالح الجماهير، ولكن دون نفي ما قامت به الصحافة قبل ذلك الحدث الهام في تاريخ الجمهورية العربية السورية لأن الصحافة قامت بالفعل بمثل تلك الخدمات والمهمات، وكان التزامها قائما من خلال مفهوم أنه لا حياد في العمل الصحفي، وكانت كل صحيفة ملتزمة بخط هذا الحزب أو ذاك، أو هذه الفئة أم تلك من الفئات والشرائح الاجتماعية وهو ما ينفي الحياد غير الملتزم. وبعد قيام الثورة تبنت الدولة مشروعاً إعلامياً وطنياً يتضمن تمويل وإدارة وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية وانتهى معه إصدار الصحف والنشرات والمجلات الخاصة. ولكن البعض يشيرون إلى بروز حزمة من التأثيرات السلبية على الإدارة وبيئة العمل الصحفي والمهني والتمويلي في المؤسسات الصحفية ووسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية، نتجت عن ملكية الدولة لوسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية خلال الأربعين عاماً التي مضت وتحولها إلى مشكلات تكاد تكون مستعصية الحل. ومعها لوحظ استجابة الحكومة للتعامل مع الكثير من القضايا والمشكلات التي هي بحاجة للمعالجة وتخدم قضية التطوير والتحديث. وهذه مسألة غاية في الأهمية، لأن حالة من المصداقية تكرست بين وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية وجمهورها، الأمر الذي دفع البعض لطرح المشكلات بروح عالية من المسؤولية الوطنية والأخلاقية في سعي لتصويب ما اعوج في إطار العلاقة الموضوعية بين وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية وأجهزة الإدارة الحكومية، للارتقاء بتلك العلاقة لمستوى فريق العمل الواحد، غايته بناء الوطن على أسس قوية ومتينة، وللارتقاء بالعمل الإعلامي وتحسين أدواته ليكون إعلاماً يواكب متطلبات العصر والتحديات التي يواجهها وليكون الإعلام العربي السوري بالحجم الذي تتمتع به السياسة العربية السورية، وليكون الإعلام سلطة رابعة تبحث عن الحقائق وتقدمها للآخرين. وهنا لابد من الإشارة إلى ما أشار إليه السيد الرئيس بشار الأسد في أكثر من مناسبة عن دور الإعلام وضرورة وضع آليات وتصورات وحلول للمشكلات التي يواجهها والإسهام في تطويره والنهوض به. ودعوته إلى ضرورة تحديد دور جديد للإعلام مشدداً على أهمية المعلومة وتحليلها لتشكيل رؤية متكاملة، وإلى حاجة الإعلام لانسياب المعلومات الدقيقة والصحيحة إلى وسائل الإعلام مركزاً على دور الإعلاميين في توظيفها لتوضيح السياسة التي تنتهجها الدولة وتفنيد الحملات الإعلامية التي تتعرض لها سورية. وفي هذا الاتجاه نرى أن وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية في سورية هي اليوم أحوج من أي فترة مضت لدراسات متخصصة في التحليل السياسي والإعلامي تسمح بالتعرف على الواقع الفعلي الذي تعيشه وتساعد المسؤول على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب خاصة وأن المصادر العلمية تطالعنا بأن كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية يملك نظامه السياسي الخاص به، ويشمل كل نظام آليات معينة لتحقيق وظائف السلطة السياسية كنظام اجتماعي متكامل، ومفهوم النظام السياسي هو من الأسس التي تعتمد عليها العلوم السياسة لدراسة جميع أوجه الحياة السياسية وتمييزها عن غيرها من مكونات الحياة الاجتماعية الإنسانية. وتتفاعل تلك المكونات فيما بينها ضمن المحيط الذي تعيش داخله لتكوِّن علاقات معينة تربط بين البنى المكونة للمجتمع الواحد.
والنظام السياسي هو عبارة عن مجموعة من المكونات المتتالية المتفاعلة فيما بينها ومع غيرها من المكونات التي تشكل تركيبة البنى الأساسية للمجتمع الإنساني من اقتصادية، وسياسية، وفكرية، وثقافية، وتشريعية، ودينية. ويعتمد اتساع النظام السياسي على مدى الحدود المشتركة للأطر المتفق عليها سياسياً ضمن النظام الملزم والواقعي والممكن تطبيقه. ويشمل النظام التشريعي جميع الأصعدة والمستويات التي تركز على مدى فعالية القوانين النافذة في إطار نظام لا مركزي يتيح تطبيق تلك القوانين. ومفهوم النظام السياسي الحديث كما يشير البعض أخذ بالتشكل في أواسط القرن العشرين، واعتبر آنذاك تطوراُ منطقياً للعلوم السياسية وضرورة منطقية لمتابعة الحياة السياسية ومواقف النظم السياسية ومقارنتها مع غيرها من النظم والمواقف، ودراسة بعض نماذج النظم السياسية للوصول إلى تصور معين للمواقف وآليات أداء الوظيفة السياسية للنظام المدروس. وتعتبر تلك المراجع العلمية أن الأمريكيين أستون د.، وألموند غ. كانا من أوائل واضعي أسس نظرية النظم السياسية في العالم الغربي. فقد وضع الأمريكي د. أستون في أعماله "النظام السياسي" (1953)، و"حدود التحليل السياسي" (1965)، و"التحليل المنهجي للحياة السياسية" (1965) مدخلاً لتحليل النظم السياسية، شمل: البرلمانات، والحكومات، والإدارات المحلية، والأحزاب السياسية، والهيئات الاجتماعية، واعتبر أستون أن النظام السياسي هو نظام يتضمن آليات متطورة لضبط التفاعلات الذاتية لإدارة الحكم التي يمكنها ضبط التأثيرات الآتية من خارج النظام السياسي.
وتحتفظ النظم السياسية عادة بمداخل معينة تعبر من خلالها عن نفسها بالطرق والوسائل التي تعكس وتعبر عن تفاعلات التطور الاجتماعي، وتأتي تلك التفاعلات عادة على شكل مطالب اقتصادية وسياسية واجتماعية معينة، يطالب بها البعض ويؤيدها أو لا يؤيدها البعض الآخر داخل التركيبة الاجتماعية، وتتشكل تلك المطالب عادة داخل الوسط الاجتماعي المحيط بدائرة السلطة الحكومية، أو من داخل النظام السياسي السائد في المجتمع. وتعبر الشرائح الاجتماعية عن تأييدها للنظام السياسي عن طريق التزامها بدفع الضرائب، وأداء الخدمة العسكرية الإلزامية، والتقيد بالقوانين النافذة، والمشاركة الإيجابية بالتصويت في الاستفتاءات والانتخابات العامة، وبالتعاطف مع السلطات الحكومية من خلال تأييدها للشعارات المطروحة على الرأي العام. وبغض النظر عن وجود أو عدم وجود مطالب محددة لدى بعض الشرائح الاجتماعية فإن التأييد العام المعبر عنه من قبل أكثرية الشرائح الاجتماعية، يصبح جزءاً من كيان النظام السياسي الذي يلتزم بأخذ المطالب المطروحة بعين الاعتبار، ولكن بما لا يتعارض مع مصالح مختلف عناصر التركيبة الاجتماعية، وتلتزم السلطة الحكومية باتخاذ إجراءات معينة لا تخل بالمصالح الوطنية العليا للدولة، وتلبي مطالب شريحة اجتماعية معينة من خلال إعادة النظر مثلاً بسلم الأجور المطبق تلبية لحاجات تلك الشريحة الاجتماعية وعلى ضوء مجريات الأحداث والتطورات الاقتصادية والاجتماعية المحققة فعلاً.
مصادر المعلومات: وتأتي الأفعال السياسية والقرارات المتخذة عادة استجابة للمعلومات المتوفرة عن كيفية أداء النظام السياسي لوظيفته المحددة والمؤثرة في المجتمع وينعكس تأثيرها عن طريق تأييد المجتمع لتصرفات النظام السياسي في حال إذا كانت القرارات أو الأفعال السياسية متفقة مع المنتظر أو المطلوب من قبل الجماعات أو الشرائح الاجتماعية بما يعزز الاستقرار الاجتماعي. ولكن في حال عدم تلبية القرار السياسي للمطلوب أو المنتظر بشكل كامل أو جزئي، فمن الممكن حدوث ردود فعل سلبية قد تؤدي إلى ظهور مطالب جديدة يمكن أن تؤدي بدورها إلى أزمات جزئية أو كاملة للنظام السياسي عن طريق تكاثر التفاعلات التي قد تهدد الاستقرار الاجتماعي لأن تلك المطالب ما هي إلا تعبير عن مصالح الشرائح الاجتماعية المختلفة. وقسم أستون تلك المطالب إلى: مطالب تتعلق بالدخل وظروف العمل؛ ومطالب تتعلق بالظروف المتاحة للحصول على فرص التعليم، والخدمات؛ ومطالب تتعلق بنظام توفير الأمن في المجتمع، والتحكم بالأسواق وغيرها من المطالب المتعلقة بالإدارة الحكومية؛ ومطالب معلوماتية واتصالية ترتبط بالحصول على المعلومات السياسية، التي تظهر مدى تمتع الحكومة بالقوة السياسية وغيرها من المعلومات وسبل الحصول عليها.
ويعتبر النظام السياسي منفتحاً في حال خضوعه لجملة كبيرة من تأثيرات الوسط الاجتماعي المحيط به. وتكون تلك التأثيرات ضعيفة في حال افتقاره للمعلومات الكافية لاتخاذ قرارات تحافظ على الاستقرار الاجتماعي، وتكون تلك التأثيرات قوية وباتجاه واحد عندما يتخذ النظام السياسي قرارات تصب في مصلحة شريحة اجتماعية معينة، الأمر الذي يزعزع ويهدد الأمن والاستقرار الاجتماعي. وقد تؤدي صعوبات التعامل مع سيل المعلومات المتدفقة بشكل كبير إلى اتخاذ قرارات خاطئة، وتأتي ردة فعل النظام السياسي بشكل أساسي من خلال الحقائق المستمدة من الأغراض التي ترغب السلطة السياسية تحقيقها، وردود الفعل الناتجة عن تأثير تلك القرارات على الشرائح الاجتماعية ومدى قبول تلك الشرائح للقرارات التي تمثل قيم توزيع السلطة السياسية.
ويرى ألموند عكس ما يراه أستون من أن للنظام السياسي تأثيرات متبادلة ناتجة عن التصرفات الحكومية وغير الحكومية تحتاج للدراسة والتحليل، ويرجح أن لكل نظام سياسي تركيبة خاصة به متعددة الوظائف؛ وأن كل نظام سياسي يسعى إلى تحقيق وظائف مختلطة تعكس وظائف النظام السياسي العام بكل خصائصه، ومنها مبادئ تقسيم السلطة السياسية عن طريق تدخل السلطة التشريعية (البرلمان) بإصدارها للقوانين الملزمة لصالح السلطة التنفيذية المتمثلة بسلطة رئيس الدولة والحكومة، وعن طريق تدخل السلطة التنفيذية في عملية إصدار تلك القوانين أو تعطيل إصدارها كما هو جار في مختلف دول العالم، أي أنه ليس هناك سلطة تنفيذية رئاسية خالصة، ولا سلطة تشريعية (برلمانية) خالصة. ويحاول ألموند سد النقص الحاصل في نموذج أستون عن طريق وجهة نظره الداعية لمراعاة السيكولوجية الفردية عند تناول موضوع تبادل التأثيرات السياسية الآتية من خارج النظام السياسي، ومن داخل الطبقة الحاكمة نفسها خاصة عندما يكون الموضوع متعلقاً باتخاذ قرارات تسمح باستخدام القوة ضد شرائح اجتماعية معينة داخل الدولة، أو مصيرية باتخاذ قرار الحرب ضد عدو خارجي يهدد المصالح الحيوية للدولة أو وحدة أراضيها. ويعتبر ألموند أن المعلومات اللازمة لتمكين الجهود الموجهة لتعبئة الرأي العام الاجتماعي حول السياسات المتبعة من قبل النظام السياسي، تستمد من تحليل المصالح الوطنية ومواقف القوى السياسية المختلفة على الساحة الوطنية منها، وتحليل العلاقات المتبادلة بين تلك القوى ومدى التزامها والتزام السلطة التنفيذية بتلك المصالح عند وضعها للسياستين الداخلية والخارجية، والتزامها بالقاعدة القانونية التي وضعتها السلطة التشريعية، وطريقة تعامل السلطة السياسية مع المشاكل المكتشفة.
وما تلك النماذج إلا محاولة لتحليل أطر المصالح المختلفة للشرائح الاجتماعية داخل النظام السياسي ومدى توافقها وتضاربها مع المصالح الوطنية العليا، ومدى تفاعل الأطر السياسية داخل نظام الإدارة الشاملة للمجتمع وطريقة ضبط العلاقات المتبادلة بين تلك الأطر لتوفير الاستقرار للنظام الاجتماعي وتوفير سبل استخدام السلطات الحكومية.
ويسمح التحليل السياسي: بالتعرف على الحياة السياسية كنظام يعكس تصرفات وردود فعل أفراد الطبقات والشرائح الاجتماعية، ويحدد آليات تأثير الفعاليات السياسية وأداء المؤسسات السياسية وهياكلها، أولاً؛ وبتوفير إمكانية فهم السياسة ككيان موحد ويوفر إمكانيات تحليل طرق عملها المشتركة ضمن الوسط المحيط، والتعرف على أجزائها التي تكون طبيعة عملها سواء أكانت اقتصادية، أم ثقافية، أم شريحة اجتماعية معينة ثانياً؛ وبالتعرف على طريقة أداء أهم الوظائف السياسية والمتمثلة بتأمين الوحدة الوطنية، وعدم تفتيت الكتلة الاجتماعية، وعدم تجاوز الخلافات الكثيرة، وتنوع الاتجاهات خلال مراحل العمل السياسي، أي أن النظام السياسي يمثل وسيلة من وسائل التكامل والتضامن الاجتماعي، ويتضمن تأثيرات متبادلة تعكس الخلافات الاجتماعية حول طريقة أداء الأقسام الرئيسية المكونة للمجتمع لوظائفها ثالثاً.
ومفهوم النظم السياسية يعكس الوحدة الموضوعية بين نشاطات الأجهزة السياسية، والتفاعلات الجارية ضمنها، لأن دراسة كل منها يوفر إمكانية تحليل ومقارنة مختلف الأطر التي تمثل الحياة السياسية، وتحدد مقاييس وصفها وتحليلها، ويرتبط تشكل النظم السياسية إلى حد كبير بالعلاقات السياسية القائمة داخل المجتمع الواحد من خلال: الارتباطات المتبادلة والثابتة لمختلف عناصر الحياة السياسية لأنها ضرورية وغيابها يؤدي إلى نفي الوحدة التنظيمية، ويؤدي إلى تحلل النظام السياسي، وإلى خلق ظروف اجتماعية غير قابلة للتكامل أولاً؛ وتنظيم العلاقات السياسية في المجتمع لخلق الظروف المثالية لتوفير الاستقرار السياسي والتطور الاجتماعي المنشود الذي من دونه لا يمكن توفير الظروف الملائمة للإنتاج وإجراء التغييرات اللازمة لخلق علاقات اجتماعية سليمة ضرورية لقيام الدولة بواجباتها ودفع الجماعات السياسية للبحث عن بدائل تحول دون انفجار أزمات تهدد النظام القائم، لا يحمد عقباها في أكثر الأحيان ثانياً؛ والأسس الثقافية التي هي قيم أخلاقية، ومجموعة شعارات سياسية، وقناعات، لأعضاء الجماعات السياسية وهي ضرورية لدى النظم السياسية لتوفير إمكانيات تكامل الجو السياسي العام وخلق الظروف المؤاتية لإيجاد علاقات وطنية معينة، تمكن أعضاء المجتمع من فهم بعضهم البعض، وتظهر الخبرات التاريخية أن النظم السياسية، قادرة ولفترات طويلة، على الاستقرار والبقاء من خلال قيم وعلاقات وطنية معينة، يتقاسمها أكثرية أعضاء المجتمع الواحد، ومتأصلة في نظام التربية الوطنية والتعليم العام وتربط بين الإيمان بالله أولاً، والعمل السياسي لرفعة الوطن ثانياً. ثالثاً؛ والاستجابات المشتركة لكل العناصر الداخلية وللتأثيرات الخارجية من قبل مختلف النظم السياسية بشكل يؤدي إلى فعاليات مشتركة، وتعاون يسمح للنظم السياسية بإمكانية تعبئة الموارد الضرورية لمواجهة المشاكل العامة بشكل سريع. وتوفر للأجهزة الحكومية فرصة الحصول على مساندة الجميع والحصول على تأييد الهيئات الاجتماعية والأحزاب والمنظمات السياسية والرأي العام رابعاً.
وتتلخص فكرة المدخل المنهجي لتحليل التفاعلات السياسية في دراسة النظم السياسية بإطار شامل يشمل البنى التحتية للنظام السياسي والعناصر التي يتشكل منها، وهنا لابد من الإشارة إلى ضرورة تحديد المصطلحات، والمفاهيم والنظريات السياسية وإيضاح العلاقات المشتركة بينها، لأن النظم السياسية ما هي إلا عبارة عن أنظمة مفتوحة أمام التأثيرات الداخلية والخارجية وتدرس في نطاق العلوم السياسية. وتملك النظم السياسية آليات متباينة في مقاومتها للتأثيرات الخارجية، والأزمات الداخلية، والتفاعلات والتناقضات، وتفرض التفاعلات السياسية عادة إما تعديل السياسة، أو النظام السياسي، أو طبيعة العمل السياسي للشخصيات والأحزاب السياسية، وتهتم الدراسات السياسية حصراً بظواهر الأزمات وتفاعلاتها في مراحلها المبكرة في محاولة لضبطها والسيطرة عليها بأقل الخسائر الممكنة.
وللهيئات الدينية والاجتماعية دور هام في ما تطرحه وسائل الإعلام الجماهيرية وفي النظم السياسية أيضاً، لأن النظم السياسية بالنسبة للمتخصصين في العلوم السياسية ما هي إلا منظمات ومؤسسات سياسية لها معايير قانونية وأخلاقية وتقاليد سياسية تلتزم بها في نشاطاتها المختلفة، ولها وظائف تشمل ممارسات سياسية تؤدي إلى تفاعلات سياسية مختلفة وطرق وأساليب في ممارسة السلطة والحكم، وتستخدم وسائل للاتصال وتبادل المعلومات مع الهيئات والمنظمات والأحزاب والحكومات وتشمل تلك الاتصالات الأوجه السياسية والفكرية والثقافية والاقتصادية، وتتفق معظم المراجع العلمية العربية والأجنبية بالإشارة إلى وجود أربع مجموعات تكوِّن العناصر الأساسية لأي نظام سياسي تشمل: التنظيم السياسي؛ والعلاقات السياسية؛ والقواعد القانونية التي يستمد منها النظام السياسي شرعيته؛ ومدى الوعي والثقافة السياسية. والنظم السياسية تستمد عناصر أداء وظائفها الاجتماعية الأساسية من الدستور والقوانين النافذة التي تضبط مبادئ نشاطات أجهزة السلطة الحكومية من حقوق وواجبات تتمتع بها الأجهزة الحكومية والمنظمات والمؤسسات الحزبية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من عناصر المجتمع. ويعني تجاوز النظم السياسية للدستور والقوانين النافذة إلغاء شرعيتها.
والمؤسسات السياسية هي جزء أكثر حيوية في النظام السياسي. لأن أي شكل من أشكال النشاطات السياسية يتم من خلال الأشكال المنظمة للعمل المشترك، والانضواء تحت أهداف واحدة وقواعد خاصة، وحدوداً مشتركة اتفقت عليها جماعة معينة، ويعود الفضل للتنظيمات السياسية في تحقيق تحول القوة الأيديولوجية والأخلاقية إلى قوة ملموسة في المجتمع، من خلال الأفكار التي تصبح قواعد للسلوك العام، وبالتالي تتحول المنظمة إلى أهم وسيلة لتشكيل الإرادة الموحدة للتنظيم المعني، وعندما تعجز الجماهير في الدولة عن إقامة علاقات سياسية واضحة، وتفتقر إلى أي نوع من أنواع العلاقات السياسية، وتفشل في تطوير منظماتها السياسية، يحل محلها الجيش، أو العشيرة، أو القبلية، أو الهيئة الدينية لتقوم بالدور المطلوب من المؤسسات والمنظمات السياسية، وتعتمد شرعية التنظيمات السياسية على الشكل القانوني الذي تحصل عليه ويميزها عن غيرها من المؤسسات الاجتماعية ويساعدها على تحويل الأفكار والقواعد إلى أساليب تتصرف من خلالها كمنظمة سياسية في المجتمع. وانعدام الشكل القانوني يؤدي إلى انهيار تلك التنظيمات وشرذمة الأفراد المنتمين إليها مما يؤثر سلباً على التفاعلات السياسية الجارية في المجتمع.
والنظام السياسي في المجتمع هو عبارة عن تلاحم المنظمات والمؤسسات والهيئات التي تقوم بوظائف محددة بشكل مشترك لتحقيق السلطة السياسية في المجتمع. ويتضمن النظام السياسي: أجهزة السلطة الحكومية، والأحزاب والمنظمات والهيئات الدينية والحركات الجماهيرية، ووسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية الفاعلة في المجتمع. وتعتبر الحكومات والأحزاب الحاكمة منظمات سياسية وهذا يعني أنها تؤدي وظيفة السلطة السياسية بحجمها الكامل، وهو ما تسعى إليه الأحزاب السياسية من خارج السلطة، عبر الصراع الذي تخوضه من أجل الوصول إلى السلطة. بينما تعمل المؤسسات المهنية والاجتماعية: كالنقابات، ومنظمات الشباب، والنوادي الرياضية، والاتحادات المهنية، والجمعيات، للوصول إلى السلطة السياسية، عن طريق وظيفة غير مباشرة تتمثل بدعم مرشحين مؤيدين لمصالحهم لخوض الانتخابات الجارية والحصول على مقاعد برلمانية. وتعبر المنظمات السياسية والمهنية والاجتماعية عن تطلعاتها وأهدافها من خلال وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية التابعة لها وتسهم من خلالها في دفع عملية التفاعلات السياسية في المجتمع، انطلاقاً من الإطار القانوني الذي تم من خلاله تسجيل تلك المنظمات وفقاً للأصول المتبعة لدى الأجهزة الحكومية وهو ما يعني وجود نوع من المتابعة أو الرقابة الحكومية على نشاطاتها.
وتتمتع سائل الإعلام والاتصال الجماهيرية بمكانة خاصة في النظام السياسي لأن وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية هي مؤسسات معقدة تلعب دوراً هاماً ضمن التفاعلات السياسية الجارية في المجتمع من خلال تركيزها على نشر المعلومات وإعلام الشرائح الاجتماعية عما يجري من أحداث وظواهر في الدولة وغيرها من دول العالم. وتعتبر وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية في بعض الدول "سلطة رابعة" إلى جانب السلطات الدستورية الثلاثة الأخرى وهي: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، وتتمتع باستقلال نسبي في صياغة الخبر السياسي لتشكيل رأي عام مؤثر بشكل مباشر في التفاعلات السياسية داخل المجتمع المعني من خلال توفيرها خدمات تربوية وثقافية وسياسية لأوسع الشرائح الاجتماعية. ولوسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية في عصرنا الراهن جملة من التأثيرات الهامة على عمليات التفاعلات السياسية والاجتماعية الجارية في مختلف المجتمعات، فهي مؤسسات إعلامية تتبع أو تدور في فلك الحكومات، أو الهيئات الاجتماعية، أو المنظمات المهنية، أو الشعبية، أو الأحزاب السياسية، وأصبحت وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية تعمل ضمن ساحة إعلامية باتت مفتوحة، بعد التطور الهائل الذي حصل في مجال وسائل الاتصال العالمية ووفرت فرص الإطلاع على المواد الإعلامية الموجهة لشرائح اجتماعية معينة ولتحقيق وظائف معينة حيثما تتواجد تلك الشرائح، والمشاركة في الحوار الدائر بين المؤسسات الإعلامية والساحة الإعلامية بشكل مباشر عبر شبكات الانترنيت الدولية وهو ما يعتبر تفاعلاً جديداً يضاف إلى جملة التفاعلات الجارية على الساحة الإنسانية ولم تكن متوفرة قبل الربع الأخير من القرن الماضي، ودخول عالم اليوم عصر "العولمة" الإعلامية. ولوسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية وجهات نظرها الخاصة في إطار التفاعلات السياسية الجارية في المجتمع، وهي من خلال اهتمامها بمصالح الشرائح الاجتماعية المختلفة التي تتوجه إليها تعمل على تفعيل تكامل التفاعلات السياسية بين الإدارة الحكومية والشرائح الاجتماعية وتعمل على تكوين وجهات نظر معينة من القرارات الحكومية والقوانين، من خلال مساهمتها في صياغتها ونشر مشروعاتها وإدارة المناقشات الدائرة حولها بمشاركة أوسع الشرائح الاجتماعية.
وتختار وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية في مختلف النظم السياسية بشكل دقيق المعلومات اللازمة لنشرها عن قرارات أجهزة السلطة السياسية وتراقب مدى التقيد بها بمختلف الطرق المباشرة وغير المباشرة. وكقاعدة عامة تتضمن المعلومات الواردة من البنية الفوقية في هرم السلطة السياسية جملة من الإبهامات تسبب مصاعب معينة للقنوات الإعلامية القائمة بالاتصال عند التعامل معها ومع سيل المعلومات المتدفق من البنية التحتية في هرم السلطة السياسية عبر مختلف قنوات الاتصال وتعبر عن رأي الجماهير الواسعة حول الموضوع المثار للمناقشة. ومعروف أن الصلة بين البنية الفوقية، والبنية التحتية في هرم السلطة السياسية تتم من خلال وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية ومن خلالها يتم التعبير عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تعكس الحالة النفسية للرأي العام الذي تؤثر فيه وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية بشكل مباشر سلباً وإيجاباً. وتسعى السلطات السياسية دائماً لممارسة الرقابة لضبط ممارسات وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية بشتى الطرق، بعد أن أصبح من الواضح أن من يسيطر على التدفق المعلوماتي يؤثر في عملية تكوين الرأي العام والوعي وتوجيه ردود فعل الجماهير الواسعة في المجتمع المستهدف، وقد تؤدي الحملات الإعلامية المعارضة في النظم الديمقراطية إلى إثارة فضائح وأزمات سياسية، وحتى إلى استقالة بعض القادة السياسيين، أما في النظم السياسية الشمولية فعلى العكس من ذلك تماماً لأن وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية تمارس دور الرقيب على نشاطات الشخصيات الاجتماعية البارزة والجماعات بمختلف اتجاهاتها وحتى بعض الأفراد، وتشن هجمات مركزة ضدها لصالح النظام الشمولي الذي تتبع له.
وتبقى علاقة وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية بالدول والأجهزة الحكومية وبالقادة السياسيين والأحزاب والجماعات التي يمثلونها متناقضة إلى حد كبير ومع ذلك فإنها تلعب دوراً مهماً في فضح تجاوزات أجهزة السلطة لصلاحياتها، وفضح أي اختراقات قد تحدث للقانون، وتدافع عن مصالح الجماهير أمام التصرفات غير المسؤولة من قبل البعض في أجهزة الحكم، وفي نفس الوقت تبقى الأجهزة الحكومية والقيادات السياسية مضطرة للتعامل الإيجابي مع وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية ومنحها قدراً من الاستقلالية وحرية التصرف كي لا تفقد ثقة الجماهير، وتستغل وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية تلك الحرية لتعزيز شخصيتها كمصدر هام للمعلومات لأجهزة السلطة الحكومية وللشرائح الاجتماعية في آن معاً. ومع تحول وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية إلى اتحادات تجارية أصبح همها الأول تحقيق الربح ولو على حساب المصلحة العامة من خلال الحرية التي أصبحت تتمتع بها، ومع انعدام الرقابة الحكومية تقريباً على ما تنشره، برز نوع جديد وفعال للتأثير على وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري تمثل بسلاح المعونات المالية وحجب أو تخصيص الإعلانات التجارية التي تعتبر من المصادر الأساسية لتمويل وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية في عالم اليوم، ومع ذلك تبقى وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية العامل الهام في عمليات التفاعلات السياسية الجارية في المجتمع وتسهم إلى حد كبير في تطور الحياة السياسية فيه.
وهنا يجب أن لا ننسى الدور الهام الذي تلعبه المنظمات والهيئات الدينية ورجال الدين في عملية التفاعلات السياسية الجارية ضمن المجتمع من خلال الأفكار والمبادئ الأخلاقية والسلوكية التي يطرحونها وتؤثر مباشرة في الطبيعة الإنسانية وبالقناعات السياسية السائدة في المجتمع، هذا التأثير القائم منذ أقدم العصور يفسر التشابك الحاصل بين الدين والسياسة والاقتصاد دائماً والغاية منه ضبط السلوك الفردي منذ الولادة من خلال التربية في البيت وفي الحياة اليومية والمهنية، وأثناء تلقي التعليم المدرسي والعالي، ومن خلال النشاطات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهو ما يفسر أسباب استغلال بعض القوى السياسية للمشاعر الدينية لدى الجماهير الواسعة لتحقيق مكاسب معينة. ويستخدم السياسيون الأفكار الدينية في جميع المجالات السياسية الداخلية والخارجية للوصول إلى أهداف معينة والمحافظة عليها قدر الإمكان ضمن القواسم المشتركة التي تربط المجتمع الواحد والمجتمعات التي تشترك بإتباع دين أو مذهب واحد، وكثيراً ما يتم إقحام الأفكار الدينية في المقولات السياسية لمواجهة النفوذ المتصاعد لرجال الدين أو حركات دينية معينة حتى ولو كانت تلك المقولات موجهة ضد مصالح الجماهير العريضة المنتمية لدين معين.
وهنا تبرز أهمية دراسة علاقات التأثير المتبادل بين الدين والسياسة وعلاقة الأديان ببعضها البعض خاصة في المجتمعات متعددة الأديان والمذاهب بشكل دائم، ودراسة علاقة الدين بالهيئات والمنظمات والجماعات التي تدخل في إطار نظام سياسي وتشترك في إدارة المجتمع. وتشمل تلك الدراسات عادة دراسة العلاقات بين الطبقات والشرائح الاجتماعية الكبيرة التي يتشكل منها المجتمع، والعلاقة بين الثقافات والقوميات والدول، والعلاقة بين القيادات وأجهزة السلطة الحكومية المركزية والإدارة السياسية بمختلف مستوياتها، والتفاعلات الناتجة عن تلك القيادات اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، والعلاقة القائمة بين المؤسسات والمنظمات السياسية والاجتماعية. وتأخذ هذه الدراسات في اعتباراتها الأسس الدستورية والقانونية التي يتم من خلالها تنظيم علاقات وتقاليد العمل السياسي، والمكونات الداخلية للمنظمات والهيئات الاجتماعية وبرامج الأحزاب والحركات السياسية والقواعد التي يتم من خلالها الحصول على شرعية العمل السياسي والاجتماعي وتضبط التفاعلات الجارية بينها، ومدى تأثير تلك التفاعلات على عملية تشكل الوعي والسلوك العام الذي يتفق وتلك الأهداف والمبادئ التي تسيّر المجتمع، كما وتظهر هذه الدراسات مدى الوعي والثقافة السياسية التي تتمتع بها الطبقات والشرائح الاجتماعية المقصودة من الدراسة، والتي من خلالها يجري التنافس الاقتصادي والاجتماعي والسياسي مع السلطات الإدارية في المجتمع ومدى مراعاة تلك السلطات لمشاعر الجماهير. وتأخذ باعتبارها النظام الذي يضبط التفاعلات السياسية في أي مجتمع ويؤدي وظائف معينة منها: تحديد أهداف المجتمع؛ وإعداد البرامج الحياتية التي تتفق ومصالح الشرائح التي تدير المجتمع؛ وتعبئة إمكانيات المجتمع بما يتفق مع تلك المصالح؛ وتوزيع القيم الاقتصادية التي تتصادم فيها مصالح الجماعات والشرائح الاجتماعية، وتوفر وحدة المجتمع، وتمكن من السيطرة على الحياة السياسية لدى تلك الشرائح والطبقات الاجتماعية، تجنباً للوقوع في أزمات؛ وتؤدي إلى التفاف المجتمع حول تلك الأهداف والقيم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ومن المتفق عليه أن هذه الوظائف ممكنة التحقيق في حال توفر تطور معين في النظام السياسي السائد في المجتمع، يؤدي إلى تجنب ظهور متناقضات اجتماعية تؤدي إلى نشوب صراعات وقلاقل اجتماعية ناتجة عن الخلل في توزيع الموارد الاقتصادية، والامتيازات السياسية، والثقافية، والتعليمية، والخدمات بين جميع الطبقات والشرائح التي يتشكل منها المجتمع المعني.
آفاق التبادل الإعلامي الدولي في إطار العلاقات الدولية: معروف أنه هناك دور مطلوب من الإعلام الدولي يؤديه في إطار العلاقات الدولية المعاصرة، ويلبي من خلاله جوانب مختلفة من توجهات السياسة الخارجية للدول، ومعروف أن السياسة الخارجية لأي دولة مستقلة تتمتع بالسيادة الوطنية هي نتاج لعدة عوامل مشتركة داخلية وإقليمية ودولية. تتناول العوامل الداخلية منها التراث الفكري والثقافي والتاريخي، والأوضاع الاجتماعية والتركيبة السكانية، والمقدرات الاقتصادية والعسكرية، إضافة للتركيبة السياسية في المجتمع. أما العوامل الإقليمية، فترتبط بالنظام الإقليمي السائد في الإقليم الذي تنتمي إليه تلك الدولة، ومدى تأثر السياسة الخارجية للدولة في هذا النظام، ومدى تفاعل عناصر القوة داخل الإقليم، وعلاقة النظام الإقليمي بالنظام العالمي، كإقليم جنوب شرق آسيا، وإقليم آسيا المركزية، والعالم العربي، وحوض البحر الأبيض المتوسط، وحوض الكاريبي، وإقليم جنوب شرق آسيا، وغيرها من الأقاليم. أما العوامل القارية فترتبط بتفاعل عناصر القوة على مستوى القارة بكاملها، والأنظمة السائدة فيها وإمكانية تأثيرها في السياسة الدولية كما هي الحال في الإتحاد الأوروبي ومنظمة الوحدة الإفريقية مثلاً.
والعوامل الدولية تتناول النظام الدولي بشكل عام، وخصائصه، وتطوره، وأبعاده، والعلاقة بين الدول الكبيرة والدول الصغيرة، والدول الغنية والدول الفقيرة، وعناصر القوة لدى الأطراف الدولية المختلفة، وهيئاته الدولية كمنظمة الأمم المتحدة مثلاً، ومدى تأثيرها على السياسات الخارجية لدول العالم. واعتماداً على كل تلك الحقائق يتم رسم وتشكيل السياسة الخارجية للدولة من قبل أجهزة رسم السياسة الخارجية للدولة، وكثيراً ما تكون هناك مؤسسات رسمية وأخرى غير رسمية، يفوق في بعض الحالات دور المؤسسات غير الرسمية، دور المؤسسات الرسمية، وإن كان ذلك يختلف باختلاف النظم السياسية ودرجة تطور مختلف دول العالم. ومن الملاحظ أن السياسة الخارجية المعاصرة، لم تعد تعتمد اليوم على فرد، بل أصبحت تعتمد على فريق عمل متكامل، مزود بأحدث تقنيات الاتصال التي تمكنه من الوقوف على تطور الأحداث فور وقوعها، مما أفسح المجال لصاحب القرار في مجال السياسة الخارجية، للاعتماد على فريق عمل من المستشارين المتخصصين في تخصصات متنوعة، تعرض عليهم الموضوعات التي تدخل ضمن إطار تخصصاتهم، وفي بعض الأحيان يعرض الموضوع الواحد على أكثر من مستشار بتخصصات متعددة لها علاقة بالموضوع قيد البحث، وبناءً على ذلك توضع عدة بدائل تعالج موضوع واحد مع شرح للمساوئ والمحاسن التي ترجح كل بديل عن غيره، تاركين القرار لصاحب الحق في اتخاذ القرار المناسب في مجال سياسة الدولة الخارجية. ورغم اعتماد السياسة الخارجية للدولة على الدراسة والأساليب والمناهج العلمية الحديثة المتطورة والمنطقية لاتخاذ القرار، إلا أن هذا لا ينفي دور المؤسسات الديمقراطية في المجتمع المدني من برلمان وأحزاب وتجمعات سياسية واستفتاء شعبي، لإضفاء الشرعية على قرار معين في السياسة الخارجية للدولة، وكثيراً ما تكون هناك سياسة خارجية معلنة للدولة وسياسة فعلية غير معلنة، ولظروف معينة قد تختلف السياسة المعلنة عن السياسة الفعلية غير المعلنة، وقد يعلن عن السياسة الفعلية بعد زوال الظروف التي حالت دون إعلانها. وتدخل السياسة الخارجية للدولة حيز التنفيذ فور اعتمادها، بإتباع كل الوسائل المتاحة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وإعلامياً واجتماعياً وثقافياً، ويدخل في إطار الوسائل السياسية التمثيل الدبلوماسي المعتمد، والمقابلات والزيارات الرسمية، والمعاهدات، ودبلوماسية القمة التي يلجأ إليها في المسائل الملحة والهامة والمصيرية كالقمم الثنائية، ومؤتمرات القمة كالقمة العربية، وقمة المؤتمر الإسلامي، وقمة رؤساء دول رابطة الدول المستقلة، وقمة الاتحاد الأوروبي، والقمة الإفريقية، وقمة رابطة أوروآسيا الاقتصادية، وقمة منظمة شنغهاي للتعاون مثلاً، ويساعد على ذلك التطور الهائل الحاصل اليوم في وسائل المواصلات والاتصالات التي قصرت المسافات بين الدول، ووفرت الوقت والجهد.
ومن الوسائل المتبعة في تنفيذ السياسة الخارجية للدول اتفاقيات التعاون الاقتصادي والمالي وتنمية العلاقات الاقتصادية والتجارة الخارجية، وتقديم الهبات والمساعدات والقروض، وإقامة المشروعات الاقتصادية المشتركة، وإرسال الخبراء الاقتصاديين، وهو ما يسمى بدبلوماسية المساعدات الاقتصادية لتحقيق أغراض سياسية معينة. وهنا يبرز دور شبكة الإنترنيت العالمية، بعد أن تطور مفهوم التجارة الالكترونية، وظهور هذا المصطلح في قاموس التجارة الخارجية، في نفس الوقت مع التقدم الهائل الحاصل في تكنولوجيا الاتصال، وما رافقها من تطورات هامة أثرت في عمليات التبادل الإعلامي الدولي، والتبادل التجاري وتبادل السلع والخدمات بين الدول المختلفة، وينطوي مفهوم التجارة الالكترونية على أي نوع من أشكال التعاملات التجارية والمالية التي تتم الكترونياً عبر شبكة المعلومات الدولية الـ(انترنيت) وتتم هذه التعاملات بين الشركات والبنوك بعضها البعض، أو بين الشركات والبنوك وعملائهم، أو بين الشركات والبنوك والإدارات المحلية. وبهذا أصبح بإمكان التجارة الالكترونية أن تقوم بوظائف عديدة في عمليات التبادل التجاري الدولي. من بينها الإعلان والتسويق والمفاوضات وتسوية المدفوعات والحسابات، ومنح الامتيازات والتراخيص، وإعطاء أوامر البيع والشراء. ولهذا بدأت البنوك والشركات الكبرى في العالم بتأسيس مواقع خاصة بها في شبكة الانترنيت، التي بدأ يتزايد عدد مستخدميها ليصل إلى أكثر من خمسين مليون مشترك من كافة أنحاء العالم، وتشير الإحصائيات إلى أن حوالي 20 % من حجم الصفقات التجارية في الولايات المتحدة الأمريكية، وحوالي 10 % منها في أوروبا تم في مطلع القرن الحالي من خلال التجارة الالكترونية. ويتوقع أن تزيد هذه النسبة في الفترة المقبلة. بالإضافة لما تتيحه التجارة الالكترونية من المزايا العديدة لتسهيل عمليات التبادل الإعلامي الدولي، وإتاحة المزيد من الاختيارات أمام المستهلك، وتخفيض الوقت والتكلفة لكل من المستهلك والمنتج، واتساع دائرة التسويق من السوق المحلية إلى السوق العالمية، وسهولة النفاذ إلى الأسواق الجديدة. وتؤدي هذه المزايا التي تتمتع بها التجارة الالكترونية إلى تغييرات جوهرية في طبيعة وأساليب عمليات التبادل الإعلامي الدولي لأنها تعمل على تحقيق ثلاثة عناصر رئيسية تتمثل في الكفاءة من خلال تخفيض التكاليف في مراحل عديدة من بينها تكلفة الإعلان والتصميم والتصنيع، والفعالية من خلال توسيع نطاق السوق وتلبية احتياجات المستهلك، والابتكار وتحسين نوعية المنتج وذلك في ظل المنافسة الشديدة وتوفر المعلومات.
أما الوسائل العسكرية المستخدمة في تنفيذ السياسة الخارجية للدولة فتكون بالتهديد أو التلويح باستخدامها أو استخدامها الكلي أو المحدود في بعض الأحيان، وسياسة تقديم المساعدات العسكرية، وإمدادات العتاد والسلاح بأنواعه المختلفة لتحقيق أهداف سياسية معينة. بالإضافة لاتفاقيات التعاون العسكري، والدخول في عضوية الأحلاف العسكرية. وتبادل المعلومات لاستخدامها في حروب المعلوماتية في ظل الثورة التكنولوجية التي أحدثتها تكنولوجيا وسائل الاتصال عن بعد الحديثة، غير أن التحليل الدقيق لمفهوم الثورة التكنولوجية يظهر أن ظاهرة حروب المعلوماتية ليست قاصرة على الجوانب التقنية المعقدة لنظم الاتصال الهاتفي المرئي وشبكات الكمبيوتر الحديثة المستخدمة في إدارة العمليات الحربية، بل تتعدى ذلك لتشمل طبيعة الحرب نفسها مع قدوم عصر المعلومات والتحولات الاقتصادية والاجتماعية الذي أفرزها. وقد واكب الاهتمام المتزايد بالحرب المعلوماتية داخل أروقة البنتاغون الأمريكي، ظهور إدراك متنامي في أوساط المفكرين ورجال الأعمال بمدى عمق التحولات التي تشهدها مجالات السياسة والاقتصاد وأنماط التفاعل الاجتماعي، التي تتمثل في السمة المشتركة بينها في زيادة الاعتماد على جمع وتحليل كم هائل من المعلومات للتعامل مع درجة التعقيد التي وصلت إليها البيئة الإنسانية والتكنولوجية في نهاية القرن العشرين، والتي بلا شك ستكون السمة الغالبة التي ستميز القرن الواحد والعشرين. باتجاه نحو التعقيد واستمرار التأثير على حركة التطور، حتى أصبحت وظيفة تحليل المعلومات تفوق في أهميتها الوظائف التقليدية التي ميزت عصر الثورة الصناعية وهي ظاهرة برزت بوضوح أثناء تحول اقتصادات بأكملها من النمط الصناعي الذي يعتمد على الإنتاج الشامل إلى اقتصاد المعلوماتية الذي تدار فيه عمليات الإنتاج والتجارة عن طريق شبكات الاتصال وتبادل وتحليل المعلومات إلكترونياً. وجرى تسريب معلومات عن جوانبها العسكرية بوضوح عبر محطات التلفزيون التي عرضت جنوداً أمريكيين يستخدمون أجهزة الكمبيوتر المحمولة في ساحة المعركة أثناء عملية اجتياح العراق من قبل قوات التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003.
وتشتمل الجوانب الإعلامية والثقافية والعلمية والاجتماعية في إطار تنفيذ السياسة الخارجية للدولة، إضافة لاتفاقيات التعاون المشترك، تبادل المعلومات والأفلام التسجيلية وأشرطة الفيديو والكتب والمعارض، وتدعيم التعاون بين المؤسسات الإعلامية الاجتماعية والثقافية والتعليمية ومراكز البحث العلمي، وتبادل المنح الدراسية، وتشجيع الدبلوماسية الشعبية وتبادل الزيارات والوفود والمجموعات السياحية. ويعد التبادل الإعلامي الدولي من الوسائل الفعالة لتنفيذ سياسة الدولة الخارجية ويمارسها الجميع من رئيس الدولة إلى أصغر المناصب الإدارية في الدولة كل في اختصاصه، في الوقت الذي تسعى فيه وسائل الإعلام الجماهيرية الموجهة للخارج إلى تحقيق أهداف السياسة الخارجية من خلال مؤسساتها الإعلامية المختصة بالإعلام الخارجي، إلى جانب قيام البعثات الدبلوماسية المعتمدة، بوظيفة إعلامية بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال رصدها لما تنشره وسائل الإعلام المحلية في البلد المعتمدة فيه، وإصدارها للنشرات الإعلامية، أو ما تتناقله وكالات الأنباء العالمية من تصريحات، أو ما تنشره الإذاعات المسموعة والمرئية والصحف والمجلات واسعة الانتشار من مواد أصبحت اليوم بمتناول الجميع بسبب التطور العلمي والتقني الهائل الذي حدث خلال تسعينات القرن العشرين، وسمح باستقبال البث التلفزيوني عبر الأقمار الصناعية، ومطالعة الصحف من خلال شبكات الكمبيوتر وخاصة شبكة الإنترنيت العالمية، ومن لا يعرف اليوم وكالات الأنباء العالمية ومحطات الإذاعة والتلفزيون العالمية الأمريكية والفرنسية والبريطانية، الموجهة إلى جميع دول العالم تقريباً وبأكثر اللغات العالمية انتشاراً، كالإنكليزية والفرنسية والإسبانية والعربية والصينية والروسية والبرتغالية والفارسية والتركية والألمانية وغيرها من اللغات الحية. والتبادل الإعلامي الدولي اليوم يعكس أساساً الأوضاع القائمة من ثقافية وعلمية وسياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية، ولكن لا يمكن التقليل من أهمية وإمكانيات الإعلام الموجه، وتأثيره وفعاليته من خلال التخطيط المحكم للحملات الإعلامية، وتكتيكات وأساليب عملها، ومتابعتها ورصدها للأحداث وشرحها وتحليلها، ومراعاتها لخصائص المستقبل المحلي والأجنبي للرسائل الإعلامية.
ويتمتع الإعلام الدولي بأهمية خاصة كوسيلة من وسائل تنفيذ السياسة الخارجية للدول الكبرى والمتقدمة، تتناسب مع حجم مصالح هذه الدول على الصعيد الدولي، وتعاظم دورها وتأثيرها في السياسة على الساحة الدولية، فهي تعمل من خلال وسائل إعلام متطورة تملكها، وتوجهها نحو تحقيق أهداف سياستها الخارجية وحماية مصالحها في الخارج. ومن نظرة موضوعية للوظيفة الإعلامية، لا نستطيع الفصل بين الإعلام الداخلي والإعلام الخارجي لأنهما عملياً يكملان بعضهما البعض ويقومان بعمل واحد يخدم سياسة الدولة ويدعم مواقفها على الصعيدين الداخلي والخارجي. وتخطئ الدولة التي تدعم الإعلام الداخلي على حساب الإعلام الخارجي، أو بالعكس، لأن هذا يضر بمصالح هذه الدولة على الصعيد العالمي ويفسح المجال واسعاً أمام وكالات الأنباء ووسائل الإعلام العالمية، للإضرار بسياسة تلك الدولة وتشويه سمعتها أمام الرأي العام المحلي والعالمي، أو الإقلال من أهميتها في المجتمع الدولي، أو على الأقل التعريف بتلك الدولة من خلال وجهات نظر تلك الوكالات والوسائل الإعلامية الأجنبية التي لا تتطابق والمصالح الوطنية للدولة المعنية، حتى على الصعيد الداخلي في تلك الدولة بعد انهيار الحواجز الجغرافية واللغوية والزمنية أمام وسائل الاتصال عن بعد الحديثة والمتطورة. وكلما أمسكت وسائل الإعلام الوطنية الموجهة للخارج بزمام المبادرة، وتميزت بالسرعة في الحركة، وتمشت مع التطور العلمي والتقني، كلما كانت أكثر فاعلية وتأثيراً وخدمة لأهداف السياسة الخارجية للدولة، ولكن هذا يخضع لعدة مؤثرات أخرى يدخل ضمنها الإعلام المضاد، والخلفية الثقافية للمستقبل الأجنبي، التي تحدد مدى راجع صدى المادة الإعلامية الموجهة للمستقبل الأجنبي. وطبيعي أن أية حملة إعلامية مهما بلغت من الدقة في الإعداد والتوجيه لتحقيق أهداف معينة، فإنها قد تحقق جزءاً من تلك الأهداف أو كلها حسب ظروف المستقبل الأجنبي ومدى تعاطفه وردة فعله على مضمون المادة الإعلامية، لأن الإنسان بحد ذاته يشكل جملة أحاسيس ومشاعر ومعتقدات وأفكار، وليس آلة يمكن توجيهها من قبل صاحب المادة الإعلامية الموجهة حيث يشاء. وتتحكم بردة فعله على المادة الإعلامية جملة مؤثرات داخلية وخارجية، وعلى الخبير الإعلامي السعي لمعرفتها والاستجابة لها، عند الإعداد لأية حملة إعلامية أو عند إعداد أية مادة إعلامية للمتلقي الأجنبي. ومن العوامل الأخرى التي تحد من فعالية وتأثير الإعلام الوطني الموجه للخارج، التأخر في نشر المادة الإعلامية، أو نشرها بعد فوات الأوان، أو مواجهته لإعلام مضاد قوي يستند على حقائق تاريخية وثقافية ولغوية، ومنطق إعلامي مقبول لدى المستقبل الأجنبي، من المنطق الذي تخاطبه به وسائل الإعلام الوطنية الموجهة للخارج. إضافة للإمكانيات المادية الكبيرة التي يحتاجها نجاح الإعلام الخارجي الموجه في الدول الصغيرة والفقيرة، مما يجعلها عاجزة أمام الإعلام الموجه للدول الكبيرة والمتطورة والغنية، وهو ما يفسر نجاح الحملات الإعلامية لتلك الدول بغض النظر عن الموضوعية والمنطق والحجج التي يلجأ إليها إعلام تلك الدول.
التبادل الإعلامي الدولي كوظيفة من وظائف المنظمات الدولية: يعد التبادل الإعلامي وظيفة من وظائف المنظمات الدولية، وتختلف هذه الوظيفة باختلاف طبيعة عمل هذه المنظمات وأنشطتها ووظائفها في المجتمع الدولي. كما وتعتبر المداولات الجارية في المؤتمرات واللقاءات الدولية التي تدعو لها تلك المنظمات على مختلف الأصعدة والمستويات، والمواد الإعلامية التي تصدرها من تقارير ومعلومات وكتب ومجلات ونشرات ومواد إحصائية وإعلامية وأفلام فيديو ومراسلات إعلاماً دولياً، يجد طريقه للنشر جزئياً أو بالكامل في وسائل الإعلام الجماهيرية للعديد من دول العالم. كما وتستفيد الدول الصغيرة والفقيرة التي لا تملك إعلاماً خارجياً، من منابر تلك المنظمات لتوجيه بيانات ومذكرات تجد طريقها في أكثر الأحيان للنشر في وسائل الإعلام الدولية المختلفة، وتعتبر مشاكل التبادل الإعلامي الدولي والاتصال والتدفق الحر للمعلومات، والتعاون السلمي بين الشعوب، من أولى المشاكل التي تصدت لها منظمة الأمم المتحدة منذ تأسيسها، عقب الحرب العالمية الثانية. حيث أصدرت العديد من المبادرات ودعت لانعقاد العديد من المؤتمرات واللقاءات الدولية لبحث مشاكل التبادل الإعلامي الدولي، وأصدرت الكثير من التقارير والوثائق الدولية حول هذا الموضوع. وكان لمنظمة الأمم المتحدة دوراً كبيراً في تقديم المساعدة للدول الفقيرة لإنشاء وسائلها الإعلامية الوطنية. وبحثت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة العديد من المسائل التي مازالت تعتبر من المشاكل الرئيسية للتبادل الإعلامي الدولي، منها تعريف حرية الإعلام والحقوق المترتبة عن حرية الإعلام وطرق تنفيذها على الصعيد الدولي، وهذه المشكلة المدرجة في جدول أعمال منظمة الأمم المتحدة منذ سنوات قيامها الأولى وحتى الآن، بالإضافة للتدفق الحر للمعلومات، والتغلب على الحواجز المعيقة للاتصال والتبادل الإعلامي الدولي، ومن ضمنها تحديد موجات الإرسال الإذاعي والتلفزيوني. وقد وافقت المنظمة على بعض الاتفاقيات الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية وحرية التعبير، وتنظيم وضع المراسلين الأجانب في البلدان المضيفة، لاسيما أثناء الأزمات والصراعات العسكرية حيث يعتمد وضعهم على حسن نية وتفهم الدول والأفراد في تلك الدول.
ويستنكر ميثاق منظمة الأمم المتحدة التحريض على الحرب، والاستعداد النفسي لها، والدعاية لها، ووفقاً لأحكام القانون الدولي: فإن التخطيط للحرب والإعداد لها وإعلانها، جريمة ترتكب بحق البشرية وتهدد السلام العالمي، ويدخل في هذا الإطار الأنشطة الدعائية التي تمهد للعدوان، ونشر الكراهية ضد الشعوب الأخرى، ونشر المعلومات الكاذبة والمشوهة لتبرير نوايا عدوانية مبيتة، كحجة نزع القدرات النووية للعراق قبل اجتياح أراضيه حتى دون موافقة مجلس الأمن الدولي وثبت عدم وجود تلك القدرات لديه بعد احتلاله من قبل قوات التحالف الدولي. ومنظمة الأمم المتحدة بالإضافة لتناولها مشاكل التبادل الإعلامي الدولي بحثاً عن حلول ملائمة لها، فإنها تقوم بوظائف إعلامية محددة، من خلال نشر مطبوعاتها المختلفة باللغات الرسمية المستخدمة في هذه المنظمة، على نطاق واسع. كما وأنشأت منظمة الأمم المتحدة مكاتب لها في العديد من دول العالم، ويشمل نشاط كل مكتب منها الدولة المقر والدول المجاورة لها، على سبيل المثال: مركز منظمة الأمم المتحدة في بانكوك عاصمة تايلاند يشمل نشاطه إضافة إلى تايلاند، كمبوديا، ولاوس، وماليزيا، وسنغافورة، وفيتنام؛ ومركز منظمة الأمم المتحدة في القاهرة عاصمة مصر، يشمل نشاطه إضافة لمصر، المملكة العربية السعودية، واليمن؛ ومكتب الأمم المتحدة في جينيف عاصمة سويسرا، يشمل نشاطه إضافة لسويسرا، إسبانيا، والبرتغال، والنمسا، وبلغاريا، وألمانيا، وبولندا، والمجر. وأدى تضخم كميات المعلومات الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة إلى أن يصبح التعامل معها صعب رغم استخدام أحدث السبل والتقنيات الحديثة لنشر وحفظ وفهرسة تلك المعلومات، وهو ما يسمى اليوم بالانفجار الإعلامي الدولي. ومن المنظمات الدولية المتخصصة في مجال التبادل الإعلامي الدولي: المنظمة العالمية لحماية حقوق التأليف التي أسستها منظمة الأمم المتحدة عام 1967 بدلاً عن المنظمة التي كانت قائمة منذ عام 1893، وتضم في عضويتها أكثر من 109 دول؛ وإتحاد البريد العالمي الذي أنشأته منظمة الأمم المتحدة عام 1947 بدلاً عن الإتحاد الذي كان قائماً منذ عام 1874 ويضم في عضويته أكثر من 168 دولة؛ والمنظمة العالمية للاتصالات البحرية عبر الأقمار الصناعية التي تأسست في لندن عام 1976 وتضم في عضويتها أكثر من 43 دولة؛ والمنظمة العالمية للإذاعة والتلفزيون التي تأسست عام 1946 بدلاً عن منظمة الإذاعات العالمية؛ والمنظمة العالمية للاتصالات الإليكترونية عبر الأقمار الصناعية التي تأسست في واشنطن عام 1964 وتضم في عضويتها أكثر من 109 دول؛ والمنظمة العالمية للاتصالات الإليكترونية التي تأسست عام 1865 وتضم في عضويتها أكثر من 160 دولة؛ ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة التي أنشأتها منظمة الأمم المتحدة عام 1945 من خلال المؤتمر الذي انعقد في لندن وضم ممثلين عن 44 دولة، وتضم في عضويتها أكثر من 160 دولة؛ ومنظمة الصحفيين الدولية التي تأسست عام 1946 وتضم منظمات الصحفيين لأكثر من 120 دولة في العالم.
وتؤدي المنظمات الإقليمية وظائف إعلامية محددة من خلال وسائل إعلامها الخاصة بها لتغطية أخبار مؤتمراتها ونشاطاتها الخاصة وشرح وجهة نظرها من القضايا الإقليمية والدولية. ومن هذه المنظمات الإقليمية: مجلس آسيا والمحيط الهادي الذي تأسس عام 1966 ويضم في عضويته أستراليا، وماليزيا، ونيوزيلنديا، وتايلاند، والفيليبين، واليابان، وكوريا الجنوبية، وفيتنام، وتايوان؛ ورابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN) التي تأسست في بانكوك عام 1967 وتضم في عضويتها بروني، وإندونيسيا، وماليزيا، وسنغافورة، وتايلاند، والفلبين؛ ومنظمة حوض الكاريبي التي تضم دول حوض الكاريبي. ونشأت من خلال رابطة الكاريبي للتجارة الحرة وضمت في عضويتها خلال الأعوام 1965 / 1968 غيانا، وأنتيغوا، وباربادوس، وترينيداد وتاباغو، وغرينادا، ودومينيكان، ومونت سيرات، وسينت فينسينت، وسينت كريستوفير نيفيس أنغليا، وسينت لوسيا، وجامايكا، وفي عام 1970 بيليز؛ وجامعة الدول العربية التي تأسست في القاهرة 22/3/1945 وتضم 22 دولة عربية هي: الجزائر، والبحرين، وجيبوتي، ومصر، والأردن، والعراق، واليمن، وقطر، والكويت، ولبنان، وموريتانيا، والمغرب، والإمارات العربية المتحدة، وعمان، والعربية السعودية، وسورية، والسودان، وتونس، وليبيا، والصومال، وفلسطين وجزر القمر؛ ورابطة الدول المستقلة: التي تأسست عام 1990 في مينسك وتضم معظم الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي السابق؛ ومنظمة شنغهاي للتعاون: التي تأسست في شنغهاي عام 2000 وتضم في عضويتها: الصين، وروسيا، وقازاقستان، أوزبكستان، وقرغيزستان، وطاجكستان. ويخضع التبادل الإعلامي الدولي كوظيفة من الوظائف المتعددة للمنظمات الدولية والإقليمية، للحدود التي تخضع لها تلك المنظمات الدولية والإقليمية، وتخضع قراراتها وفق أنظمة تلك المنظمات للمداولة لظروف من الضغوط الخارجية، ومصالح أعضائها ومصالح الدول المتقدمة المهيمنة على الساحة الدولية، رغم أن قرارات هذه المنظمات غير ملزمة وفقاً لمبدأ "المنظمات الدولية ليست فوق الدول ولكنها تشكل إرادة مستمدة من إرادة الدول الأعضاء في تلك المنظمات"، ووظيفة التبادل الإعلامي الدولي كوظيفة من وظائف المنظمات الدولية والإقليمية، هي المساهمة في تشجيع التعاون السلمي والتفاهم بين الشعوب، ودفع التطور الإنساني ونشر المعرفة لما فيه مصلحة الإنسان والمجتمع، مستخدمة في ذلك كل وسائل وتقنيات الاتصال الحديثة، ووسائل الإعلام الجماهيرية.
التبادل الإعلامي والتفاهم الدولي: يتحدد الإطار المثالي للتفاهم الدولي من خلال التبادل الإعلامي الدولي بتوخي الموضوعية المجردة، والدقة في إبراز الوقائع والصدق ووضع الجوانب المختلفة للموضوع والابتعاد عن التشويه، والسعي نحو الحقيقة، وهو ما يصعب تحقيقه. وتعتبر هذه الصورة مثالية بحد ذاتها وترتبط في معظم الأحيان بالحديث عن السلام العالمي والتفاهم والتعاون الدولي، ونبذ الصراع بكل أشكاله، واللجوء إلى التفاوض في حل المشاكل والخلافات المحلية والإقليمية والدولية، والسعي إلى ما فيه خير البشرية، بما فيها إقامة سلطة تتعدى سلطة الدول ! ! ؟ وهو ما نجده في بعض نصوص القانون الدولي وخاصة عندما توضع في محك التطبيق العملي، كما ونصادفها في كتابات الفلاسفة على مر العصور عندما تناولوا مواضيع التفاهم الدولي والتعاون بين الأمم. وعلى كل حال فإن العلاقات الدولية والظواهر الاجتماعية المختلفة تتسم بالدينامكية وسرعة الحركة والتغيير، وما هو مثالي صعب التحقيق اليوم قد يصبح سهلاً وواقعياً في فترة لاحقة. وما كان مثالياً وضرباً من الخيال قبل انهيار المنظومة الاشتراكية التي كان يقودها الإتحاد السوفييتي السابق، أصبح واقعياً بعد انهيارهما السريع والمفاجئ، وانتهاء الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، بين الشرق والغرب.
اللغات القومية والتفاهم الدولي: من المعروف أن العالم المعاصر يستخدم ما يقرب من 2900 لغة، بالإضافة إلى اللهجات المحلية المنبثقة عن تلك اللغات، مما يجعل من عملية التفاهم الدولي مهمة شاقة وصعبة، وباهظة التكاليف المطلوبة للترجمة الفورية والتحريرية، إن كان في المؤتمرات واللقاءات الدولية، أم في وسائل الإعلام الجماهيرية الموجهة للمواطن الأجنبي. لأن التبادل الإعلامي يعد في كثير من الحالات معوقاً للتفاهم الدولي، عندما لا يلتزم بالموضوعية، ويشوه الوقائع ويبرز وجهة نظر دون أخرى، وكثيراً ما يضع جوانب الموضوع التي تفيده فقط، ويتعمد التشويه خدمة لطرف واحد من أطراف الصراع، مهاجماً أو مواجهاً الطرف الآخر من الصراع الدائر. بطريقة يتم فيها احتكار تفكير الإنسان، وتوجيهه دون إرادة منه، لمفاهيم تحتوي على جانب واحد من الحقيقة، وبتكرارها بصور وأشكال مختلفة يصبح الإنسان مقتنعاً بها، معرضاً عن الجانب الآخر من الحقيقة حتى ولو اطلع عليها بطريقة أو أخرى. ويفسر ذلك بأن التبادل الإعلامي الدولي، بالأساس هو وسيلة من وسائل تنفيذ السياسات الخارجية للدول، وبالتالي فهو يسعى لخدمة هذه السياسات والتفاعل من أجل ذلك مع الوسائل الأخرى لخدمة تلك السياسات، ومن هنا فإن الموضوعية أو عدم تشويه الوقائع أو الكذب، الذي يصاغ بشكل يراعى فيه عدم إمكانية اكتشافه، واستخدامه ببراعة للهجوم على الخصم، من خلال وضع جوانب الموضوع بتكتيكات معينة تسير في إطار تحقيق أهداف السياسات الخارجية للدول. ومن هنا نفهم واقع سوء توزيع مصادر الأنباء في العالم، عندما توظف الدول المتقدمة إمكانياتها الاقتصادية، وتقدمها العلمي والتكنولوجي في خدمة سياساتها الخارجية، وهي الأكثر نضجاً من غيرها في الدول الأقل تطوراً، ويبرز الواقع أيضاً أن هذه الدول المتقدمة والغنية، تتحكم بوكالات الأنباء المؤثرة والرئيسية المسيطرة على جمع توزيع الأنباء في العالم، بالإضافة إلى محطات الإذاعة والتلفزيون وشبكات الكمبيوتر العالمية، والصحف والمجلات المنتشرة على نطاق عالمي، ووسائل الاتصال الحديثة وشبكة الأقمار الصناعية المخصصة للاتصالات ونقل البث الإذاعي والتلفزيوني، التي مكنت تلك الدول من إيصال واستقبال المعلومات الفورية دون أية حواجز تذكر إلى ومن أية نقطة في العالم. وجعل التطور العلمي والتكنولوجي الهائل في مجال الاتصال، من وسائل الإعلام الجماهيرية سلاحاً خطيراً في أيدي القوى الكبرى والدول المتقدمة والغنية، للتأثير على الرأي العام العالمي وتوجيهه، وخاصة فيما إذا استخدمت وسائل الإعلام الجماهيرية القوية والمسيطرة تلك، للتحريض على الحرب وإثارة التعصب الديني والقومي والعنصري، كما هو جار اليوم دون الدعوة للسلام ونصرة الحقوق المشروعة والتعاون والتفاهم بين الشعوب، ونبذ أي نوع من التعصب مهما كان نوعه، خدمة للتقدم الإنساني.
المعيقات السياسية لعملية التبادل الإعلامي الدولي: منذ العشرين سنة الأخيرة من القرن العشرين تزايد الدور العالمي لوسائل الإعلام الجماهيرية واسعة الانتشار وخاصة منها برامج التلفزيون المنقولة عبر الأقمار الصناعية، رغم تباين النظم السياسية والإيديولوجية ودرجات النمو الاقتصادي والثقافي والاجتماعي لدول العالم المختلفة، ورغم عدم التكافؤ الواضح بين القلة القليلة التي تبث السيل الهائل من المعلومات على مدار الساعة يومياً، وبين الغالبية العظمى من دول العالم التي تستقبل ما يرسل إليها، بغض النظر عن وضعها الاقتصادي غنية كانت أم فقيرة، لأن من يصنع ويملك تقنيات وتكنولوجيا الاتصال ويتحكم بصياغة المادة الإعلامية هو المسيطر على عملية التبادل الإعلامي الدولي دون منازع يذكر، ومن عداه فهو مستهلك لتكنولوجيا وتقنيات الاتصال وللمادة الإعلامية باهظة النفقات والتكاليف. لأن العلاقة شديدة الصلة بين السياسات الخارجية للدول، والرأي العام الوطني والإقليمي والعالمي، كل منها يؤثر ويتأثر بالآخر، وهذا بحد ذاته يبرز مشكلة سياسية عويصة أمام عملية التبادل الإعلامي الدولي، مفادها ضخامة وتضارب المصالح الحيوية لمختلف دول العالم وخاصة الدول المتطورة والغنية، التي تتجاوز حدودها الجغرافية المعترف بها لمناطق أخرى بعيدة كل البعد جغرافياً عنها، وتعدد المشاكل السياسية والاقتصادية والإيديولوجية بينها يجعل عملية التبادل الإعلامي تؤثر وتتأثر حتماً بوسائل تنفيذ السياسات الخارجية للدول الأخرى، وهذا مرتبط بمدى قوة وفاعلية وسائل الإعلام الجماهيرية الموجهة للخارج لكل دولة. لأن وسائل الإعلام الجماهيرية الدولية، من خلال عملية التبادل الإعلامي الدولية، تسعى لخدمة سياسة معينة كثيراً ما لا تتماشى هذه السياسة مع متطلبات التفاهم الدولي، ولأن هذه الوسائل بالأساس تتصدى لمشكلة أو مشاكل سياسية معينة، وتسير في خط معين مرسوم لها ضمن السياسة الخارجية للدولة، وكثيراً ما يبتعد هذا الخط عن الموضوعية والدقة في عرض الوقائع، وقد ينجح في إقناع عدد كبير من مستقبلي الرسائل الإعلامية، بعدالة وصدق موقفه من المشكلة المطروحة، رغم أن الحقيقة عكس ذلك، ومرد ذلك إما الظروف المتاحة دولياً والتفاهم والتعاطف الدولي مع سياسة خارجية معينة، أو قوة أساليب عمل وسائل الإعلام الجماهيرية الدولية التي يملكها هذا الطرف أو ذاك، أو ضعف أساليب عمل وسائل الإعلام الجماهيرية للطرف المواجه، أو غيابها تماماً عن الساحة الدولية مما يتيح للخصم ظروفاً ممتازة لإقناع الرأي العام العالمي بعدالة وصدق مواقفه كما يشاء دون منازع.
وقد أدى انهيار المنظومة الاشتراكية والإتحاد السوفييتي، إلى انتهاء الحرب الباردة بين الشرق والغرب، وإلى انفراج نسبي في العلاقات الدولية، خفف الصراع الإيديولوجي الذي كان قائماً إلى حد ما، ولكن سرعان ما استبدل بصراع من نوع جديد أخذ طابعاً آخر كأنه يدعم الديمقراطية والانفراج الدولي ومحاربة التطرف الديني، والإرهاب الدولي من وجهة نظر القوي المسيطر على عملية التدفق الإعلامي الدولي. وأدى غياب الصراع الإيديولوجي إلى تخفيف السباق المتسارع بين التكتلات الإقليمية والدولية المتصارعة للإمساك بزمام المبادرة في توجيه الحملات والضربات الإعلامية ضد بعضها البعض، ولكن لا أحد ينكر فضلها الأكبر في دفع التطور السريع لتقنيات ومعدات الاتصال، التي نعرفها اليوم، وكانت محض خيال قبل نصف قرن من الزمن. وتقوم وسائل الإعلام الجماهيرية لأية دولة في العالم، بتوجيه حملات إعلامية مركزة للتأثير على الرأي العام الدولي وتقوية الرأي العام المحلي داخلياً وتحصينه ضد الحملات الإعلامية الخارجية، وتشترك بنفس النشاط تقريباً مع وسائل إعلام الدول الأخرى التي تشترك معها في تحالفات وتكتلات إقليمية ودولية، ويظهر من خلالها مدى ضلوع عملية التبادل الإعلامي الدولي في مشاكل ومتناقضات السياسات الدولية، محلياً وإقليمياً ودولياً.
ومن المشاكل العويصة التي تواجه عمل وسائل الإعلام الجماهيرية كوسيلة من وسائل السياسة الخارجية للدولة، العلاقة الموضوعية بين السياسة الخارجية للدولة، والرأي العام الوطني، والرأي العام الإقليمي، والرأي العام الدولي، خاصة عندما يبرز تضارب واضح وتباين بينها. فبينما تعمل وسائل الإعلام الجماهيرية على تهيئة الرأي العام العالمي لاتخاذ موقف معين من قضية معينة تتفق والسياسة الخارجية للدولة المعنية، نراها في أكثر الأحيان مضطرة لاتخاذ موقف آخر قد يكون مغاير تماماً، لتهيئة الرأي العام المحلي من القضية ذاتها، وهذه مشكلة عويصة بحد ذاتها أمام المخططين والمنفذين للسياسات الإعلامية الداخلية والإقليمية والدولية. خاصة بعد التطور الهائل الحاصل في مجال وسائل الاتصال الحديثة، وتعدد وسائل الإعلام الجماهيرية وتنوعها وتجاوزها للزمن والمسافات والحدود الجغرافية واللغوية والحضارية، ليصبح ما يحدث اليوم في أي جزء من العالم في متناول الإنسان أينما كان ومهما بعدت المسافات خلال دقائق عبر قنوات التلفزيون الفضائية وشبكات الكمبيوتر، ولتصبح قدرة الدول في التحكم الفعلي بالرأي العام المحلي محض خيال، بعد أن طالته وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية الدولية، وأصبح الخيار في أيدي من يملك وسائل الاتصال الحديثة، ومن يوجه وسائل الإعلام الجماهيرية الدولية، ويسيطر على صياغة الخبر بالطريقة التي تحلو له. وإذا كان العالم اليوم يتجه حسيساً نحو الانفراج والتعاون الإيجابي بين الأمم، فإن هذا لا يعني انتهاء المشاكل والصراعات الدولية القديمة منها والجديدة والمتجددة، وكل ما يحدث هو تغير في الظروف الدولية وديناميكية العلاقات الدولية، وزيادة في عملية التفاعل والتبادل الإعلامي الدولي. وهذا يفرض على خبراء الإعلام الإلمام بالعلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية الدولية، ومسارها التاريخي، والنظم والاتجاهات السياسية السائدة في دول العالم، وخلفية مواقفها من العلاقات الدولية المعاصرة، ليستطيع كلاً منهم أخذ مكانه الفاعل والمؤثر في عملية التبادل الإعلامي الدولي المتجددة، وخدمة سياسات بلده الداخلية والإقليمية والدولية بعد أن تجاوزت وسائل الإعلام الجماهيرية فعلاً الحدود الفاصلة بين تلك السياسات.
طشقند 2008
وفي القارة الأوروبية أنشأت إيطاليا وكالة أنباء (ANSA): على أنقاض وكالة أنباء Stefani التي عملت دون انقطاع من عام 1853 حتى هزيمة الفاشية في الحرب العالمية الثانية. وفي 13/1/1945 بدأت أنسا عملها كشركة تعاونية ذات مسؤولية محدودة، تضم كافة الصحف الإيطالية اليومية.
وفي القارة الإفريقية تعد وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية MENA أول وكالة أنباء في مصر ومنطقة الشرق الأوسط والقارة الإفريقية، أنشأت عام 1956 كشركة مساهمة تمتلكها الصحف المصرية مناصفة مع الدولة، وانتقلت ملكيتها بالكامل عام 1962 إلى الدولة وأصبحت إحدى الشركات التابعة لاتحاد الإذاعة والتلفزيون، ومن ثم انتقلت ملكيتها إلى مجلس الشورى المصري عام 1978. وللوكالة مكتبين رئيسيين في القاهرة وباريس، ويعمل فيها 1067 موظفاً منهم 390 صحفياً، وتبث الوكالة يومياً: نشرة أنباء الشرق الأوسط باللغة العربية بنحو 57 ألف كلمة تقريباً؛ ونشرة أنباء الشرق الأوسط باللغتين الإنكليزية والفرنسية بنحو 23.800 كلمة تقريباً؛ والنشرة الدولية الخاصة بنحو 13.260 كلمة تقريباً؛ والنشرة الاقتصادية بنحو 17.930 كلمة تقريباً. كما وتبث التحقيقات والصور للمشتركين في داخل مصر وخارجها، وللوكالة 4 مكاتب و21 مراسلاً داخل مصر، و30 مكتباً ومراسلاً في العواصم العالمية. وتتبادل الوكالة الأنباء والصور مع 25 وكالة أنباء عربية وأجنبية، ولها إسهام في تطوير التعاون الإعلامي بين الدول العربية والإفريقية. وتسهم في تدريب الكوادر الإعلامية للدول العربية والصديقة عن طريق دورات تدريبية منتظمة في مجال التحرير والإدارة والهندسة الإعلامية، وتقيم علاقات تعاون مع وكالات الأنباء العالمية ووكالات الأنباء العربية ووكالات أنباء دول عدم الانحياز ووكالات الأنباء الإفريقية عن طريق الاتفاقيات الثنائية، وهي وكالة الأنباء الوحيدة في العالم الثالث التي تسمح بتدفق الأنباء محلياً إلى وسائل الإعلام الجماهيرية المصرية من خلال كافة وكالات الأنباء مباشرة ودون تدخل أو وصاية منها كوكالة وطنية في مصر. وقد دخلت وكالة أنباء الشرق الأوسط عالم الكمبيوتر منذ عام 1990، وبدأت باستخدام الأقمار الصناعية في نقل الأخبار اعتباراً من 25/10/1994.
ووكالة المغرب العربي للأنباء هي الوكالة الوطنية للأنباء في المملكة المغربية، أسست في نوفمبر/تشرين ثاني علم 1959، ثم تحولت إلى مؤسسة عامة في 19/9/1973 مقرها الرئيسي في العاصمة الرباط، ولها ثمانية مكاتب إقليمية في المدن الرئيسية، وسبعة عشر مكتباً دولياً في أفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وتضم الوكالة أربعة أقسام هي: قسم الإعلان؛ قسم الشؤون المالية والإدارية؛ القسم الفني؛ قسم العلاقات الخارجية. وتصدر الوكالة نشرتين يومياً، ونشرة دورية.
وتأسست الوكالة الموريتانية للإعلام AMT عام 1966، ومقرها نواكشوط العاصمة تحت إشراف وزارة الثقافة والإعلام والبريد والمواصلات. وبالإضافة لوكالة الأنباء الوطنية تعمل في موريتانيا الوكالات الأجنبية التالية: وكالة الأنباء الفرنسية، ووكالة أنباء الصين الجديدة "شينخوا".
ومع تأميم الصحافة السودانية عام 1970، أنشأت الحكومة وكالة الأنباء السودانية (سونا)، لتعمل على التحكم بتدفق الأخبار داخلياً وخارجياً. وبعد صدور قانون وكالة الأنباء السودانية عام 1981، بدأت الوكالة بالابتعاد عن وزارة الثقافة والإعلام لتصبح هيكلاً مستقلاً ومتكاملاً، حتى غدت واحدة من أقوى وكالات الأنباء في القارة الأفريقية بفضل خدماتها المتطورة، حتى أن وكالة أنباء عموم أفريقيا "PANA" اختارتها مركزاً لها في شرق أفريقيا عام 1985. وبصدور القانون الجديد أصبحت وكالة الأنباء السودانية وكالة وطنية تزود عدد كبير من وكالات الأنباء بالأخبار عبر اتحاد وكالات الأنباء العربية "FANA"، ووكالة عموم إفريقيا "PANA"، ووكالات دول عدم الانحياز. وفي عام 1985 تأسست الوكالة السودانية للصحافة التي يملكها صحفيين ومقرها الخرطوم. كما وتعمل في السودان وكالة الأنباء الفرنسية AFP؛ ووكالة أنباء الصين الجديدة شينخوا؛ ووكالة أنباء الشرق الأوسط.
وهناك تجمعات لوكالات الأنباء تأخذ إما طابعاً إقليمياً أو قارياً أو منحى سياسياً معيناً أو تخصصاً، مثال: إتحاد وكالات الأنباء الأوروبية الذي يضم أكثر من 16 بلداً أوروبياً؛ وإتحاد وكالات الأنباء العربية الذي يضم وكالات أنباء الدول العربية؛ وإتحاد وكالات الأنباء الإفريقية الذي يضم وكالات أنباء الدول الإفريقية؛ وإتحاد وكالات الأنباء الأسيوية، ...وغيرها من التكتلات والتجمعات.
وهناك وكالات متخصصة تقدم خدمات في موضوع معين ديني أو رياضي أو فني....الخ، أو مواد إعلامية جاهزة للنشر، أو صور صحفية، مثال: وكالة فيدس في الفاتيكان؛ ووكالة الأنباء الإسلامية؛ ووكالة جويس تلغرافيك؛ ووكالة كيوسنون؛ ووكالة أجيب؛ ووكالة دلماس؛ ووكالة إنتربريس؛ ووكالة فاما؛ وتعتبر وكالة أوبيرا ماندي التي تمثل في أوروبا مصالح: King's Features Syndicate americain، من أقدم الوكالات الصحفية المتخصصة في تقديم النصوص الصحفية الجاهزة في العالم، أنشأها بول وينلكار عام 1928، لتوزع المقالات بلغات العالم المختلفة عن الأحداث الهامة، ومقالات عن الشخصيات الكبيرة في العالم، وريبورتاجات مصورة. وتتميز هذه الوكالات بفهمها العميق لأذواق الجمهور وميوله العلمية، والاقتصادية، والثقافية، والفنية.
وفي الختام لابد من التأكيد على ملاحظة هامة وهي أن معظم وكالات الأنباء الوطنية في دول العالم كما هي الحال في الدول النامية تخضع تماماً لسلطة القانون في تلك الدول، بالإضافة لخضوعها للرقابة الصارمة من قبل الدولة التي تمارس نشاطاتها الإعلامية داخلها، وهو ما يستدعي التفكير جدياً في ما تدعيه بعض الجهات العالمية لنفسها من ديمقراطية وحرية كلمة وحرية التصرف واتهامها لبعض الدول وخاصة الدول النامية التي تحاول الخروج من دائرة تأثير تلك الجهات بغياب الديمقراطية وحرية الإعلام وكأن تلك الدول تعيش دون قوانين ناظمة لشؤون الإعلام في بلادها.
العلاقات الدولية في ظروف الثورة المعلوماتية: العولمة والثورة المعلوماتية أصبحت في الآونة الأخيرة من أهم المواضيع حساسية في إطار الحوار الدولي الجاري لتحليل تأثيرات الثورة المعلوماتية المختلفة وطرق التحكم بتطور الأحداث على الساحة الدولية. ويجري هذا في الوقت الذي يشكك فيه البعض بإيجابيات العولمة على الجوانب المالية والاقتصادية، والسياسية، والثقافية والأيديولوجية والإعلامية والاتصالية في العلاقات الدولية المعاصرة. في الوقت الذي يصور صندوق النقد الدولي العولمة بأنها: "مستوى متصاعد من التكامل الحثيث للأسواق السلعية والخدمية ورؤوس الأموال". وأشار ي.س. إيفانوف وزير الخارجية الروسي في كتابه "السياسة الخارجية الروسية في عصر العولمة" إلى بعض العناصر الرئيسية لعملية العولمة، السياسية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية وحاول تحليلها من وجهة النظر الروسية، وذكر أنها فجرت الحياة الحضارية وغيرت صورة الإنسانية.
بينما يعتبر أكثر المتخصصين أن مصطلح "العولمة" يعني مرحلة حديثة من التطور الرأسمالي الدولي، أو أنها تمثل المرحلة الأخيرة للإمبريالية. والتعريف الأكثر وضوحاً جاء على لسان الأكاديمي الروسي المعروف أ.ي. أوتكين الذي قال أن "العولمة فرضت نفسها بعد انتهاء الحرب الباردة، وأفرزت نظاماً عالمياً يوحد الاقتصادات الوطنية لدول العالم ويجعلها تعتمد على حرية تنقل رؤوس الأموال، والاعتماد على الانفتاح الإعلامي الدولي، وعلى التجدد السريع للتكنولوجيا، وتخفيض الحواجز الجمركية وإطلاق حركة البضائع ورؤوس الأموال، وزيادة التقارب الاتصالي بين الدول الذي هو من ميزات الثورة العلمية التي ترافقها حركة اجتماعية دولية أصبحت تستخدم أشكال جديدة من وسائل النقل وتكنولوجيا الاتصال المرئية، وخلقت نوعاً من التعليم الأممي".
ولكن الآراء اختلفت عند التحدث عن بدايات العولمة فالبعض يعتبر بداياتها من عصر الفاتحين الغربيين الأوائل أمثال: ماركو بولو، وماجيلان، وكولومبوس. في الوقت الذي يعتبر البعض الآخر أن نصف العالم كان معولماً منذ العصر الروماني القديم، وعصر الإسكندر المقدوني، وعصر جينغيز خان، متجاهلين تماماً العولمة التي نتجت عما قدمته الحضارة العربية والإسلامية للإنسانية في عصر ازدهارها عندما كانت أوروبا تسبح في غياهب الظلمات. بينما اعتبر بعض الباحثين أن التاريخ المعاصر كان المرحلة الأولى للعولمة، وتلتها المرحلة الثانية التي نعيشها اليوم. ويقولون بأن الأولى بدأت خلال المرحلة الانتقالية التي امتدت خلال القرنين التاسع عشر، والقرن العشرين أي فترة حروب التوسع الاستعمارية الغربية التي اجتاحت قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، والحربين العالميتين الأولى والثانية وما رافقهما من منجزات تكنولوجية وعلمية حديثة سرعان ما تطورت بشكل هائل أثر مباشرة في الاقتصاد الوطني والدولي، ورافقه ظهور وسائل اتصال جماهيرية متطورة دخلت عالم التجارة العالمية، وانتقال رؤوس الأموال والأشخاص بشكل واسع. وأدت إلى تشابك المصالح الاقتصادية والتجارية الداخلية والخارجية لتصبح معها المصالح المتبادلة بين الدول الكبرى الأهم وتبعد معها خطر الحروب بين تلك الدول حتى تصبح شبه مستحيلة. ولم ينسوا طبعاً الإشارة إلى أن ذلك التوجه لم يستطع إبعاد شبح الحرب وأشعل نيران حربين عالميتين خلال أقل من نصف قرن هي: الحرب العالمية الأولى التي انتهت بالقضاء على الدولة العثمانية وتثبيت السيطرة الاستعمارية واقتسام معظم مناطق العالم. والحرب العالمية الثانية، التي استخدمت فيها الولايات المتحدة الأمريكية ولأول مرة القنبلة الذرية أشد أسلحة الدمار الشامل فتكاً مرتين وبشكل متعمد ضد الشعب الياباني، ولم تستطع أية علاقات اقتصادية أو تجارية منعها بل على العكس كانت سبباً لها.
واعتبر بعض الباحثين أن الأرضية التي انطلقت منها المرحلة الثانية للعولمة كانت العقود الأخيرة من القرن العشرين، عندما أشاعوا أن المسيرة نحو العولمة بدأت في الغرب. وكانت في البداية تستخدم كمصطلح "الترابط المشترك"، ولكن الحركة الفعلية باتجاهها بدأت بالفعل مع حملات العلاقات العامة الدولية خلال أربعينات وخمسينات القرن العشرين، لتبدو العولمة وكأنه مخطط لها ودخلت حيز التنفيذ من قبل الأوساط المهيمنة في عالم المال والاقتصاد في الدول الغربية وحكومات تلك الدول والبنك الدولي للإنشاء والتنمية، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. وأصبحت بعض إيجابيات التطور الإنساني في ظروف العولمة مرئية حتى لضيقي الأفق، وأدت إلى ارتفاع المستوى المعيشي للناس، ووفرت وسائل اتصال وإعلام دولية تجتاز الحدود السياسية للدول بسهولة بالغة. وحققت لبعض الدول قفزات اقتصادية متقدمة كما حدث في دول آسيان "النمور الآسيوية" وشملت جنوب كوريا، وسنغافورة، وماليزيا وغيرها من الدول الآسيوية، وأصبحت الهند منتجة للصناعات الإلكترونية الغربية، وتحولت إلى واحدة من كبار مصدري المنتجات الإلكترونية وبرامج الكمبيوتر إلى العالم. وأدت العولمة بالتدريج إلى نمو حركة تدفق رؤوس الأموال حتى أصبح حجم التعامل المالي الدولي اليومي يبلغ حوالي 1.5 تريليون دولار أمريكي لتصبح عبارة "التصدير يحكم العالم" حقيقة ملموسة. فمع بدايات خمسينات القرن الماضي كانت الصادرات العالمية تقدر بـ 53 مليار دولار أمريكي، أما اليوم فتشير بعض المراجع إلى أنه بلغ حوالي 7 تريليون دولار أمريكي. وأخذت تظهر جزر كاملة للتكنولوجيا المتطورة في الدول النامية كـ: سان باولو في البرازيل، والشريط الحدودي من مصانع التجميع في شمال المكسيك، ومدن كاملة في الهند، وكل تايوان وغيرها من الدول.
وسهلت العولمة انتقال القوى العاملة والسياح، إذ تشير معطيات البنك الدولي إلى أن العمال المهاجرين يحولون من الدول الغنية التي تستخدمهم إلى أسرهم في الدول الفقيرة حوالي 70 مليار دولار أمريكي في السنة، وهذا الرقم يفوق بكثير الأرقام الرسمية للمساعدات التي تمنحها الدول المتطورة للدول النامية، وأن مئات الآلاف من العائلات تعيش معتمدة على تلك الأموال ولا تعرف أي شيء عن مصطلح "العولمة". وأن تطور السياحة الدولية يعتبر من الظواهر الإيجابية للعولمة حيث وصل عدد السياح في العالم إلى 500 مليون سائح في السنة. وأن الإنسان العادي يصطدم يومياً في حياته اليومية العادية بمظاهر العولمة بكل أشكالها من شراء البضائع، ومشاهدة البرامج التلفزيونية، واستعمال أجهزة الاتصال المحمولة، وغيرها. حتى أن البعض أصبحوا يقولون أن العولمة وفرت السبل من أجل مشاركة عشرات الدول والشعوب بالتقدم المالي والاقتصادي والعلمي المشترك.
وحتى الآن لم تعلن أية دولة في خطها السياسي الرسمي على الأقل معاداتها للعولمة، وأن الجميع يتقبلون العولمة كمؤشر إيجابي ولكن بوجهات نظر متفاوتة.
العولمة والتبادل الإعلامي الدولي: تحمل العولمة معنى "جعل الشيء على مستوى عالمي، أي نقله من حيز المحدود إلى آفاق "اللامحدود". واللامحدود هنا يعني العالم كله، فيكون إطار الحركة والتعامل والتبادل والتفاعل على اختلاف صوره السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، متجاوزاً الحدود السياسية والجغرافية المعروفة لدول العالم، وهذا المعنى يطرح "العولمة" ضمناً موضوع مستقبل الدولة القومية وحدود سيادتها، ودورها سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي". بينما عرف المفهوم الأمريكي العولمة بـ"تعميم نمط من الأنماط الفكرية والسياسية والاقتصادية لجماعة معينة، أو نطاق معين، أو أمة معينة على الجميع، أو العالم كله". وبما أن "العولمة" بدأت أساساً من الولايات المتحدة الأمريكية، فقد جاءت نظرياً كدعوة لتبني النموذج الأمريكي في الاقتصاد والسياسة والثقافة وبالتالي طريقة الحياة بشكل عام. وجاءت العولمة أساساً كنتاج للثورة العلمية والتكنولوجية، التي كانت في العصر الحاضر بمثابة نقلة نوعية في تطور الرأسمالية العالمية، في مرحلة ما بعد الثورة الصناعية التي ظهرت مع منتصف القرن 18 في أوروبا، نتيجة لاستخدام الطاقة، وغيرت بشكل جذري أسلوب وعلاقات الإنتاج، لتبدأ معها مرحلة جديدة من مراحل التطور الإنساني، اتصف بالتوسع الاقتصادي، والبحث عن الموارد الطبيعية، وفتح الأسواق العالمية. وكانت من مسببات ظهور الاستعمار التقليدي، وقيام الحروب الأوروبية لتلبية حاجات الرأسمالية الصاعدة. ومما سارع في شيوع "العولمة" استمرار التطور العلمي والتكنولوجي، وما رافقه من تطور هائل لوسائل الاتصال وجمع ونقل المعلومات الحديثة، التي شكلت بدورها تجديداً لنمط وطبيعة الإنتاج والتفاعلات والتعاملات الدولية. ولم تعد الحروب وسيلة لحسم الخلافات بين الدول الرأسمالية، بل أصبحت الحاجة ملحة لتوحيد أسواق الدول الصناعية المتقدمة من خلال سوق عالمية واحدة، أي ضرورة تجاوز الحدود الجغرافية والسياسية القومية المعروفة، وإعادة توزيع الدخل، والعمل على رفع المستوى المعيشي للإنسان ليمكن معه توسيع سوق الدول الصناعية المتقدمة، لاستيعاب المنتجات الحديثة، أي خلق "مجتمع استهلاكي كبير. وشكلت هذه السمات نقطة التحول من "الرأسمالية القومية" إلى "الرأسمالية العابرة للقوميات"، التي ارتبط فيها ظهور مفهوم "العولمة" الذي عبر عن ظاهرة اتساع مجال الإنتاج والتجارة، ليشمل السوق العالمية بأسرها. وتجاوز الفاعلية الاقتصادية التي كانت لمالكي رؤوس الأموال، من تجار وصناعيين، الذين كانت تصرفاتهم محكومة في السابق بحدود الدولة القومية التي ينتمون إليها، لتصبح الفاعلية الاقتصادية مرهونة بالمجموعات المالية والصناعية الحرة، المدعومة من دولها، عبر الشركات متعددة الجنسيات، وهكذا لم تعد الدولة القومية هي المحرك الرئيسي للفاعلية الاقتصادية على المستوى العالمي، بل حل مكانها القطاع الخاص بالدرجة الأولى في مجالات الإنتاج والتسويق والمنافسة العالمية. و"العولمة" ليست نظاماً اقتصادياً فقط، بل تعدته إلى كافة مجالات الحياة السياسية والثقافية والعلمية والإعلامية، لأن النمو الاقتصادي الرأسمالي العالمي استلزم وجود أسواق حرة، ووجود أنظمة سياسية من شكل معين لإدارة الحكم. وكما تعددت مراكز القوة الاقتصادية العالمية في الرأسمالية العالمية الحديثة، وتعددت معها مراكز القوى السياسية، حتى أنها خلقت بدائل وتعددية في القوى على مستوى السلطة، وهو ما دعم إمكانيات التطور الديمقراطي بكل شروطه، من عدم احتكار السلطة، وتداولها، وتعدد وتنوع مراكز القوى والنفوذ في المجتمع، ومنع تركيز الثروة في يد الدولة وحدها، محققاً نوعاً من اللامركزية في الإدارة.
ومما ساعد على الانتشار السريع للعولمة انتصار الرأسمالية على الأنظمة الأخرى، من نازية وفاشية وشيوعية بانهيار الإتحاد السوفييتي السابق، لتحل محله جمهوريات مستقلة، وسقوط النظم الشمولية في أوروبا الشرقية، وتحول الأنظمة الجديدة في تلك الدول نحو أشكال ديمقراطية للحكم ارتبط جوهرها بالتطور الديمقراطي والنمط الرأسمالي، يعتمد على الديمقراطية في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وأتاح الاتصال المباشر عبر القارات من خلال شبكات الاتصال العالمية ومحطات الإذاعة والتلفزيون عبر الأقمار الصناعية الفضائية، فرصة لإبراز ملامح العولمة التي أصبحت ملموسة حتى من قبل الأشخاص العاديين في أي مكان في العالم. ومن المنتظر أن يتيح هذا التطور الهائل في تكنولوجيا وسائل الاتصال الحديثة، إمكانية زيادة التواصل الثقافي بين شعوب العالم، ويساعد على إيجاد آمال وأهداف ومصالح مشتركة تتجاوز المصالح القومية ولا تتناقض معها، ولكن العديد من الحكومات أثارت مخاوف وشكوك كثيرة، سياسية يمكن أن تنجم عن بث بعض الدول برامج معادية لأنظمة الحكم، وأفكاراً وأيديولوجيات تهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي داخل دول أخرى يستهدفها البث الإذاعي والتلفزيوني كما وعبرت بعض القوى السياسية والاجتماعية المؤثرة في العديد من دول العالم عن خشيتها من النظام الإعلامي المفتوح الذي قد يهدد ثقافات وتقاليد وعادات ومقدسات الشعوب المغلوبة على أمرها.
وإذا كانت العولمة ترتبط بسيادة نموذج اقتصاد السوق، فإن هذا النموذج بدوره يثير قضية العلاقة بالدولة ودورها، ولا يبرر الانتقال إلى اقتصاد السوق أبداً اختفاء دور الدولة، وكل ما هنالك سيؤدي إلى تغيير محدود لهذا الدور. ومعظم من كتب في أهمية نظام السوق، كان يقرن ذلك دائماً بضرورة وجود دولة قوية، من دونها لا تستطيع أن تقوم السوق بدورها، ومن هنا ليس هناك مجالاً للحديث عن محاولة إلغاء أو تقليص دور الدولة، بل بالعكس لابد من التأكيد على هذا الدور وأهميته وضرورته، مع تعديل هذا الدور ليتوافق ونظام السوق. فالولايات المتحدة الأمريكية وهي أكبر دولة رأسمالية في العالم، تتدخل في الحياة الاقتصادية، وتحدد شروط النشاطات الاقتصادية، والسياسات النقدية والمالية والتجارية، والفارق المهم بين النظم المركزية، ونظم السوق، هو أن الدولة تتدخل في الحياة الاقتصادية باعتبارها سلطة، وليس باعتبارها منتجاً. لأن سلطة الدولة لا غنى عنها ولا تتناقض مع تطور الحياة الاقتصادية. والاقتصاد الحر لا يعني أبداً غياب الدولة عن النظام الاقتصادي والفرق بين النظام الليبرالي ونظام التخطيط المركزي، ليس في مبدأ "التدخل" ولكن في مضمونه، ففي ظل التخطيط المركزي تقوم الدولة بالإنتاج المباشر للسلع والخدمات، وتسيطر على النشاط الاقتصادي، عن طريق القطاع العام. أما في ظل الاقتصاد الحر، فإن الدولة تترك الإنتاج المباشر للسلع والخدمات للأفراد والمشروعات الخاصة، أي تحقيق التكامل بين دور الدولة ودور القطاع الخاص، ويكون تدخلها في سير الحياة الاقتصادية، بوسائل أخرى أكثر فعالية، من حيث الكفاءة الإنتاجية وتحقيق العدالة الاجتماعية. من خلال المحافظة على مستويات عالية للنمو الناتج القومي. والقيام بتوفير الخدمات الأساسية في مجالات التعليم والصحة، والقضاء، والأمن، والدفاع، ويدخل فيها قيام الدولة بمشروعات البنية الأساسية. ومبدأ الحرية الاقتصادية لا يعني أبداً إهمال مبدأ العدالة الاجتماعية، فالبلاد التي أخذت بهذا المبدأ، هي في مقدمة بلاد العالم من حيث الاهتمام بالفقراء، وتحقيق العدالة في التوزيع، وتوفير شبكة الأمان لكل المواطنين، ضد المخاطر الاجتماعية بما في ذلك البطالة والعجز والشيخوخة، وغيرها من الأمراض الاجتماعية. وهناك علاقة وثيقة بين الكفاءة في الأداء الاقتصادي وبين شروط العدالة. ذلك أن الكفاءة تعني نمو الاقتصاد القومي بمعدلات عالية، وتعاظم طاقة النظام الاقتصادي لتوفير فرص العمل المنتج لكل القادرين عليه، التي هي من المقومات الأساسية للعدالة الاجتماعية. والدور الجديد هذا للدولة يؤهلها للتكيف مع المتغيرات العالمية الجديدة، دون انتقاص لسيادتها، في ظل انتشار مفهوم "العولمة"، وشروط النظام العالمي الجديد. الذي يقوم على مبدأ الاعتماد المتبادل بين دول وشعوب العالم. والاندماج الإيجابي والواعي في النظام العالمي الجديد. انطلاقاً من حقائق أن "العولمة" ليست ظاهرة بلا جذور، بل هي ظاهرة تاريخية وموضوعية نتجت عن التطور الهائل لتكنولوجيا وسائل الاتصال وجمع ونقل المعلومات، والطبيعة التوسعية للإنتاج الرأسمالي. ولا يجوز البقاء خارجها، ويجب اللحاق بما يجري في العالم، والتعامل معه بوعي ووفق قواعد محددة تجنباً للبقاء خارج إطار التاريخ.
والنظام الاقتصادي الجديد جاء نتيجة لإنجازات كبرى في تاريخ تطور البشرية على كافة المستويات العلمية والثقافية والاقتصادية والتقنية والسياسية والفكرية، ويمثل نقطة جذرية مختلفة تماماً عن كل ما سبقتها من نظم. وأن الحضارة العالمية الحديثة قامت على أنقاض حضارات القرون الوسطى وثقافاتها، وفصلت الدين عن سلطة الدولة. وزودت الفكر البشري برؤية عقلانية تاريخية تنويرية، بتوجه ديمقراطي يقوم على أساس احترام الرأي والرأي الآخر، والتعددية، وحرية التعبير، وتكريس مبادئ حقوق الإنسان التي لا تعرف الحدود الجغرافية أو السياسية. وفرضت العولمة على الدول الأقل تقدماً واجب القيام بمزيد من خطوات التحديث الشامل الذي لا تمكن دون الدور الفاعل للدولة الذي تضطلع به من خلال الترشيد والأداء الاقتصادي، وتنظيم تفاعلات السوق.
سلبيات وأخطار العولمة: ولكن في حال اعترافنا بحتمية الانتقال إلى العولمة الشاملة من الضروري الإشارة إلى السلبيات والظواهر القاتلة والأخطار التي تفرضها العولمة على الإنسانية والموجودة فعلاً، ومنها: خطر خضوع العالم للشركات متعددة الجنسيات الغربية؛ وأخطار فرض مفاهيم وأسلوب التفكير والحياة الأمريكية على العالم؛ وخطر تعميق الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة في العالم (دول الشمال الغنية ودول الجنوب الفقيرة)؛ وخطر اتساع ظاهرة إضعاف دور الدول القومية، وعولمة الإرهاب، والتضييق على الثقافات واللغات القومية ومحاولة القضاء عليها، وإثارة الفتن في الدول متعددة القوميات. والنتائج السلبية للظاهرة الأولى قد تحصل على المدى البعيد نتيجة لزيادة هيمنة الشركات متعددة الجنسيات الكبرى على إدارة الاقتصاد العالمي وتحويلها إلى أداة دفع أيديولوجية للعولمة، لتجني من خلال دورها العالمي أرباحاً خيالية تدعم من قدراتها وإمكانياتها المالية والاقتصادية بشكل يفوق قدرات وإمكانيات بعض الدول في عالم اليوم، وهو ما تشير إليها بعض المصادر التي تقول أن حوالي 160 دولة عضوه في منظمة الأمم المتحدة تقل إمكانياتها وقدراتها عن إمكانيات وقدرات الشركات متعددة الجنسيات. وتنبأ البعض أنه في حال استمرار ظواهر العولمة أنفة الذكر فإنها ستؤدي حتماً إلى سيادة الشركات متعددة الجنسيات في الولايات المتحدة الأمريكية وغرب أوروبا واليابان وحكومات تلك الدول على الواقع الاقتصادي والمالي والتجاري في العالم ومن ثم السيطرة التامة عليه وعلى تفاعلات العلاقات الدولية. الأمر الذي يثير موجة احتجاجات واسعة من قبل الذين يعتبرون العولمة هي محاولة لفرض نمط الحياة الأمريكية على العالم من خلال 50 شركة أمريكية متعددة الجنسيات. ويرون أن الولايات المتحدة الأمريكية في الواقع مستمرة بتقدمها متجاوزة مصالح كل الدول الأجنبية، وحتى حلفائها المقربين، في المجالات العلمية والتكنولوجية، والتكنولوجيا العسكرية، لأنها تصرف ما يقارب الـ400 مليار دولار على شؤون الدفاع في السنة، وأن هذا الرقم يشكل نصف الميزانيات المخصصة في دول العالم للشؤون العسكرية. لأن حجم الإنفاق على مشاريع تطوير التكنولوجية العسكرية المتطورة في الولايات المتحدة الأمريكية يفوق بكثير ما تخصصه الدول السائرة في ركب الولايات المتحدة الأمريكية من الدول الأعضاء السبع الأخرى في مجموعة الدول الثمانية الكبرى مجتمعة. ولا يخفي القادة الأمريكيون سعيهم الحثيث لتوظيف كل القدرات الاقتصادية والمالية، والعلمية والتكنولوجية والعسكرية والسياسية من أجل فرض السيطرة الأمريكية على العالم في القرن الحادي والعشرين.
وتتمثل الهيمنة الأمريكية اليوم من خلال تحويل اللغة الإنكليزية باللهجة الأمريكية إلى لغة وحيدة لعولمة وسائل الاتصال والتبادل الإعلامي الدولي والعلاقات الدولية. وهو ما أشار إليه كتاب البريطاني د. كريستال "اللغة الإنكليزية لغة العولمة"، وكتابه "موت اللغات"، حيث أشار إلى أنه في نفس الوقت الذي يتسع فيه استخدام اللغة الإنكليزية تنقرض كل أسبوعين لغة من اللغات النادرة في العالم. وأشار بعض المتخصصين إلى أن أكثر اللغات جماهيرية على الكرة الأرضية ليست اللغة الإنكليزية بل اللغة الصينية التي يتحدث بها أكثر من 1.4 مليار إنسان، ولكنهم جميعاً خلف سور الصين العظيم، وفي جنوب شرق آسيا، وفي الأحياء الصينية المنتشرة في بعض بلدان العالم. عكس اللغة الإنكليزية التي يتحدث بها الجميع في كل مكان حتى أن الصين ألزمت مدارسها الابتدائية بتعليم اللغة الإنكليزية، ويتعلمها هناك في الوقت الحاضر عشرات الملايين من الصينيين الصغار والشباب والكبار. مما دفع بالكثيرين في الولايات المتحدة الأمريكية لاعتبار العولمة على الطريقة الأمريكية الطريق لوضع البشرية في خدمة المصالح الأمريكية والشعب الأمريكي الذي اختاره الله !
أما خطر تعميق الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة في العالم فيتمثل بالتفاعل الذي لا يؤدي إلى تسوية الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للإنسانية، بل على العكس يؤدي إلى تعميق الهوة بين الأغنياء والفقراء. والهوة تلك موجودة فعلاً داخل أكثر دول العالم، وحتى داخل الدول الغنية، ففي الوقت الذي يعاني فيه أكثر من 3 مليار إنسان من سوء التغذية، نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية تنفق أكثر من 100 مليار دولار أمريكي في السنة لمكافحة أمراض التخمة التي يعاني منها مواطنيها. في الوقت الذي يعيش فيه أكثر من 1.3 مليار إنسان على أقل من دولار واحد في اليوم، ووجود أكثر من مليار إنسان متعطلين عن العمل. وهو ما يعمق الآثار السلبية للعولمة وأشار إليها حتى التقرير الذي تعده منظمة الأمم المتحدة عن "تأثير العولمة على التطور الاجتماعي" حيث قدر المتخصصين العاملين على إعداده بأنه لا أمل خلال السنوات الخمسين القادمة للتقريب بين الدول الفقيرة والغنية من حيث مستوى الدخل وهو ما ينذر باشتداد المواجهة بينهما.
أما خطر اتساع ظاهرة إضعاف دور الدولة القومية، وعولمة الإرهاب، والتضييق على الثقافات واللغات القومية ومحاولة القضاء عليها، وغيرها من الظواهر فيتمثل بنمو وانتشار الجريمة المنظمة متعددة القوميات، والتي تنمو سنوياً بمعدل 5 % في الوقت الذي يبلغ فيه معدل نمو سكان العالم 1 %، وأشارت بعض المصادر إلى نمو الجريمة المنظمة الدولية بمعدل أربع مرات خلال السنوات العشر الأخيرة، وأن 450 مليون جريمة سجلت في عام 2001. وأدت العولمة إلى فتح الحدود أمام تدفق الأموال، والمعلومات، وملايين الناس، مما ساعد على نمو الجريمة متعددة القوميات، وأدت بدورها إلى تسارع نمو نوعين من الجريمة وهي: التجارة العالمية للمخدرات ليزيد عدد المدمنين على المخدرات في العالم حتى الـ180 مليون مدمناً، وليبلغ حجم تجارة المخدرات 800 مليار دولار أمريكي، مع اتساع جرائم أخرى كغسيل الأموال، حيث أشارت معطيات صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، إلى غسل 1.5 تريليون دولار أمريكي سنوياً في العالم، وهذا يعادل 5 % من الدخل العالمي.
ولا أحد ينكر أن العولمة ساعدت على انتشار الإرهاب الدولي الذي تحول بالتدريج إلى ظاهرة عالمية يحاول البعض وبإصرار ربطها بالعالم الإسلامي قبل وبعد الأعمال الإرهابية التي جرت في الولايات المتحدة الأمريكية في 11/9/2001، وأعقبتها أعمالاً إرهابية شملت الكثير من دول العالم كإسبانيا، وبريطانيا، وروسيا، ومصر، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، وإندونيسيا، وباكستان، والهند، وسورية، والأردن وغيرها من دول العالم وكلها تثبت العلاقة بين الإرهاب والعولمة، مما دفع بالملتقى الدولي الذي عقد في كرواتيا خلال نوفمبر/تشرين ثاني 2002 لمناقشة مشاكل الدبلوماسية العلنية، ووسائل الإعلام الجماهيرية والإرهاب. وتكرار ذلك من خلال المناقشات التي دارت أكثر من مرة وأظهرت حقيقة جديدة مفادها أنه لولا عولمة البث التلفزيوني لما كان الإرهاب. لأن الهدف الرئيسي للإرهاب كما أشار البعض ، ليس قتل بضع مئات أو حتى آلاف الناس، بل إخافة ملايين البشر، ولنكون أكثر دقة دب الخوف في قلوب 2 مليار مشاهد تلفزيوني تقريباً في كل دول العالم يشاهدون عادة الأخبار الرئيسية التي يبثها التلفزيون. هذا إن لم نشر إلى دخول المنظمات الإرهابية والجريمة المنظمة نفسها عالم استخدام وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية لتصعيد مشكلة الإرهاب في عالم اليوم أي عولمة هذا الشر عبر وسائل الاتصال الجماهيرية الإلكترونية الحديثة.
الثورة المعلوماتية: تعتبر ثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلوماتية التي بدأت أولى خطواتها مع غزو الإنسان للفضاء الكوني بعد إطلاق الاتحاد السوفييتي السابق لأول قمر صناعي تابع للأرض عام 1957 لتصبح تلك الخطوة من القوى الرئيسية الدافعة للعولمة، تتمة لمراحل النجاحات الاقتصادية في تاريخ البشرية منذ الثورة الصناعية التي لم نزل نعيش نجاحاتها كل يوم، إلى أن أحدثت اكتشافات ثورية في مجال الاتصالات والمعلوماتية فاقت بقدراتها اختراع التلغراف في أواسط القرن التاسع عشر، واختراع التلفون السلكي، والراديو، والسينماغراف في نهاية القرن التاسع عشر، ليجيء بعدها اختراع التلفزيون الذي أصبح شعار القرن العشرين للعمل على التطوير النوعي والكمي لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، وهكذا تمكنت البشرية مع نهاية القرن العشرين من امتلاك أكثر من 2.5 مليار جهاز استقبال إذاعي، وأكثر من 2 مليار جهاز استقبال تلفزيوني، وأكثر من 10 آلاف صحيفة يومية .. إلخ. وأخذ العالم بالفعل بالتحول حسبما توقع م. ماكلوهين، إلى "قرية عالمية"، وأصبح كل سكان العالم تقريباً يتلقونً في نفس الوقت نفس المعلومة. حتى تمكن 3.6 مليار مشاهد، في نفس الوقت من مشاهدة افتتاح الألعاب الأولمبية في سيدني عام 2000، والهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة الأمريكية عام 2001 عبر شاشات التلفزيون، وهذا الرقم يمثل عملياً كل البالغين من سكان الأرض. وحتى أن حوالي 2 مليار مشاهد من محبي كرة القدم أصبح بإمكانهم متابعة نهائيات كأس العالم بكرة القدم من مختلف عواصم العالم.
وتدريجياً تحسنت نوعية المصادر المعلوماتية ووسائل نقل المعلومات وحفظها واسترجاعها، وشهدت الحقبة الأخيرة من القرن العشرين ولادة عشرات شبكات البث التلفزيوني الدولية كشبكة سي إن إن العالمية وغيرها، وشهدت ولوج شبكة الانترنيت العالمية حيز الاستخدام الفعلي واسع النطاق. وتحول البث التلفزيوني إلى أداة من أدوات العولمة. وأصبحت شبكة الانترنيت العالمية أشد تأثيراً في عالم اليوم، وبعد أن كان عدد مستخدمي شبكة الإنترنيت في العالم عام 1993 حوالي 90 ألف مستخدم قفز هذا الرقم ليصبح 580 مليون مستخدم في عام 2004 ليتنبأ البعض بأن يصل هذا الرقم إلى مليار خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وهذا النمو السريع لم تشهده أية وسيلة اتصال وإعلام جماهيرية في تاريخ الإنسانية أبداً، واتجه التفاؤل نحو وسائل الاتصال الجماهيرية بعد أن أصبح عدد الهواتف المحمولة يقدر بحوالي 800 مليون جهاز في العالم، إضافة لمئات ملايين الهواتف العادية وكلها متصلة بشبكة الانترنيت عملياً. ومع اتساع استخدام وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية لوسائل النشر الإلكترونية الحديثة، مثل شبكة الانترنيت، زاد إلى حد كبير إشباع الإنسان أينما وجد بالمعلومات، وهو ما أصطلح على تسميته بمجتمع المعلومات أي دخول المعلومات والمعرفة عصر العولمة، الأمر الذي ضاعف كمية المعارف الإنسانية في سبعينات القرن العشرين، ولم تزل تلك الزيادة مستمرة حتى اليوم، ويطالب البعض بالقيام بعمليات كثيرة من أجل تحقيق المهام المتعلقة بنشاطات الإنسانية، الاقتصادية، والعلمية، والفضائية، والطبية، وغيرها، رغم أن الآلة في الوقت الحاضر أمست تكمل يد الإنسان، والكمبيوتر أمسى مكملاً لعقل الإنسان. ورغم أن العقل الإنساني هو أرقى مخلوقات الله، وحسب بعض المعطيات العلمية يتضمن 10 مليار نيرون، كل منها لها تقريباً ألف ارتباط مع غيرها من النيرونات ويمكنها القيام تقريباً بمأتي عملية في الثانية. ورغم أن المعادن نصف الناقلة لا تستطيع أن تسبق العقل البشري فقد ظهرت إمكانيات لصنع أنواع جديدة من الخلايا الخازنة للكمبيوتر تفوق مليون مرة العقل البشري من وجهة نظر التعامل والإمكانيات. وكان من المتوقع الانتهاء في عام 2003 من صنع كمبيوتر يفوق بحجمه حجم ثلاجتين منزليتين تبلغ سرعته ألف تريليون عملية في الثانية ويتفوق خمسة عشر مرة على 500 حاسب من أقوى الحاسبات الآلية لعام 2000.
وفي الوقت الذي تجهز الدول المتقدمة في العالم نفسها للانتقال إلى المجتمع المعلوماتي، نرى أن الاتحاد الأوروبي أعد في عام 1999 إستراتيجية "الرابطة المعلوماتية الأوروبية"، من أجل تجاوز التخلف عن الولايات المتحدة الأمريكية في هذا المجال. إلى جانب النجاح الهائل الذي حققته اليابان في هذا المجال، مما مكنها من أن تصبح في الطليعة في هذا المجال (لأن مصطلح "المجتمع المعلوماتي" ولد في اليابان أصلاً)، وأنهت سنغافورة برنامجاً لتعميم استخدام الكمبيوتر في كل أنحاء البلاد لتتحول إلى "جزيرة المعرفة"، وهو ما نجده في السياسة القومية للصين، والهند، وجميع الدول المتقدمة. وحتى أن الولايات المتحدة الأمريكية وضعت أمامها مهمة الانتقال إلى مرحلة ما بعد المجتمع الصناعي إلى مرحلة المجتمع المعلوماتي حتى عام 2020. عند ذلك سيشتغل 17% من سكانها فقط في مجال الإنتاج المادي والباقي في مجال المعلوماتية، والتعليم، والخدمات. وأن عمل 17% من السكان سيؤمن الرخاء لكل الشعب الأمريكي، لتتفوق الولايات المتحدة الأمريكية في العالم في كل المجالات. وفي نفس الوقت يعتبر المجتمع المعلوماتي نقطة تحضيرية للانتقال إلى عصر جديد، وهو مجتمع عصر الفضاء الكوني.
وأوصل التقدم الحثيث لتكنولوجيا المعلومات المتقدمة في السنوات الأخيرة إلى ظهور مستقبل آخر للأخطار التي تواجهها البشرية وحصلت على تسمية "الهوة الرقمية"، والحديث هنا يدور عن زيادة الهوة بين الأمم الغنية والأمم الفقيرة من حيث توفر وسائل الاتصال والمعلوماتية. و"الهوة الرقمية" عرفت من خلال تواجد من 250 مليون كمبيوتر على الكرة الأرضية اليوم، 40% منها في الولايات المتحدة الأمريكية، ونفس الكمية تقريباً في الدول "السبع الكبرى" الأخرى، و20% فقط هي حصة 5.5 مليار إنسان. فحوالي ثلث مستخدمي الإنترنت في العالم اليوم يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية، ونفس الكمية في أوروبا، وأقل قليلاً في اليابان، وجنوب كوريا، وجنوب شرق آسيا، وأقل من 10% في دول العالم الأخرى. وللمقارنة في الولايات المتحدة الأمريكية والسويد 600 هاتف لكل ألف نسمة، بينما في تشاد تلفون واحد لكل ألف نسمة وهذا يظهر عملياً أن كامل المعلومات وكل الاكتشافات في هذا المجال متمركز في الدول التي يعيش فيها 15% من سكان الأرض (وهذا يعني "المليار الذهبي")؛ في الوقت الذي يستطيع استخدامها 50% من السكان، ليبقى 35% (يعني 2 مليار إنسان) خارج هذه العملية. وأن عدم توفر شبكات الهاتف يفسر أسباب عدم تمكن أكثر من نصف الكرة الأرضية من إجراء اتصال هاتفي عام 2000. والتفوق الهائل للغرب في هذا المجال يشكل تهديداً ليس بتعميق الهوة بين الأغنياء والفقراء في العالم ، بل ويمهد لإساءة استخدام الساحة المعلوماتية من أجل العدوان، من خلال تحكم الغرب وتوجيهه للحملات الإعلامية لتحقيق أهداف محددة له، وخير مثال على ذلك أن قصف أفغانستان، وقصف العراق، وقصف يوغسلافيا، وقصف لبنان، وقصف فلسطين، بدأ والأمريكيين والأوروبيين يتابعون تلك الأحداث باهتمام على شاشات التلفزيون، وكأنها ألعاب كمبيوتر لا غير.
الإعلام الدولي والسياسة الخارجية: تقوم مؤسسات الإعلام عادة بنشر المبادئ والأفكار والمواقف والأخبار بواسطة وسائل الاتصال الجماهيرية المتنوعة بغرض الإقناع والتأثير على الأفراد والجماعات محلياً داخل المجتمع، وخارجاً بعد أن تخرج عن نطاق المحلية وتجتاز الحدود الجغرافية والسياسية للدولة، لنقل المبادئ والأفكار والمواقف والأخبار لمواطني الدول الأخرى، من أجل خلق نوع من التأثير أولاً، ومن أجل تحقيق نوع من الحوار الثقافي ثانياً متجاوزة الحواجز اللغوية، والسياسية، والجغرافية، لتتحول المؤسسات الإعلامية ووسائل اتصالها الجماهيرية إلى مؤسسات إعلامية دولية. ويعتبر الإعلام الدولي جزء لا يتجزأ من السياسة الخارجية للدول المستقلة المتمتعة بالسيادة الوطنية الكاملة، ووسيلة فاعلة من وسائل تحقيق بعض أهدافها السياسية الخارجية داخل المجتمع الدولي. ويخدم الإعلام الدولي المصلحة الوطنية العليا للدولة، وفقاً للحجم والوزن والدور الذي تتمتع به هذه الدولة أو تلك في المعادلات الدولية القائمة، وتأثيرها وتأثرها في الأحداث العالمية المستجدة كل يوم. وخاصة عند نشوب أزمات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو اضطرابات اجتماعية تطال تلك الدولة، أو الدول المجاورة لها، أو تطال مناطق المصالح الحيوية للدول الكبرى في أنحاء مختلفة من العالم، أو في حال حدوث كوارث طبيعية أو أوبئة وأخطار بيئية تهدد الحياة على كوكب الأرض، ككارثة الانحباس الحراري الذي يهدد البشرية اليوم.
وللإعلام الدولي دوافع متعددة، تعتمد على المصالح السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والاجتماعية، والعلمية، والثقافية، والإنسانية، بما يتفق والسياسة الخارجية للدولة المعنية، وتنبع كلها من المصالح الوطنية العليا للدولة، وقد يعمل الإعلام من خلال هذا المنظور على تعزيز التفاهم الدولي والحوار بين الأمم، ليؤدي إلى خلق تصور واضح للدول بعضها عن بعض، مفاده التحول من النظام الثقافي القومي التقليدي المغلق، إلى نظام ثقافي منفتح يعزز التفاهم الدولي ويعمل على تطويره أو إلى نظام ثقافي شمولي تديره جهات معينة من وراء الحدود للوصول إلى أهداف معينة تخدم مصالحها الخاصة. وكان للإعلام الدولي دوراً أساسياً في هذا التحول بعد التطور الهائل الذي حدث في تقنيات الاتصال خلال القرن العشرين، وساعد على إحداث تغيرات ثقافية واجتماعية واضحة، رغم تضارب المصالح الاقتصادية والسياسية والصراعات الإيديولوجية المؤثرة على القرار السياسي اللازم لأي تقارب أو حوار دولي هادف بين مختلف دول العالم.
وظائف الإعلام الدولي: ومن الأمور التي تميز البشر عن غيرهم من المخلوقات الحية أنهم قادرون على التواصل وإعلام بعضهم البعض. وكانوا منذ القدم بحاجة دائمة لمراقبة وفهم الظروف المحيطة بهم، ونشر الآراء والحقائق التي تساعد الجماعات الإنسانية على اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب، ونشر تلك القرارات على نطاق واسع دون تأخير، ونقل تراث الأجداد وبلورة التطلعات السائدة في المجتمع ووضعها في خدمة الأجيال الصاعدة، والترفيه عن أفراد المجتمع.
ولم تزل مهام الإعلام في المجتمعات القديمة وحتى يومنا هذا كما كانت قائمة عليه، ولكن بفارق أصبحت معه تطال قطاعات جماهيرية واسعة جداً، وبأساليب وتقنيات حديثة متطورة بعيدة المدى تحيط بالكرة الأرضية برمتها وبامتداد يشمل الفضاء الكوني لإشباع حاجات الأفراد والجماعات للمعلومات عن الظروف المحيطة بهم، وأصبحت تصلهم بسرعة فائقة ودقة كبيرة عن طريق وسائل الاتصال الحديثة، وأجهزة الاستشعار عن بعد التي باتت تستخدم أحدث المعدات الإلكترونية والتجهيزات المتطورة باهظة التكاليف، وتساعد على اتخاذ القرارات وتنفيذها في الوقت المناسب.
وهكذا نرى أن مهام الإعلام التي وجدت في المجتمعات القديمة هي نفسها الموجودة في المجتمعات الحديثة اليوم من حيث المبدأ والفارق الوحيد أنها أصبحت متعددة ومتشعبة وأكثر دقة بفضل وسائل الاتصال الحديثة المتطورة التي لم تكن معروفة من قبل. وأصبحت الدول أكثر من ذي قبل تشارك عن طريق ممثليها في التأثير على مجرى الحياة الاجتماعية في الداخل والخارج من خلال سياساتها الداخلية والخارجية مستعينة بوسائل الاتصال الجماهيرية، وأصبحت المصالح الوطنية العليا للدولة أكثر تأثيراً في عملية اتخاذ القرارات على الصعيدين الداخلي والخارجي. بعد أن دخلت وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية القرية والمدينة والتجمعات السكانية أينما كانت، وتحولت إلى نظام مفتوح أمام قوى التغيير الآتية من الداخل والخارج، ومعنى هذا أن الوظائف القديمة للإعلام اختلفت من حيث درجتها وحجمها فقط وليس في نوعها، والسؤال المطروح اليوم لماذا كل هذا الاهتمام بوسائل الإعلام الجماهيرية ؟
والجواب أن تلك الوسائل أصبحت تصل اليوم إلى جمهور واسع متعدد الشرائح والقيم والانتماءات، ووسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية التي كانت يوماً ما تصل إلى جمهور محدود وبتأثير محدود، أصبحت اليوم تصل إلى شرائح سكانية كبيرة منتشرة في أنحاء متباعدة من العالم، وأصبحت تؤثر على آراء الناس وتصرفاتهم وأسلوب حياتهم، فالصحيفة والمجلة والكتاب الذي كان يقرؤه في الماضي عدد محدود من الأفراد، يقرؤه اليوم ملايين البشر، مطبوعاً أم منقولاً عبر شبكات الحاسب الآلي المتطورة "الانترنيت". والبرنامج الإذاعي الذي كان يسمع ضمن دائرة محدودة أصبحت تسمعه ملايين البشر موزعين في مناطق متباعدة من العالم، والبرنامج التلفزيوني الذي كان حكراً على منطقة جغرافية محدودة أصبح اليوم في متناول المشاهد في قارات العالم. وتقنيات البريد الإلكتروني والفاكس أخذت تحل مكان التلكس والمبرقات التلغرافية القديمة، مما جعل الناس يؤمنون بأن تلك الوسائل تؤثر في المجتمعات وتعمل على تغييرها بشكل كبير وليس على الصعيد المحلي وحسب، بل وعلى صعيد العالم برمته وبرز الإعلام الدولي الذي عزز من مكانته وتأثيراته ووظائفه.
وللإعلام الدولي دوافعه ووظائفه المحددة يؤديها تنفيذاً للدور الذي تفرده له السياسة الخارجية للدولة أو الهيئة التي يتبع لها، وهي:
1- الاتصال بالأفراد والشرائح الاجتماعية والجماعات والكتل السياسية والمنظمات داخل الدولة الخاضع لقوانينها أو التابع لها وتتمثل بالحوار مع القوى المؤثرة على عملية اتخاذ القرار السياسي من شخصيات وتجمعات وأحزاب وكتل برلمانية، سواء أكانت في السلطة أم في المعارضة على السواء، للوصول إلى الحد الأقصى من الفاعلية التي تخدم سياستها الخارجية. وتخضع عملية الاتصال هذه عادة لمعطيات هامة من حيث المواقف والقضايا المطروحة قيد الحوار، ومواقف السلطة والمعارضة منها والخط السياسي الرسمي للدولة حيالها. وتتراوح هذه المواقف عادة مابين المؤيد التام، والمؤيد، والحياد التام، والحياد، والمعارضة التامة، والمعارضة، والعداء التام، والعداوة، ولهذا كان لابد من تحديد دقيق للموقف السياسي للدولة، ومقارنته بالمواقف الأخرى، للعمل على كسب التأييد اللازم لصالح القضايا المطروحة للنقاش، والعمل على زحزحة المواقف السياسية المعلنة للدولة، لصالح تلك القضايا. أو محاولة خلق مناخ ملائم للحوار الإيجابي حولها على الأقل. ويجب الأخذ بعين الاعتبار طبيعة النظام السياسي السائد في تلك الدولة، ومستوى ديمقراطية هذا النظام، وطرق اتخاذ القرارات السياسية في ظل النظام السياسي القائم، ومدى المشاركة الفعلية لكل القوى السياسية المشاركة في اتخاذ تلك القرارات. لأن الاتصال بالجماهير الشعبية في أي دولة من دول العالم يتم من خلال تلك القوى التي تمثل النخبة المؤثرة، وهي أولاً: أصحاب الحق باتخاذ القرارات؛ وثانياً: الجماهير الشعبية، التي هي بمثابة قوة ضاغطة على أصحاب حق اتخاذ القرار. ومن هنا نفهم مدى أهمية إلمام خبراء الإعلام والمخططين للحملات الإعلامية الدولية بالنظم السياسية للبلدان المستهدفة والقوى المؤثرة فيها سواء أكانت تلك القوى في السلطة أم في المعارضة، ودور تلك القوى في اتخاذ القرارات لاستخدامها في وضع خطط الحملات الإعلامية المؤيدة، أم المضادة وأن نأخذ بعين الاعتبار الحقائق الاجتماعية والثقافية التي تساعد على نجاح الحملات الإعلامية الدولية.
2- الاتصال المباشر بالجماهير الشعبية، عن طريق النشرات الإعلامية، والمؤتمرات الصحفية، والمقالات، والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، والعروض السينمائية والمسرحية، وأفلام الفيديو، وإقامة المعارض الإعلامية، وتشجيع السياحة وتبادل الزيارات، وغيرها من الوسائل التي تتيح أكبر قدر ممكن من الصلات المباشرة مع الجماهير، للوصول إلى تأثير إعلامي أفضل وأكثر فاعلية. وتأخذ بعض الدول لتحقيق سياستها الخارجية أسلوب مخاطبة الجماعات المؤثرة فقط، توفيراً للنفقات التي تترتب من جراء استخدام أسلوب الاتصال المباشر بالجماهير الشعبية العريضة، وتوفيراً للوقت الذي يستغرق مدة أطول من الوقت اللازم عند مخاطبة قطاعات وشرائح اجتماعية متباينة من حيث المصالح والتطلعات، ومستوى التعليم، والثقافة، والاتجاه الفكري ومزاجية تلك الجماهير العريضة في متابعة القضايا المطروحة، والمحصورة في بوتقة اهتمامات شريحة اجتماعية معينة فقط، لأن أسلوب الاتصال الفعال بالجماهير الشعبية يحتاج أيضاً لإمكانيات كبيرة ووسائل متعددة، تفتقر إليها الدول الفقيرة والنامية بينما نراها متوفرة لدى الدول المتقدمة والغنية والقادرة من حيث الإمكانيات المادية والتقنية والخبرات الإعلامية، وتمكنها من استخدام الأسلوبين في آن معاً.
3- يمثل الإعلام الدولي الدولة أو الجهة التي ينتمي إليها، سواء أكانت محلية أم إقليمية أم دولية أم متخصصة أم تجارية، كمكاتب الأمم المتحدة ومؤسساتها المتخصصة في العديد من دول العالم، ومكاتب جامعة الدول العربية، ومنظمة الوحدة الإفريقية، والجامعة العربية، ومنظمة الأوبك، والسوق الأوربية المشتركة، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، ورابطة الدول المستقلة، ورابطة أوروآسيا الاقتصادية، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ومنظمة جنوب شرق آسيا، وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية.
ونحن عندما ننظر اليوم إلى الطريقة التي تستخدم فيها الدول الغنية كل تقنيات وسائل الاتصال الحديثة في خدمة حملاتها الإعلامية الدولية، عبر أبسط صورها المتمثلة بالقنوات التلفزيونية الفضائية، بعد انتشار استعمال الدوائر المغلقة بالكابلات، وهوائيات استقبال البث التلفزيوني عن طريق الأقمار الصناعية في المنازل. وشيوع استخدام شبكات الحاسب الآلي واسعة الانتشار، ومن أهمها، شبكة الـ "إنترنيت" العالمية التي انطلقت من الولايات المتحدة الأمريكية، وتعمل دون منافس يذكر حتى الآن، وموجات البث الإذاعي الوطنية الـ FM المؤجرة للغير. في الوقت الذي نرى فيه الدول النامية تتخبط بمشاكلها الإعلامية، وتعاني من الآثار المترتبة عن التطور التكنولوجي الحديث، والخلل الفاحش في التدفق الإعلامي الدولي أحادي الجانب والتوجه والتأثير.
مشاكل يعاني منها الإعلام الدولي في الدول النامية: ورغم الجهود الحثيثة التي بذلتها وتبذلها الدول النامية والفقيرة حتى اليوم، للخروج من المأزق الإعلامي الذي تعاني منه، نراها تتخبط بمشاكلها الإعلامية التي تزداد تشعباً وتعقيداً كل يوم، بسبب التطور العلمي والتكنولوجي الهائل في ميدان وسائل الاتصال الحديثة، ووسائل الإعلام الجماهيرية حتى على الصعيد الوطني، ومن أهم تلك المشاكل: الخلط بين الوظيفة الإعلامية المحلية، والوظيفة الإعلامية الإقليمية، والوظيفة الإعلامية الدولية، ومتطلبات كل من تلك الوظائف وخصائصها المتميزة؛ والخلط بين السياسات الداخلية والإقليمية والخارجية للدولة عند التخطيط للحملات الإعلامية الدولية، والارتباك في تحديد الأولويات؛ وضعف أجهزة وتقنيات المؤسسات الإعلامية الوطنية، وافتقارها للمعدات والتجهيزات المتطورة، والإمكانيات المالية اللازمة للحملات الإعلامية الدولية، أو استخدامها للإعتمادات المالية المتاحة بشكل سيء، أو بشكل غير فعال لتحقيق الأغراض المطلوبة، إضافة لسطحية المساعدات الخارجية التي تحصل عليها تلك الدول من الدول الغنية، والمنظمات الدولية المتخصصة؛ والنقص الفاضح في الكوادر الإعلامية المتخصصة بالإعلام المحلي والإقليمي والدولي، وندرة أصحاب التخصص الأكاديمي بينهم، مما يؤدي إلى اختيار كوادر غير كفوءة للعمل الإعلامي الدولي، لاعتبارات سياسية في أكثر الأحيان، وهذا بدوره يؤدي إلى: غياب التنسيق بين المخطط، والمنفذ، وأجهزة متابعة الحملات الإعلامية الدولية؛ وضعف الإلمام بخصائص الجمهور الإعلامي الأجنبي، وعدم إتباع أسلوب إعلامي منطقي ملائم ومتطور قادر على إيصال مضمون الرسالة الإعلامية للقطاعات المستهدفة من الحملة الإعلامية الدولية؛ وغياب التعاون وحتى التنسيق بين المؤسسات الإعلامية، ومؤسسات التعليم العالي المتخصصة، ومؤسسات البحث العلمي، فيما يخص إعداد الكوادر الإعلامية الوطنية والبحوث العلمية التطبيقية، وخاصة فيما يتعلق بدراسة راجع الصدى الإعلامي وتأثير المادة الإعلامية، وفاعلية الخطط الإعلامية، والاكتفاء بالبحوث النظرية البحتة التي تتناول الجوانب الوصفية والتاريخية فقط، بابتعاد عن الدراسات التي تتناول جوهر التخطيط، وتحليل مضمون الرسائل الإعلامية، وتقدير راجع الصدى الإعلامي المخطط له وراجع الصدى الفعلي للمواد الإعلامية وقدرات الوسيلة الإعلامية المستخدمة.
الإعلام الدولي والصراعات الدولية: يعاني عالم اليوم كما في الماضي من صراعات سياسية ومنازعات عسكرية عديدة، وتبقى في مقدمتها اليوم القضية الفلسطينية التي مازالت تهدد الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والعالم منذ مدة تجاوزت النصف قرن وأدت إلى عدة حروب مدمرة منذ قيام دولة إسرائيل بموجب قرار الأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947 الذي قضى بإنشاء دولتين عربية وعبرية على أرض فلسطين التي كانت آنذاك تحت الانتداب البريطاني بتجاهل لمصالح الشعب الفلسطيني، وبدأت تلك الحروب بالحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948م وانتهت باحتلال إسرائيل لقسم من الأراضي المخصصة للدولة العربية في فلسطين وإعلان الهدنة، التي استمرت حتى العدوان الثلاثي الإنكليزي الفرنسي الإسرائيلي على مصر عام 1956 وانتهى بانسحاب القوات المعتدية من الأراضي المصرية المحتلة، ثم العدوان الإسرائيلي على مصر والأردن وسورية عام 1967 الذي انتهى باحتلال الجيش الإسرائيلي لشبه جزيرة سيناء المصرية وقطاع غزة الفلسطيني الذي كان تحت الإدارة المصرية آنذاك، وكامل الضفة الغربية لنهر الأردن الفلسطينية والتي كانت آنذاك تحت الإدارة الأردنية، وهضبة الجولان السورية بعد إعلان وقف إطلاق النار. والحرب العربية الإسرائيلية عام 1973 التي خاضتها مصر وسورية مدعومة من بعض جيوش الدول العربية لتحرير الأراضي العربية من الاحتلال الإسرائيلي وانتهت باحتلال إسرائيل لمزيد من الأراضي المصرية والسورية. لتعقبها المعركة السياسية من أجل تحقيق السلام في الشرق الأوسط، والتي تكللت بتوقيع أول معاهدة سلام بين إسرائيل والعرب، وهي المعاهدة الإسرائيلية المصرية المعروفة بمعاهدة كمب ديفيد، التي صمدت رغم الاجتياح الإسرائيلي للأراضي اللبنانية عام 1982 وعدوانها المستمر عليه، واحتلالها المستمر لجزء من أراضيه. لتبدأ عام 1991 المسيرة السلمية الشاملة في الشرق الأوسط بانعقاد مؤتمر مدريد الدولي لحل قضية الشرق الأوسط بمشاركة جميع الأطراف المعنية، وأطراف دولية أخرى برعاية الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وما أعقبها من اتفاقيات سلام بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، ومعاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية. لتعود وتصطدم الجهود السلمية مرة أخرى بالعدوان والتعنت الإسرائيلي المستمر والذي يحظى بمساندة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها دون قيد أو شرط، التعنت الذي يحول دون التوصل لسلام عادل ودائم في الشرق الأوسط يقضي بالانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من الأراضي العربية المحتلة، بما فيها هضبة الجولان السورية المحتلة، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. ومن بؤر الصراع الخطيرة الأخرى في العالم، الصراع الباكستاني الهندي على مقاطعة كشمير الحدودية المتنازع عليها بين الطرفين والتي تهدد بالانفجار في أي وقت كان خاصة بعد سلسلة التجارب النووية التي نفذتها الدولتين في أيار/ مايو 1998، معلنة عن مرحلة جديدة في إطار سباق التسلح الجاري في القارة الآسيوية. والحرب الأهلية الدامية والمدمرة في أفغانستان، التي بدأت عام 1979 ضد التدخل العسكري السوفييتي في الشؤون الداخلية لأفغانستان، وتحولها بعد ذلك إلى حرب عرقية ودينية إثر انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان، تلك الحرب التي هددت أمن واستقرار الدول المجاورة لها، وخاصة دول آسيا المركزية المستقلة حديثاً بعد انهيار الإتحاد السوفييتي السابق، أوزبكستان، وطاجكستان، وتركمانستان ولها حدوداً مشتركة معها. واستمرار الخطر رغم قيام التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بغزو الأراضي الأفغانية والقضاء على حكومة طاليبان فيها بذريعة الهجمات الإرهابية التي تمت عام 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية.
إضافة إلى مناطق التوتر الكثيرة التي ظهرت بعد انهيار الإتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، كالصراع في قره باغ الأذربيجانية، والصراع في الشيشان بين روسيا الاتحادية والمطالبين باستقلال جمهورية إشكيريا، والصراع في أبخازيا المطالبة بالاستقلال عن جورجيا، والحرب الأهلية التي هدأت نسبياً في طاجيكستان، والصراع بين البوسنيين، والصرب، والكروات وألبان كوسوفو، فيما كان يعرف سابقاً بيوغسلافيا الاتحادية، والوضع الشاذ في ألبانيا التي انهارت وبكل سهولة، أجهزة وبنى الدولة العسكرية والسياسية خلال تسعينات القرن العشرين.
والصراعات الكامنة الأخرى بين الكوريتين الشمالية والجنوبية، والحرب الأهلية في الصومال والسودان، والمغرب العربي، والخلافات الحدودية الإريترية اليمنية، والإريترية الإثيوبية، والوضع المتوتر في منطقة الخليج العربي بسبب الحرب العراقية الإيرانية المدمرة، والغزو العراقي للكويت وقيام التحالف الدولي بتحرير وطرد القوات العراقية من الكويت، ومن ثم غزو قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية العراق واحتلاله وإسقاط نظام الحكم القائم فيه حتى دون قرار من مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة، وتحول العراق بسبب الاحتلال إلى ساحة للصراعات العقائدية والطائفية والعرقية التي لا يحمد عقباها، وتهدد وحدة ترابه وثرواته الوطنية، التهديد الذي أصبح واقعاً بعد صدور قرار الكونغرس الأمريكي بتقسيم العراق إلى كيانات فيدرالية في سبتمبر 2007، وغيرها من بؤر التوتر الكثيرة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهي بمعظمها من التركة الثقيلة للاستعمار الأوروبي الطويل في تلك المناطق.
وقد بينت السوابق التاريخية أن لكل صراع أبعاده الداخلية، والإقليمية، والدولية، وعناصر قوى يجب مراعاة التفاعلات الجارية بينها، وتأثير هذا التفاعل على تطور الصراع بشكل عام، بقصد التعامل مع هذا الصراع ومعالجته بالشكل المناسب، وهذا لا يمنع وجود عناصر مشتركة بين الصراعات المختلفة، ويمكن الاستفادة منها عند معالجة تلك الصراعات أو التعامل معها إعلامياً. وتعتمد النتائج النهائية لأي صراع من الصراعات، على عناصر القوة المتوفرة لدى كل طرف من أطرافه، وتضم هذه العناصر القوى المعلوماتية، والعسكرية، والتكنولوجية، والإمكانيات الاقتصادية، والسياسية، والبشرية، والحالة المعنوية للقوى البشرية. وتعتمد كلها على مسائل أخرى كعنصر المفاجأة، وتطور استخدام الإستراتيجية والتكتيك، واللجوء إلى أساليب جديدة غير معروفة من قبل، مما تجعل عملية التنبؤ بنتائج الصراع صعبة جداً، وفي بعض الأحيان غير مجدية، إضافة للإمكانيات الذاتية للأشخاص القائمين على إدارة الصراع، ومدى توفر المعلومات لديهم، والتقنيات والأدوات الحديثة التي يستخدمونها في الصراع، فصانع القرار في أي صراع يبني قراره على معطيات ملموسة أولاً، وعناصر غير ملموسة تشمل الخصائص النفسية والحالة المعنوية للخصم ثانياً.
وتقتضي معالجة الصراع الاعتماد على العقلانية وبعد النظر، واستبعاد العواطف والانفعالات، لأن عملية معالجة أي صراع هي عملية معقدة وشاقة، ونابعة أساساً من عناصر القوى المشاركة فعلاً في الصراع من الجانبين أو من قبل الأطراف المتصارعة، أو المعنية بالصراع، مبنية على الحسابات الدقيقة والخطط الموضوعة والمستخدمة فعلاً من قبل طرفي أو أطراف الصراع. وتتنوع أدوات الصراع، عندما تقتضي ظروف الصراع اللجوء إلى القوة العسكرية تارة، وإلى القوة الاقتصادية تارة أخرى، أو إلى العمل السياسي والدبلوماسية الهادئة في حالات أخرى، أو قد يلجأ الجانبان المتصارعان إلى استخدام القوة العسكرية، والاقتصادية، والسياسية، والدبلوماسية في آن معاً، مستخدمين المرونة في تكتيك إدارة الصراع وفقاً لطبيعة الظروف المتبدلة محلياً وإقليمياً ودولياً.
ويبقى دور الإعلام الجماهيري في عملية الصراع متمثلاً بتعبئة الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي حول وجهة النظر الرسمية للدولة من الصراع الدائر وشرحها وتغطية أخبار أهم أحداثها تباعاً. وشرح وتحليل أبعاد هذا الصراع وأسبابه، مع مراعاة أن يأخذ خبراء الاتصال والإعلام والصحفيين بعين الاعتبار، خصائص الجمهور الإعلامي المخاطب ثقافياً وسياسياً وتاريخياً، ومدى تعاطفه مع وجهة النظر الرسمية للدولة المعنية في هذا الصراع، واختيار اللغة المناسبة للرسائل الإعلامية لتصل إلى أقصى حد ممكن من التأثير والفاعلية، لأن السلاح الإعلامي في أي صراع كان ولم يزل لا يقل أهمية عن القوة العسكرية والاقتصادية، لأنه الوسيلة الناجعة لرفع معنويات القوى البشرية في الدول المعنية، وتحطيم الروح المعنوية للخصم في الصراعات الدائرة، مع التأكيد على أن الإعلام الناجح هو السند القوي في الكفاح على الجبهة السياسية والعمل الدبلوماسي الهادئ والرصين والمنطقي.
مستقبل العلاقات الدولية: في مقارنة قام بها بعض المؤرخين للتنبؤات التي وضعها السياسيون عام 1900 وما حدث فعلاً خلال قرن من الزمن ظهر أنهم لم يتوقعوا من خلال تنبؤاتهم بالأحداث الهامة التي جرت خلال القرن العشرين، لا بالحربين العالميتين، ولا بثورة أكتوبر البلشفية في روسيا، ولا بتشكل الدول الاشتراكية، ولا بانهيار النظم الاستعمارية العالمية، ليثبت أن التنبؤ في مجال التطور العالمي صعب جداً، وهو أصعب بكثير من التنبؤ في مجال برامج الاستنساخ الطبية أو في مجال غزو الفضاء وانتقال البشر إلى الكواكب الأخرى، ومع ذلك فقد حاول البعض وضع سيناريوهات ممكنة للمستقبل منطلقين من حقائق العصر، منها:
أن توقع مستقبل انفراد الولايات المتحدة الأمريكية في مسعاها لفرض هيمنتها على العالم خلال السنوات العشرين القادمة ممكن لأن هذه الدولة مستمرة في المضي على طريق زيادة الهوة بينها وبين المجتمع الدولي في مجالات العلاقات المالية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية والسياسية وغيرها، وخلال سنوات الفترة الرئاسية الأولى من حكم بيل كلينتون (1992 – 1996) للولايات المتحدة الأمريكية، ارتفع المؤشر الاقتصادي للدخل القومي بحوالي 4% سنوياً، وهو ما حدث للدخل القومي الألماني، وخلال الفترة الرئاسية الثانية لبيل كلينتون (1996 - 200) زاد الدخل القومي الياباني، وتحدث الكثيرون عن "المعجزات الاقتصادية" الأخرى، وفي الواقع أن المعجزة جرت في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. لأن العولمة في ظروف القطب العالمي الواحد تضيق على الدول المستقلة الكبرى الأخرى، ولا تدعهم يسلمون بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية للعولمة، ولا يستبعد أن واشنطن كقائد ستقوم بتنفيذ خطط إستراتيجية لإضعاف أو إنهاك تلك الدول. وهنا لابد من التذكير بما كتبه س. هنتنجتون: من أن "النظام أحادى القطبية يبشر بقيام دولة عظمى واحدة، وغياب الدول العظمى الأخرى وعدد كبير من الدول الصغيرة". لنستنتج أن دولاً كبيرة مثل روسيا، والصين، والهند، غير مرغوب بها للولايات المتحدة الأمريكية ليبرز سؤال مهم إلى متى ستستمر حالة عالم القطب الواحد هذه ؟
وهو ما حاول الإجابة عنه الأكاديمي الروسي ن. مويسييف معتمداً على قوانين الرياضيات مؤكداً عدم إمكانية الاحتفاظ بهذا الوضع لفترة طويلة، لأن التاريخ أثبت أنه في كل مرة أدارت فيها قوة عظمى واحدة العالم دون أن يكون لها قوة معادلة انهارت كروما والإمبراطوريات الأخرى التي سيطرت على العالم القديم منفردة، وشبه هذا الوضع بكرسي يستند على ساق واحدة. وذكر أنه: "بعد التدمير الإجرامي لمركز القوة الثاني (الاتحاد السوفييتي السابق)، الذي قامت به جماعة صغيرة انهار التوازن السلمي لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ودمرت طبيعة تطور الأحداث في عملية التفاعل الكوني، وأصبح كل شيء مرتبط بشكل جديد من أشكال القوة العسكرية" وبدأت تظهر مساعي واشنطن التي تعلم أنه لا يمكنها الصمود طويلاً وحيدة، للحصول على مساندة غرب أوروبا لتكون الشريك الاستراتيجي الأصغر. في الوقت الذي أخذت فيه بالظهور دعوات تدعوا الغرب بالسعي لبناء تحالف أمريكي أطلسي من أجل تحقيق الاستقرار في العالم.
وأدى تركيز مراكز القوة المالية والاقتصادية والتجارية إلى تحول شرق وجنوب شرق آسيا إلى مركز لنصف الاقتصاد العالمي المالي والتجاري والسكاني. وتوقع البعض أن تملك الصين حتى عام 2020 أكبر اقتصاد عالمي، مشيرين إلى أن هذا لا يعني وزنها العسكري والسياسي بل مستوى الحياة في الصين نفسها الذي سيتفوق على نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وأن الصين لن تترك واشنطن تتحكم بالعالم وحدها. وأن الهند بسكانها الـ 1.2 مليار نسمة ستصبح الدولة الرابعة في عالم الاقتصاد، ووفق توقعات البنك الدولي، ستبقى ثلاث دول غربية هي الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، والبرازيل؛ ضمن الدول العشر الأكثر تتطوراً اقتصادياً في العالم حتى عام 2020 والسبع الباقية في آسيا. رغم أن التأثير المباشر على العلاقات الدولية خلال العشر سنوات القادمة سيبقى كما كان في السابق متركزاً في ثلاثة مراكز للقوة هي الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، واليابان، ومن المتوقع أن تنضم إليهم الصين والهند وأن تلعب روسيا وحلفائها دور مركز الثقل في تطور الأحداث العالمية.
ومن تحليل لتوقعات المتخصصين الأجانب، يمكن أن نجد أن العولمة: - عززت التشابك الاقتصادي والأمني لمختلف الدول، وتغيرت إلى حد بعيد الأجندة السياسية الدولية، ورافقها تغيير لأفضليات مصالح الدول على الساحة الدولية وتبدلت إمكانيات وسائل تنفيذ سياساتهم الخارجية. - وأن مفهوم "قوة الدولة" تغير من الاعتماد على القوة العسكرية إلى الاعتماد على تطوير الموارد المالية والاقتصادية والمعلوماتية والفكرية للدولة. - وأن دور اللاعبين الرئيسيين على الساحة الدولية تبدل من التحالفات والاتحادات العسكرية والسياسية، إلى التحالفات والاتحادات التجارية والاقتصادية الإقليمية، والدولية مثال: الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي، والرابطة الاقتصادية "أوروآسيا"، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ومجلس تعاون دول الخليج العربية، وغيرها لتبقى في مقدمتها مجموعة "دول الثمانية الكبرى"، وهو ما يعني تحول السياسة العالمية والدبلوماسية نحو الاقتصاد. - وأن العولمة كانت السبب في ارتفاع نسبة الوعي القومي بين سكان الكرة الأرضية، ويمكن أن تؤدي إلى ارتفاع عدد الدول المستقلة. خاصة وأن عدد الدول المستقلة كان (50) دولة بعد الحرب العالمية الثانية، وأن منظمة الأمم المتحدة تضم في عضويتها الآن أكثر من 192 دولة، مع إمكانية زيادة هذا العدد خلال السنوات القادمة، بسبب وجود أقليات عرقية في أكثر من (100) دولة ويزيد عدد أفراد كل جالية عن المليون نسمة، مع إمكانية انهيار تلك الدول وانقسامها إلى دول مستقلة، كما حدث في الاتحاد السوفييتي السابق الذي انقسم إلى خمسة عشر دولة مستقلة، ويوغوسلافيا التي انقسمت إلى عدة دول لم يزل الصراع قائماً بينها حتى الآن، وتشيكوسلوفاكيا التي انقسمت إلى دولتين مستقلتين، وإثيوبيا التي انقسمت إلى دولتين مستقلتين. وفي أحسن الظروف يمكن قيام فيدراليات شبه مستقل ذاتياً في بعض تلك الدول متعددة القوميات، وهو ما تسعى إليه الدول العظمى وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحاضر، مثل الحالة العراقية التي اتخذ الكونغرس الأمريكي قراراً في عام 2007 يدعو قوى الاحتلال إلى تقسيمه لكيانات فيدرالية على أسس عرقية ودينية، والحالة السودانية، والحالة الروسية، وغيرها. - وأن ارتفاع عدد الدول قد يؤدي إلى تراجع دور تلك الدول وشخصيتها ضمن الحدود الدولية المعترف بها (كما يجري الآن في غرب أوروبا). - وأنه من المرجح زيادة عدد الصراعات العرقية والحدودية وإعلان أكثر من (50) منطقة مناطق نزاع، بالإضافة إلى أكثر من (150) صراعاً على الحدود البحرية، وأكثر من (30) جزيرة تقع ضمن مناطق النزاعات. - وتوقع انهيار دور المنظمات الدولية الحكومية بداية من منظمة الأمم المتحدة مع ازدياد تأثير المنظمات غير الحكومية، مثل: الخضر، وأطباء بلا حدود، وغيرهم. - ومطالبة أغلبية الدول النامية بحق تقرير المصير مما سيعرض مبدأ عدم المساس بحدود الدولة ووحدة أراضيها إلى خطر كبير، ولنتصور ماذا سيحدث لو أعلنت التيبت، ومنغوليا الداخلية، وسينزيان حق تقرير المصير في جمهورية الصين الشعبية، أو إذا أعلنت كشمير حق تقرير مصيرها في جمهورية الهند، أو إعلان السكان السود واللاتينيين في الولايات المتحدة الأمريكية حق تقرير مصيرهم ؟ - وزيادة خطر انتشار السلاح النووي وغيره من أسلحة الدمار الشامل، وزيادة عدد الدول التي تملك السلاح النووي بعد انضمام إسرائيل والهند وباكستان لتلك الدول إضافة لعشرات الدول القريبة من امتلاك السلاح النووي. - وتأثير العولمة على العلاقات الدولية والعمل الدبلوماسي منذ بداية القرن الحادي والعشرين حيث أخذت تظهر على الخط الأول مسائل عسكرية وسياسية، رافقتها أزمات عسكرية، ولقاءات قمة، غلبت عليها مسائل التجارة الخارجية، والمالية، وحماية البيئة، والتبادل الإعلامي الدولي وغيرها. - وظهور هنتيجتون س. الذي تحدث في كتابه "تصادم الحضارات" عن الصراع بين سبع حضارات قائمة حالياً في العالم، وبجيزينسكي ز. الذي دعى في كتابه "رقعة الشطرنج العظمى" إلى هيمنة الولايات المتحدة على أوروبا وآسيا.
وبقيت المشكلة أمام روسيا (القطب المنافس السابق للولايات المتحدة الأمريكية قبل انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية) تدور حول التعامل مع العولمة، دون خلق مشكلة منها. والعمل على أن تتكامل روسيا مع العولمة دون إلحاق خسائر بمصالحها القومية، خاصة وأنها تشغل المركز 15 في العالم من حيث عدد أجهزة الكمبيوتر المستخدمة فعلاً، إضافة لتخلفها عن الدول الأوروبية بـ 8 مرات تقريباً من حيث حصة الفرد من عدد أجهزة الكمبيوتر لكل ألف نسمة من السكان، ونسبة المشتغلين في إنتاج تكنولوجيا المعلوماتية وخدماتها التي لا تزيد في روسيا عن 1%، بينما هي أكثر من 20% في الدول المتقدمة. في الوقت الذي يدعو فيه المتفائلون إلى عدم التخوف، مذكرين بالإمكانيات الضخمة التي تملكها روسيا من ثروات طبيعية وبشرية يمكنها إخراج روسيا من أزمتها الراهنة. وهو ما أعلنه رئيس الحكومة الروسية السابق م. كاسيانوف في المؤتمر الدولي لمنظمة الأمم المتحدة للتنمية الذي عقد في جوهانسبرج بجنوب إفريقيا وذكر أن روسيا تملك 25% من احتياطي الثروات الباطنية (12% من الفحم، و13% من النفط، و20% من المياه الصالحة للشرب، و20% من الكوبالت، و27% من الحديد، و30% من النيكل، و35% من الغاز، و40% من البلاتين)، ولكنها كلها خامات، والأسواق الدولية تنتظر المنتجات المتطورة الجاهزة، التي تنتج وتباع وهي غير كافية في روسيا. بالإضافة لمواجهتها بمنافسة شديدة على صعيد الاقتصاد والتجارة الدولية. الأمر الذي يدفعها وبإصرار للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية وهو ما لم يتحقق لها بعد، لتسهل خروجها إلى الأسواق الخارجية، وتبديل هياكل صادراتها. وسعيها من خلال برنامج العشر سنوات للدخول في حلبة التقدم العلمي الاقتصادي الذي تفرضه العولمة. وعلى الرغم من امتلاك روسيا لصواريخ ذرية قوية عابرة للقارات، والعضوية الدائمة في مجلس الأمن بمنظمة الأمم المتحدة، ومشاركتها في مؤتمرات قمة الدول "الثمانية" المتطورة في العالم، ومشاركتها في مؤتمرات الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ، والرابطة الاقتصادية "أوروآسيا"، ومنظمة شنغهاي للتعاون، وغيرها إلا أنه هناك محاولات حثيثة للتضييق عليها على صعيد السياسة الدولية، من أجل تهميش مصالحها الوطنية. حتى أن عضو أكاديمية العلوم الروسية مويسييف ن. كان مضطراً للإعلان عن: أن الهدف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية في السنوات القريبة التالية هو التضييق على روسيا لإخراجها من بحر البلطيق (عن طريق قبول دول البلطيق في حلف الناتو) وإخراجها من البحر الأسود (عن طريق استدراج أوكرانيا إلى حلف الناتو) وحصرها في المحيط المتجمد الشمالي، وتحويلها إلى دولة بحرية شمالية. أو كما كتب بجيزينسكي ز. تحويلها إلى دولة هامشية. وأن هذا الهدف مخفي تحت عبارات براقة عن الشراكة، وعن العلاقات الجديدة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو. المشترك لمختلف الدول، وفتحت الآفاق أمام المجتمع الدولي للتعاون متعدد الأطراف. وأبرزت وزن "الدبلوماسية الاقتصادية"، التي رافقتها "الدبلوماسية البيئية"، مع ازدياد أهمية "الدبلوماسية الشعبية"، و"دبلوماسية التنمية" لحل مشاكل دول الجنوب الفقيرة. الأمر الذي يدعو العالم إلى تشكيل منظومة عالمية لمواجهة التهديدات والأخطار الجديدة، الناتجة عن العولمة في القرن الحادي والعشرين. وهو ما دعى إليه مجلس وزراء خارجية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بجلسته التي عقدها بمدينة بورتو في بداية ديسمبر/كانون أول 2002 بمشاركة روسيا من خلال إصدار قرار لإعداد إستراتيجية تتعامل من خلالها المنظمة مع التهديدات الجديدة للأمن والاستقرار في القرن الحادي والعشرين. وتبعته موافقة الهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة في منتصف ديسمبر/كانون أول 2002 على مشروع القرار الروسي "للتعامل مع تهديدات وأخطار العولمة"، والنظر في إمكانية تشكيل نظام عالمي لمواجهة تلك التهديدات والأخطار، على أن يتم دراستها وتقديم تقرير عنها للدورة التالية للهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة. بينما نرى أن الدبلوماسيون، يفهمون أن العولمة غيرت جوهر جداول أعمال السياسة الدولية، وأفضلياتها، ووسعت من إمكانيات العمل.
العرب والساحة الإعلامية الدولية: وهذا في دولة عظمى سابقة بينما الوضع في الوطن العربي حالياً هو أشد قسوة ويعيش نكبة ليست أقل من نكبة فلسطين عام 1948 عندما قامت القوات الأمريكية والبريطانية بتدمير البنية التحتية للعراق واحتلاله، وهو الذي كان مهداً للحضارة العلمية والفنية والأدبية للإنسانية في عصر بابل، وحمورابي، وهو الذي كان في العصر الإسلامي العباسي مركز العالم ومنارته وأداة تقدمه العلمية والثقافية والحضارية، وهو الذي كان أحد أعمدة الوطن العربي المعاصر، وأحد أهم البلدان النامية في حقبة ما بعد التحرر من الاستعمار الأوروبي. والاجتياحات البربرية التي تستبيح من خلالها القوات الإسرائيلية بدعم كبير من الولايات المتحدة الأمريكية وتدمر البنية التحتية لفلسطين ولبنان وتعمل القتل والتشريد واقتلاع شعبين من مساكنهم وأرضهم على مرأى ومسمع من دول العالم دون أن يحرك ساكناً. حتى أن مؤتمر روما في تموز/يوليو 2006 خرج بما معناه تفويض لإسرائيل يطلق يدها لإبادة ما تستطيع من الشعبين الفلسطيني واللبناني واستكمال تدمير بنيتيهما التحتيتين وتدمير اقتصادهما بالكامل. ليشهد العالم ميلاد الشرق الأوسط الجديد الذي يريدونه دون أي مراعاة لمصالح شعوب المنطقة. وهذه النكبة ليست عربية فقط وإنما هي نكبة للإنسانية وللنظام الدولي وللمنظمة الدولية التي تعتبر عنوانا له وهي الأمم المتحدة التي لم تعبأ بها لا الولايات المتحدة الأمريكية ولا إسرائيل الخارجة على النظام الدولي بحماية ودعم الولايات المتحدة الأمريكية في الشأن الفلسطيني واللبناني والعراقي، وبقرارات الأمم المتحدة بشأنهم، حتى وصلت الأمور إلى قصف المقرات التابعة لهذه المنظمة الدولية في العراق ولبنان بالصواريخ، وهدم تلك المقرات وقتل وجرح من كانوا فيها بما في ذلك الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق لا لشيء إلا لتصريحه بأن الاحتلال الأمريكي للعراق مذل وجارح للعراقيين، ولابد أن الهدف الأساسي من اجتياح العراق كان تحطيم البنية الأساسية لقطاع البحث العلمي العراقي واعتقال كبار علمائه. ووقف الاختراق العلمي الذي حققه العراق ويمكن أن يضمن القوة والمنعة للدول العربية ويضمن لها التقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي والقدرة علي المنافسة في الأسواق الدولية التي يتزايد انفتاحها بشكل تدريجي في ظروف العولمة. وللمقارنة نرى أن إسرائيل خصصت خلال الفترة الممتدة من عام 1989 وحتى عام 2000 نحو 2.38% من دخلها القومي الإجمالي للبحث والتطوير العلمي في الوقت الذي خصصت فيه مصر أقل من 0.2% من ناتجها القومي للبحث والتطوير العلمي، وسورية 0.18%، والإمارات العربية المتحدة 0.45%، والكويت 0.2%، والأردن 0.26%، أما بقية الدول العربية فلم يكن هناك أية مؤشرات عن إنفاقها على البحث والتطوير العلمي، وهذا أقل بكثير من المعدلات الدولية المخصصة للإنفاق في هذا المجال، وأقل بكثير مما تنفقه إسرائيل العدو المصيري للعرب التي أنفقت (3.8) مليار دولار أمريكي علي البحث والتطوير العلمي في عام 2002 فقط وهذا ضعف ما أنفقته الدول العربية مجتمعة في هذا المجال، بالإضافة إلى ترهل الأجهزة الإدارية المشرفة على البحث العلمي التي تستنزف القسم الأكبر من المخصصات الموجهة للبحث العلمي في موازنة الدولة في أغلب الدول العربية. ومن مقارنة بسيطة ليس لثمار البحث العلمي التطبيقية بل في مجال نشر المقالات والدراسات العلمية في مجال التقدم العلمي والتكنولوجي والتقني نرى أن الدول العربية مجتمعة نشرت خلال عام 1999 حوالي (3416) مقالة وبحثاً علمياً، بينما نشرت إسرائيل وحدها (5025) بحثاً ومقالة علمية وهو ما يساعدها على تبادل نتائج البحث العلمي المتكافئ نوعاً ما لتبادل المصالح في مجال التطوير العلمي مع الدول المتقدمة، خاصة وأن إسرائيل استطاعت خلال عام 2001 تصدير منتجات عالية التقنية بلغت قيمتها (7456) مليون دولار أمريكي، بينما بلغت صادرات مصر من تلك المنتجات في ذلك العام نحو (12) مليون دولار أمريكي، وتونس (154) مليون دولار أمريكي، واستوردت الدول العربية مجتمعة منتجات عالية التقنية بقيمة (314) مليون دولار أمريكي، وهذا يعني وبكل بساطة أن الدول العربية ليست منتجة وليست مستهلكة لمنتجات التقنية العالية وهذا الأمر لا يحتاج لأي تعليق. ولكن لا بد من القول أن الدول العربية مجتمعة دون استثناء بحاجة لتطوير مداخلها وتوجهاتها نحو البحث والتطوير العلمي والتكنولوجي ودخول عام التكنولوجيا المتقدمة التي يفرضها دخول عالم اليوم عصر العولمة الشاملة وتتطلب تفعيل مراكز البحث العلمي القائمة وترشيد عملها وإيجاد الناقص منها لتتكامل دائرة التعليم والإعلام والبحث العلمي وإنتاج واستهلاك التكنولوجيا المتقدمة وتنسيق الجهود على صعيد الوطن العربي.
وكمثال أورد الإعلام الذي يعتبره البعض متفوقاً على الساحة العربية دون أي إشارة لمدى الخروقات الغربية للساحة الإعلامية العربية، وعجز الإعلام العربي عن مخاطبة الساحة الإعلامية الدولية وعجزه عن إيصال الخبر والصورة في موعدها دون تأخير وفق منطق ومفهوم وتفوق وسائل الاتصال والتقنيات الرقمية المتطورة عبر الأقمار الصناعية التي استخدمتها بنجاح كبير وسائل الإعلام الأمريكية لتغطية أخبار الأحداث الإرهابية التي وقعت عام 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية والحرب التي يخوضها الجيش الأمريكي حتى الآن في أفغانستان والعراق. وشهدت عمليات التغطية الإعلامية تطورات هائلة في القرن الحادي والعشرين، وأصبحت لا تعترف لا بالحدود الجغرافية ولا بالحدود السياسية لدول العالم، هذا إن لم نتطرق لبنوك المعلومات وطرق التعامل معها بعد تدشين موقع الإعلام الجديد www.ekateb.net الذي اعتبره البعض أول موقع عربي متخصص في مجال الإعلام الجديد يجري تحديثه بصفة دورية بهدف تزويد الإعلاميين العرب بكل ما يحتاجون معرفته عن الإعلام الجديد New Media، والتكنولوجيا المرتبطة به ومدى تأثيرها على الصناعة التي يعملون بها سواء كانت إعلاماً مقروءاً أو مرئياً أو مسموعاً، ولكن تلك المصادر (حسنة النية) لم تشر ولو بالتلميح لا لمصادر تمويل الموقع ولا لمصادر تلك المعلومات التي ستلبي وجهة نظر مموليها لتمريرها عبر موقع الإعلام الجديد، ولا لتوجهات تلك المصادر التي سيكون لها تأثير كبير دون شك على الوعي العربي وخاصة وعي الإعلاميين البسطاء الذين سينقلون عن موقع الإعلام الجديد عن حسن نية.
وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية كأدوات للنظم السياسية: تواجه وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية مجموعة من التحديات الدولية رافقت التغيرات الهائلة في أشكال ملكيتها وهياكلها التنظيمية والإدارية وانتشارها الواسع خارج الحدود الوطنية بفضل التطورات المتسارعة في تكنولوجيا الاتصال والمعلوماتية والإنتاج الصحفي خلال القرن الماضي، وأفرزت هذه التغييرات مجتمعة تعديلات جوهرية في السياسة الإعلامية، وفي مفاهيم المسؤولية المهنية والاجتماعية للإعلام والاتصال الجماهيرية داخل المجتمعات. وبقيت مشكلة التحديث والتطوير لتدعيم قدراتها على المنافسة عن طريق إحداث تغييرات ثقافية ومهنية وفي طرق وآليات التحكم بالعمل الصحفي التي كانت دائماً العامل الرئيسي لما وصلت إليه وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية الوطنية. ولعل تحديث وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية، مرتبط بتغيير البيئة والأطر القانونية والمهنية التي تتحكم بأدائها لتعطي الصورة الشاملة لمؤشرات التعايش مع المشكلات، ومواجهتها وليبقى الإصرار على طرح المشكلات مفيدا للوصل إلى حلول تمكن وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية من مواكبة عصر "العولمة"، سيما وأن الصحفيون هم صناع التفاؤل وزراع الثقة بالمستقبل. وتميزت التجربة العربية السورية بعد ثورة الثامن من آذار عام 1963 بتغير النظرة إلى المهنة الصحفية ووسائل الإعلام والاتصال والجماهيرية باتجاه نحو إخراجها من واقع المشروع الاستثماري التجاري، إلى العمل التثقيفي والتوعية الفكرية التي تقدم خدمة تشمل جميع الشرائح الاجتماعية، من خلال الالتزام بمصالح الجماهير، ولكن دون نفي ما قامت به الصحافة قبل ذلك الحدث الهام في تاريخ الجمهورية العربية السورية لأن الصحافة قامت بالفعل بمثل تلك الخدمات والمهمات، وكان التزامها قائما من خلال مفهوم أنه لا حياد في العمل الصحفي، وكانت كل صحيفة ملتزمة بخط هذا الحزب أو ذاك، أو هذه الفئة أم تلك من الفئات والشرائح الاجتماعية وهو ما ينفي الحياد غير الملتزم. وبعد قيام الثورة تبنت الدولة مشروعاً إعلامياً وطنياً يتضمن تمويل وإدارة وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية وانتهى معه إصدار الصحف والنشرات والمجلات الخاصة. ولكن البعض يشيرون إلى بروز حزمة من التأثيرات السلبية على الإدارة وبيئة العمل الصحفي والمهني والتمويلي في المؤسسات الصحفية ووسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية، نتجت عن ملكية الدولة لوسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية خلال الأربعين عاماً التي مضت وتحولها إلى مشكلات تكاد تكون مستعصية الحل. ومعها لوحظ استجابة الحكومة للتعامل مع الكثير من القضايا والمشكلات التي هي بحاجة للمعالجة وتخدم قضية التطوير والتحديث. وهذه مسألة غاية في الأهمية، لأن حالة من المصداقية تكرست بين وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية وجمهورها، الأمر الذي دفع البعض لطرح المشكلات بروح عالية من المسؤولية الوطنية والأخلاقية في سعي لتصويب ما اعوج في إطار العلاقة الموضوعية بين وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية وأجهزة الإدارة الحكومية، للارتقاء بتلك العلاقة لمستوى فريق العمل الواحد، غايته بناء الوطن على أسس قوية ومتينة، وللارتقاء بالعمل الإعلامي وتحسين أدواته ليكون إعلاماً يواكب متطلبات العصر والتحديات التي يواجهها وليكون الإعلام العربي السوري بالحجم الذي تتمتع به السياسة العربية السورية، وليكون الإعلام سلطة رابعة تبحث عن الحقائق وتقدمها للآخرين. وهنا لابد من الإشارة إلى ما أشار إليه السيد الرئيس بشار الأسد في أكثر من مناسبة عن دور الإعلام وضرورة وضع آليات وتصورات وحلول للمشكلات التي يواجهها والإسهام في تطويره والنهوض به. ودعوته إلى ضرورة تحديد دور جديد للإعلام مشدداً على أهمية المعلومة وتحليلها لتشكيل رؤية متكاملة، وإلى حاجة الإعلام لانسياب المعلومات الدقيقة والصحيحة إلى وسائل الإعلام مركزاً على دور الإعلاميين في توظيفها لتوضيح السياسة التي تنتهجها الدولة وتفنيد الحملات الإعلامية التي تتعرض لها سورية. وفي هذا الاتجاه نرى أن وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية في سورية هي اليوم أحوج من أي فترة مضت لدراسات متخصصة في التحليل السياسي والإعلامي تسمح بالتعرف على الواقع الفعلي الذي تعيشه وتساعد المسؤول على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب خاصة وأن المصادر العلمية تطالعنا بأن كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية يملك نظامه السياسي الخاص به، ويشمل كل نظام آليات معينة لتحقيق وظائف السلطة السياسية كنظام اجتماعي متكامل، ومفهوم النظام السياسي هو من الأسس التي تعتمد عليها العلوم السياسة لدراسة جميع أوجه الحياة السياسية وتمييزها عن غيرها من مكونات الحياة الاجتماعية الإنسانية. وتتفاعل تلك المكونات فيما بينها ضمن المحيط الذي تعيش داخله لتكوِّن علاقات معينة تربط بين البنى المكونة للمجتمع الواحد.
والنظام السياسي هو عبارة عن مجموعة من المكونات المتتالية المتفاعلة فيما بينها ومع غيرها من المكونات التي تشكل تركيبة البنى الأساسية للمجتمع الإنساني من اقتصادية، وسياسية، وفكرية، وثقافية، وتشريعية، ودينية. ويعتمد اتساع النظام السياسي على مدى الحدود المشتركة للأطر المتفق عليها سياسياً ضمن النظام الملزم والواقعي والممكن تطبيقه. ويشمل النظام التشريعي جميع الأصعدة والمستويات التي تركز على مدى فعالية القوانين النافذة في إطار نظام لا مركزي يتيح تطبيق تلك القوانين. ومفهوم النظام السياسي الحديث كما يشير البعض أخذ بالتشكل في أواسط القرن العشرين، واعتبر آنذاك تطوراُ منطقياً للعلوم السياسية وضرورة منطقية لمتابعة الحياة السياسية ومواقف النظم السياسية ومقارنتها مع غيرها من النظم والمواقف، ودراسة بعض نماذج النظم السياسية للوصول إلى تصور معين للمواقف وآليات أداء الوظيفة السياسية للنظام المدروس. وتعتبر تلك المراجع العلمية أن الأمريكيين أستون د.، وألموند غ. كانا من أوائل واضعي أسس نظرية النظم السياسية في العالم الغربي. فقد وضع الأمريكي د. أستون في أعماله "النظام السياسي" (1953)، و"حدود التحليل السياسي" (1965)، و"التحليل المنهجي للحياة السياسية" (1965) مدخلاً لتحليل النظم السياسية، شمل: البرلمانات، والحكومات، والإدارات المحلية، والأحزاب السياسية، والهيئات الاجتماعية، واعتبر أستون أن النظام السياسي هو نظام يتضمن آليات متطورة لضبط التفاعلات الذاتية لإدارة الحكم التي يمكنها ضبط التأثيرات الآتية من خارج النظام السياسي.
وتحتفظ النظم السياسية عادة بمداخل معينة تعبر من خلالها عن نفسها بالطرق والوسائل التي تعكس وتعبر عن تفاعلات التطور الاجتماعي، وتأتي تلك التفاعلات عادة على شكل مطالب اقتصادية وسياسية واجتماعية معينة، يطالب بها البعض ويؤيدها أو لا يؤيدها البعض الآخر داخل التركيبة الاجتماعية، وتتشكل تلك المطالب عادة داخل الوسط الاجتماعي المحيط بدائرة السلطة الحكومية، أو من داخل النظام السياسي السائد في المجتمع. وتعبر الشرائح الاجتماعية عن تأييدها للنظام السياسي عن طريق التزامها بدفع الضرائب، وأداء الخدمة العسكرية الإلزامية، والتقيد بالقوانين النافذة، والمشاركة الإيجابية بالتصويت في الاستفتاءات والانتخابات العامة، وبالتعاطف مع السلطات الحكومية من خلال تأييدها للشعارات المطروحة على الرأي العام. وبغض النظر عن وجود أو عدم وجود مطالب محددة لدى بعض الشرائح الاجتماعية فإن التأييد العام المعبر عنه من قبل أكثرية الشرائح الاجتماعية، يصبح جزءاً من كيان النظام السياسي الذي يلتزم بأخذ المطالب المطروحة بعين الاعتبار، ولكن بما لا يتعارض مع مصالح مختلف عناصر التركيبة الاجتماعية، وتلتزم السلطة الحكومية باتخاذ إجراءات معينة لا تخل بالمصالح الوطنية العليا للدولة، وتلبي مطالب شريحة اجتماعية معينة من خلال إعادة النظر مثلاً بسلم الأجور المطبق تلبية لحاجات تلك الشريحة الاجتماعية وعلى ضوء مجريات الأحداث والتطورات الاقتصادية والاجتماعية المحققة فعلاً.
مصادر المعلومات: وتأتي الأفعال السياسية والقرارات المتخذة عادة استجابة للمعلومات المتوفرة عن كيفية أداء النظام السياسي لوظيفته المحددة والمؤثرة في المجتمع وينعكس تأثيرها عن طريق تأييد المجتمع لتصرفات النظام السياسي في حال إذا كانت القرارات أو الأفعال السياسية متفقة مع المنتظر أو المطلوب من قبل الجماعات أو الشرائح الاجتماعية بما يعزز الاستقرار الاجتماعي. ولكن في حال عدم تلبية القرار السياسي للمطلوب أو المنتظر بشكل كامل أو جزئي، فمن الممكن حدوث ردود فعل سلبية قد تؤدي إلى ظهور مطالب جديدة يمكن أن تؤدي بدورها إلى أزمات جزئية أو كاملة للنظام السياسي عن طريق تكاثر التفاعلات التي قد تهدد الاستقرار الاجتماعي لأن تلك المطالب ما هي إلا تعبير عن مصالح الشرائح الاجتماعية المختلفة. وقسم أستون تلك المطالب إلى: مطالب تتعلق بالدخل وظروف العمل؛ ومطالب تتعلق بالظروف المتاحة للحصول على فرص التعليم، والخدمات؛ ومطالب تتعلق بنظام توفير الأمن في المجتمع، والتحكم بالأسواق وغيرها من المطالب المتعلقة بالإدارة الحكومية؛ ومطالب معلوماتية واتصالية ترتبط بالحصول على المعلومات السياسية، التي تظهر مدى تمتع الحكومة بالقوة السياسية وغيرها من المعلومات وسبل الحصول عليها.
ويعتبر النظام السياسي منفتحاً في حال خضوعه لجملة كبيرة من تأثيرات الوسط الاجتماعي المحيط به. وتكون تلك التأثيرات ضعيفة في حال افتقاره للمعلومات الكافية لاتخاذ قرارات تحافظ على الاستقرار الاجتماعي، وتكون تلك التأثيرات قوية وباتجاه واحد عندما يتخذ النظام السياسي قرارات تصب في مصلحة شريحة اجتماعية معينة، الأمر الذي يزعزع ويهدد الأمن والاستقرار الاجتماعي. وقد تؤدي صعوبات التعامل مع سيل المعلومات المتدفقة بشكل كبير إلى اتخاذ قرارات خاطئة، وتأتي ردة فعل النظام السياسي بشكل أساسي من خلال الحقائق المستمدة من الأغراض التي ترغب السلطة السياسية تحقيقها، وردود الفعل الناتجة عن تأثير تلك القرارات على الشرائح الاجتماعية ومدى قبول تلك الشرائح للقرارات التي تمثل قيم توزيع السلطة السياسية.
ويرى ألموند عكس ما يراه أستون من أن للنظام السياسي تأثيرات متبادلة ناتجة عن التصرفات الحكومية وغير الحكومية تحتاج للدراسة والتحليل، ويرجح أن لكل نظام سياسي تركيبة خاصة به متعددة الوظائف؛ وأن كل نظام سياسي يسعى إلى تحقيق وظائف مختلطة تعكس وظائف النظام السياسي العام بكل خصائصه، ومنها مبادئ تقسيم السلطة السياسية عن طريق تدخل السلطة التشريعية (البرلمان) بإصدارها للقوانين الملزمة لصالح السلطة التنفيذية المتمثلة بسلطة رئيس الدولة والحكومة، وعن طريق تدخل السلطة التنفيذية في عملية إصدار تلك القوانين أو تعطيل إصدارها كما هو جار في مختلف دول العالم، أي أنه ليس هناك سلطة تنفيذية رئاسية خالصة، ولا سلطة تشريعية (برلمانية) خالصة. ويحاول ألموند سد النقص الحاصل في نموذج أستون عن طريق وجهة نظره الداعية لمراعاة السيكولوجية الفردية عند تناول موضوع تبادل التأثيرات السياسية الآتية من خارج النظام السياسي، ومن داخل الطبقة الحاكمة نفسها خاصة عندما يكون الموضوع متعلقاً باتخاذ قرارات تسمح باستخدام القوة ضد شرائح اجتماعية معينة داخل الدولة، أو مصيرية باتخاذ قرار الحرب ضد عدو خارجي يهدد المصالح الحيوية للدولة أو وحدة أراضيها. ويعتبر ألموند أن المعلومات اللازمة لتمكين الجهود الموجهة لتعبئة الرأي العام الاجتماعي حول السياسات المتبعة من قبل النظام السياسي، تستمد من تحليل المصالح الوطنية ومواقف القوى السياسية المختلفة على الساحة الوطنية منها، وتحليل العلاقات المتبادلة بين تلك القوى ومدى التزامها والتزام السلطة التنفيذية بتلك المصالح عند وضعها للسياستين الداخلية والخارجية، والتزامها بالقاعدة القانونية التي وضعتها السلطة التشريعية، وطريقة تعامل السلطة السياسية مع المشاكل المكتشفة.
وما تلك النماذج إلا محاولة لتحليل أطر المصالح المختلفة للشرائح الاجتماعية داخل النظام السياسي ومدى توافقها وتضاربها مع المصالح الوطنية العليا، ومدى تفاعل الأطر السياسية داخل نظام الإدارة الشاملة للمجتمع وطريقة ضبط العلاقات المتبادلة بين تلك الأطر لتوفير الاستقرار للنظام الاجتماعي وتوفير سبل استخدام السلطات الحكومية.
ويسمح التحليل السياسي: بالتعرف على الحياة السياسية كنظام يعكس تصرفات وردود فعل أفراد الطبقات والشرائح الاجتماعية، ويحدد آليات تأثير الفعاليات السياسية وأداء المؤسسات السياسية وهياكلها، أولاً؛ وبتوفير إمكانية فهم السياسة ككيان موحد ويوفر إمكانيات تحليل طرق عملها المشتركة ضمن الوسط المحيط، والتعرف على أجزائها التي تكون طبيعة عملها سواء أكانت اقتصادية، أم ثقافية، أم شريحة اجتماعية معينة ثانياً؛ وبالتعرف على طريقة أداء أهم الوظائف السياسية والمتمثلة بتأمين الوحدة الوطنية، وعدم تفتيت الكتلة الاجتماعية، وعدم تجاوز الخلافات الكثيرة، وتنوع الاتجاهات خلال مراحل العمل السياسي، أي أن النظام السياسي يمثل وسيلة من وسائل التكامل والتضامن الاجتماعي، ويتضمن تأثيرات متبادلة تعكس الخلافات الاجتماعية حول طريقة أداء الأقسام الرئيسية المكونة للمجتمع لوظائفها ثالثاً.
ومفهوم النظم السياسية يعكس الوحدة الموضوعية بين نشاطات الأجهزة السياسية، والتفاعلات الجارية ضمنها، لأن دراسة كل منها يوفر إمكانية تحليل ومقارنة مختلف الأطر التي تمثل الحياة السياسية، وتحدد مقاييس وصفها وتحليلها، ويرتبط تشكل النظم السياسية إلى حد كبير بالعلاقات السياسية القائمة داخل المجتمع الواحد من خلال: الارتباطات المتبادلة والثابتة لمختلف عناصر الحياة السياسية لأنها ضرورية وغيابها يؤدي إلى نفي الوحدة التنظيمية، ويؤدي إلى تحلل النظام السياسي، وإلى خلق ظروف اجتماعية غير قابلة للتكامل أولاً؛ وتنظيم العلاقات السياسية في المجتمع لخلق الظروف المثالية لتوفير الاستقرار السياسي والتطور الاجتماعي المنشود الذي من دونه لا يمكن توفير الظروف الملائمة للإنتاج وإجراء التغييرات اللازمة لخلق علاقات اجتماعية سليمة ضرورية لقيام الدولة بواجباتها ودفع الجماعات السياسية للبحث عن بدائل تحول دون انفجار أزمات تهدد النظام القائم، لا يحمد عقباها في أكثر الأحيان ثانياً؛ والأسس الثقافية التي هي قيم أخلاقية، ومجموعة شعارات سياسية، وقناعات، لأعضاء الجماعات السياسية وهي ضرورية لدى النظم السياسية لتوفير إمكانيات تكامل الجو السياسي العام وخلق الظروف المؤاتية لإيجاد علاقات وطنية معينة، تمكن أعضاء المجتمع من فهم بعضهم البعض، وتظهر الخبرات التاريخية أن النظم السياسية، قادرة ولفترات طويلة، على الاستقرار والبقاء من خلال قيم وعلاقات وطنية معينة، يتقاسمها أكثرية أعضاء المجتمع الواحد، ومتأصلة في نظام التربية الوطنية والتعليم العام وتربط بين الإيمان بالله أولاً، والعمل السياسي لرفعة الوطن ثانياً. ثالثاً؛ والاستجابات المشتركة لكل العناصر الداخلية وللتأثيرات الخارجية من قبل مختلف النظم السياسية بشكل يؤدي إلى فعاليات مشتركة، وتعاون يسمح للنظم السياسية بإمكانية تعبئة الموارد الضرورية لمواجهة المشاكل العامة بشكل سريع. وتوفر للأجهزة الحكومية فرصة الحصول على مساندة الجميع والحصول على تأييد الهيئات الاجتماعية والأحزاب والمنظمات السياسية والرأي العام رابعاً.
وتتلخص فكرة المدخل المنهجي لتحليل التفاعلات السياسية في دراسة النظم السياسية بإطار شامل يشمل البنى التحتية للنظام السياسي والعناصر التي يتشكل منها، وهنا لابد من الإشارة إلى ضرورة تحديد المصطلحات، والمفاهيم والنظريات السياسية وإيضاح العلاقات المشتركة بينها، لأن النظم السياسية ما هي إلا عبارة عن أنظمة مفتوحة أمام التأثيرات الداخلية والخارجية وتدرس في نطاق العلوم السياسية. وتملك النظم السياسية آليات متباينة في مقاومتها للتأثيرات الخارجية، والأزمات الداخلية، والتفاعلات والتناقضات، وتفرض التفاعلات السياسية عادة إما تعديل السياسة، أو النظام السياسي، أو طبيعة العمل السياسي للشخصيات والأحزاب السياسية، وتهتم الدراسات السياسية حصراً بظواهر الأزمات وتفاعلاتها في مراحلها المبكرة في محاولة لضبطها والسيطرة عليها بأقل الخسائر الممكنة.
وللهيئات الدينية والاجتماعية دور هام في ما تطرحه وسائل الإعلام الجماهيرية وفي النظم السياسية أيضاً، لأن النظم السياسية بالنسبة للمتخصصين في العلوم السياسية ما هي إلا منظمات ومؤسسات سياسية لها معايير قانونية وأخلاقية وتقاليد سياسية تلتزم بها في نشاطاتها المختلفة، ولها وظائف تشمل ممارسات سياسية تؤدي إلى تفاعلات سياسية مختلفة وطرق وأساليب في ممارسة السلطة والحكم، وتستخدم وسائل للاتصال وتبادل المعلومات مع الهيئات والمنظمات والأحزاب والحكومات وتشمل تلك الاتصالات الأوجه السياسية والفكرية والثقافية والاقتصادية، وتتفق معظم المراجع العلمية العربية والأجنبية بالإشارة إلى وجود أربع مجموعات تكوِّن العناصر الأساسية لأي نظام سياسي تشمل: التنظيم السياسي؛ والعلاقات السياسية؛ والقواعد القانونية التي يستمد منها النظام السياسي شرعيته؛ ومدى الوعي والثقافة السياسية. والنظم السياسية تستمد عناصر أداء وظائفها الاجتماعية الأساسية من الدستور والقوانين النافذة التي تضبط مبادئ نشاطات أجهزة السلطة الحكومية من حقوق وواجبات تتمتع بها الأجهزة الحكومية والمنظمات والمؤسسات الحزبية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من عناصر المجتمع. ويعني تجاوز النظم السياسية للدستور والقوانين النافذة إلغاء شرعيتها.
والمؤسسات السياسية هي جزء أكثر حيوية في النظام السياسي. لأن أي شكل من أشكال النشاطات السياسية يتم من خلال الأشكال المنظمة للعمل المشترك، والانضواء تحت أهداف واحدة وقواعد خاصة، وحدوداً مشتركة اتفقت عليها جماعة معينة، ويعود الفضل للتنظيمات السياسية في تحقيق تحول القوة الأيديولوجية والأخلاقية إلى قوة ملموسة في المجتمع، من خلال الأفكار التي تصبح قواعد للسلوك العام، وبالتالي تتحول المنظمة إلى أهم وسيلة لتشكيل الإرادة الموحدة للتنظيم المعني، وعندما تعجز الجماهير في الدولة عن إقامة علاقات سياسية واضحة، وتفتقر إلى أي نوع من أنواع العلاقات السياسية، وتفشل في تطوير منظماتها السياسية، يحل محلها الجيش، أو العشيرة، أو القبلية، أو الهيئة الدينية لتقوم بالدور المطلوب من المؤسسات والمنظمات السياسية، وتعتمد شرعية التنظيمات السياسية على الشكل القانوني الذي تحصل عليه ويميزها عن غيرها من المؤسسات الاجتماعية ويساعدها على تحويل الأفكار والقواعد إلى أساليب تتصرف من خلالها كمنظمة سياسية في المجتمع. وانعدام الشكل القانوني يؤدي إلى انهيار تلك التنظيمات وشرذمة الأفراد المنتمين إليها مما يؤثر سلباً على التفاعلات السياسية الجارية في المجتمع.
والنظام السياسي في المجتمع هو عبارة عن تلاحم المنظمات والمؤسسات والهيئات التي تقوم بوظائف محددة بشكل مشترك لتحقيق السلطة السياسية في المجتمع. ويتضمن النظام السياسي: أجهزة السلطة الحكومية، والأحزاب والمنظمات والهيئات الدينية والحركات الجماهيرية، ووسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية الفاعلة في المجتمع. وتعتبر الحكومات والأحزاب الحاكمة منظمات سياسية وهذا يعني أنها تؤدي وظيفة السلطة السياسية بحجمها الكامل، وهو ما تسعى إليه الأحزاب السياسية من خارج السلطة، عبر الصراع الذي تخوضه من أجل الوصول إلى السلطة. بينما تعمل المؤسسات المهنية والاجتماعية: كالنقابات، ومنظمات الشباب، والنوادي الرياضية، والاتحادات المهنية، والجمعيات، للوصول إلى السلطة السياسية، عن طريق وظيفة غير مباشرة تتمثل بدعم مرشحين مؤيدين لمصالحهم لخوض الانتخابات الجارية والحصول على مقاعد برلمانية. وتعبر المنظمات السياسية والمهنية والاجتماعية عن تطلعاتها وأهدافها من خلال وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية التابعة لها وتسهم من خلالها في دفع عملية التفاعلات السياسية في المجتمع، انطلاقاً من الإطار القانوني الذي تم من خلاله تسجيل تلك المنظمات وفقاً للأصول المتبعة لدى الأجهزة الحكومية وهو ما يعني وجود نوع من المتابعة أو الرقابة الحكومية على نشاطاتها.
وتتمتع سائل الإعلام والاتصال الجماهيرية بمكانة خاصة في النظام السياسي لأن وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية هي مؤسسات معقدة تلعب دوراً هاماً ضمن التفاعلات السياسية الجارية في المجتمع من خلال تركيزها على نشر المعلومات وإعلام الشرائح الاجتماعية عما يجري من أحداث وظواهر في الدولة وغيرها من دول العالم. وتعتبر وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية في بعض الدول "سلطة رابعة" إلى جانب السلطات الدستورية الثلاثة الأخرى وهي: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، وتتمتع باستقلال نسبي في صياغة الخبر السياسي لتشكيل رأي عام مؤثر بشكل مباشر في التفاعلات السياسية داخل المجتمع المعني من خلال توفيرها خدمات تربوية وثقافية وسياسية لأوسع الشرائح الاجتماعية. ولوسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية في عصرنا الراهن جملة من التأثيرات الهامة على عمليات التفاعلات السياسية والاجتماعية الجارية في مختلف المجتمعات، فهي مؤسسات إعلامية تتبع أو تدور في فلك الحكومات، أو الهيئات الاجتماعية، أو المنظمات المهنية، أو الشعبية، أو الأحزاب السياسية، وأصبحت وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية تعمل ضمن ساحة إعلامية باتت مفتوحة، بعد التطور الهائل الذي حصل في مجال وسائل الاتصال العالمية ووفرت فرص الإطلاع على المواد الإعلامية الموجهة لشرائح اجتماعية معينة ولتحقيق وظائف معينة حيثما تتواجد تلك الشرائح، والمشاركة في الحوار الدائر بين المؤسسات الإعلامية والساحة الإعلامية بشكل مباشر عبر شبكات الانترنيت الدولية وهو ما يعتبر تفاعلاً جديداً يضاف إلى جملة التفاعلات الجارية على الساحة الإنسانية ولم تكن متوفرة قبل الربع الأخير من القرن الماضي، ودخول عالم اليوم عصر "العولمة" الإعلامية. ولوسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية وجهات نظرها الخاصة في إطار التفاعلات السياسية الجارية في المجتمع، وهي من خلال اهتمامها بمصالح الشرائح الاجتماعية المختلفة التي تتوجه إليها تعمل على تفعيل تكامل التفاعلات السياسية بين الإدارة الحكومية والشرائح الاجتماعية وتعمل على تكوين وجهات نظر معينة من القرارات الحكومية والقوانين، من خلال مساهمتها في صياغتها ونشر مشروعاتها وإدارة المناقشات الدائرة حولها بمشاركة أوسع الشرائح الاجتماعية.
وتختار وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية في مختلف النظم السياسية بشكل دقيق المعلومات اللازمة لنشرها عن قرارات أجهزة السلطة السياسية وتراقب مدى التقيد بها بمختلف الطرق المباشرة وغير المباشرة. وكقاعدة عامة تتضمن المعلومات الواردة من البنية الفوقية في هرم السلطة السياسية جملة من الإبهامات تسبب مصاعب معينة للقنوات الإعلامية القائمة بالاتصال عند التعامل معها ومع سيل المعلومات المتدفق من البنية التحتية في هرم السلطة السياسية عبر مختلف قنوات الاتصال وتعبر عن رأي الجماهير الواسعة حول الموضوع المثار للمناقشة. ومعروف أن الصلة بين البنية الفوقية، والبنية التحتية في هرم السلطة السياسية تتم من خلال وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية ومن خلالها يتم التعبير عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تعكس الحالة النفسية للرأي العام الذي تؤثر فيه وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية بشكل مباشر سلباً وإيجاباً. وتسعى السلطات السياسية دائماً لممارسة الرقابة لضبط ممارسات وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية بشتى الطرق، بعد أن أصبح من الواضح أن من يسيطر على التدفق المعلوماتي يؤثر في عملية تكوين الرأي العام والوعي وتوجيه ردود فعل الجماهير الواسعة في المجتمع المستهدف، وقد تؤدي الحملات الإعلامية المعارضة في النظم الديمقراطية إلى إثارة فضائح وأزمات سياسية، وحتى إلى استقالة بعض القادة السياسيين، أما في النظم السياسية الشمولية فعلى العكس من ذلك تماماً لأن وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية تمارس دور الرقيب على نشاطات الشخصيات الاجتماعية البارزة والجماعات بمختلف اتجاهاتها وحتى بعض الأفراد، وتشن هجمات مركزة ضدها لصالح النظام الشمولي الذي تتبع له.
وتبقى علاقة وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية بالدول والأجهزة الحكومية وبالقادة السياسيين والأحزاب والجماعات التي يمثلونها متناقضة إلى حد كبير ومع ذلك فإنها تلعب دوراً مهماً في فضح تجاوزات أجهزة السلطة لصلاحياتها، وفضح أي اختراقات قد تحدث للقانون، وتدافع عن مصالح الجماهير أمام التصرفات غير المسؤولة من قبل البعض في أجهزة الحكم، وفي نفس الوقت تبقى الأجهزة الحكومية والقيادات السياسية مضطرة للتعامل الإيجابي مع وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية ومنحها قدراً من الاستقلالية وحرية التصرف كي لا تفقد ثقة الجماهير، وتستغل وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية تلك الحرية لتعزيز شخصيتها كمصدر هام للمعلومات لأجهزة السلطة الحكومية وللشرائح الاجتماعية في آن معاً. ومع تحول وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية إلى اتحادات تجارية أصبح همها الأول تحقيق الربح ولو على حساب المصلحة العامة من خلال الحرية التي أصبحت تتمتع بها، ومع انعدام الرقابة الحكومية تقريباً على ما تنشره، برز نوع جديد وفعال للتأثير على وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري تمثل بسلاح المعونات المالية وحجب أو تخصيص الإعلانات التجارية التي تعتبر من المصادر الأساسية لتمويل وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية في عالم اليوم، ومع ذلك تبقى وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية العامل الهام في عمليات التفاعلات السياسية الجارية في المجتمع وتسهم إلى حد كبير في تطور الحياة السياسية فيه.
وهنا يجب أن لا ننسى الدور الهام الذي تلعبه المنظمات والهيئات الدينية ورجال الدين في عملية التفاعلات السياسية الجارية ضمن المجتمع من خلال الأفكار والمبادئ الأخلاقية والسلوكية التي يطرحونها وتؤثر مباشرة في الطبيعة الإنسانية وبالقناعات السياسية السائدة في المجتمع، هذا التأثير القائم منذ أقدم العصور يفسر التشابك الحاصل بين الدين والسياسة والاقتصاد دائماً والغاية منه ضبط السلوك الفردي منذ الولادة من خلال التربية في البيت وفي الحياة اليومية والمهنية، وأثناء تلقي التعليم المدرسي والعالي، ومن خلال النشاطات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهو ما يفسر أسباب استغلال بعض القوى السياسية للمشاعر الدينية لدى الجماهير الواسعة لتحقيق مكاسب معينة. ويستخدم السياسيون الأفكار الدينية في جميع المجالات السياسية الداخلية والخارجية للوصول إلى أهداف معينة والمحافظة عليها قدر الإمكان ضمن القواسم المشتركة التي تربط المجتمع الواحد والمجتمعات التي تشترك بإتباع دين أو مذهب واحد، وكثيراً ما يتم إقحام الأفكار الدينية في المقولات السياسية لمواجهة النفوذ المتصاعد لرجال الدين أو حركات دينية معينة حتى ولو كانت تلك المقولات موجهة ضد مصالح الجماهير العريضة المنتمية لدين معين.
وهنا تبرز أهمية دراسة علاقات التأثير المتبادل بين الدين والسياسة وعلاقة الأديان ببعضها البعض خاصة في المجتمعات متعددة الأديان والمذاهب بشكل دائم، ودراسة علاقة الدين بالهيئات والمنظمات والجماعات التي تدخل في إطار نظام سياسي وتشترك في إدارة المجتمع. وتشمل تلك الدراسات عادة دراسة العلاقات بين الطبقات والشرائح الاجتماعية الكبيرة التي يتشكل منها المجتمع، والعلاقة بين الثقافات والقوميات والدول، والعلاقة بين القيادات وأجهزة السلطة الحكومية المركزية والإدارة السياسية بمختلف مستوياتها، والتفاعلات الناتجة عن تلك القيادات اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، والعلاقة القائمة بين المؤسسات والمنظمات السياسية والاجتماعية. وتأخذ هذه الدراسات في اعتباراتها الأسس الدستورية والقانونية التي يتم من خلالها تنظيم علاقات وتقاليد العمل السياسي، والمكونات الداخلية للمنظمات والهيئات الاجتماعية وبرامج الأحزاب والحركات السياسية والقواعد التي يتم من خلالها الحصول على شرعية العمل السياسي والاجتماعي وتضبط التفاعلات الجارية بينها، ومدى تأثير تلك التفاعلات على عملية تشكل الوعي والسلوك العام الذي يتفق وتلك الأهداف والمبادئ التي تسيّر المجتمع، كما وتظهر هذه الدراسات مدى الوعي والثقافة السياسية التي تتمتع بها الطبقات والشرائح الاجتماعية المقصودة من الدراسة، والتي من خلالها يجري التنافس الاقتصادي والاجتماعي والسياسي مع السلطات الإدارية في المجتمع ومدى مراعاة تلك السلطات لمشاعر الجماهير. وتأخذ باعتبارها النظام الذي يضبط التفاعلات السياسية في أي مجتمع ويؤدي وظائف معينة منها: تحديد أهداف المجتمع؛ وإعداد البرامج الحياتية التي تتفق ومصالح الشرائح التي تدير المجتمع؛ وتعبئة إمكانيات المجتمع بما يتفق مع تلك المصالح؛ وتوزيع القيم الاقتصادية التي تتصادم فيها مصالح الجماعات والشرائح الاجتماعية، وتوفر وحدة المجتمع، وتمكن من السيطرة على الحياة السياسية لدى تلك الشرائح والطبقات الاجتماعية، تجنباً للوقوع في أزمات؛ وتؤدي إلى التفاف المجتمع حول تلك الأهداف والقيم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ومن المتفق عليه أن هذه الوظائف ممكنة التحقيق في حال توفر تطور معين في النظام السياسي السائد في المجتمع، يؤدي إلى تجنب ظهور متناقضات اجتماعية تؤدي إلى نشوب صراعات وقلاقل اجتماعية ناتجة عن الخلل في توزيع الموارد الاقتصادية، والامتيازات السياسية، والثقافية، والتعليمية، والخدمات بين جميع الطبقات والشرائح التي يتشكل منها المجتمع المعني.
آفاق التبادل الإعلامي الدولي في إطار العلاقات الدولية: معروف أنه هناك دور مطلوب من الإعلام الدولي يؤديه في إطار العلاقات الدولية المعاصرة، ويلبي من خلاله جوانب مختلفة من توجهات السياسة الخارجية للدول، ومعروف أن السياسة الخارجية لأي دولة مستقلة تتمتع بالسيادة الوطنية هي نتاج لعدة عوامل مشتركة داخلية وإقليمية ودولية. تتناول العوامل الداخلية منها التراث الفكري والثقافي والتاريخي، والأوضاع الاجتماعية والتركيبة السكانية، والمقدرات الاقتصادية والعسكرية، إضافة للتركيبة السياسية في المجتمع. أما العوامل الإقليمية، فترتبط بالنظام الإقليمي السائد في الإقليم الذي تنتمي إليه تلك الدولة، ومدى تأثر السياسة الخارجية للدولة في هذا النظام، ومدى تفاعل عناصر القوة داخل الإقليم، وعلاقة النظام الإقليمي بالنظام العالمي، كإقليم جنوب شرق آسيا، وإقليم آسيا المركزية، والعالم العربي، وحوض البحر الأبيض المتوسط، وحوض الكاريبي، وإقليم جنوب شرق آسيا، وغيرها من الأقاليم. أما العوامل القارية فترتبط بتفاعل عناصر القوة على مستوى القارة بكاملها، والأنظمة السائدة فيها وإمكانية تأثيرها في السياسة الدولية كما هي الحال في الإتحاد الأوروبي ومنظمة الوحدة الإفريقية مثلاً.
والعوامل الدولية تتناول النظام الدولي بشكل عام، وخصائصه، وتطوره، وأبعاده، والعلاقة بين الدول الكبيرة والدول الصغيرة، والدول الغنية والدول الفقيرة، وعناصر القوة لدى الأطراف الدولية المختلفة، وهيئاته الدولية كمنظمة الأمم المتحدة مثلاً، ومدى تأثيرها على السياسات الخارجية لدول العالم. واعتماداً على كل تلك الحقائق يتم رسم وتشكيل السياسة الخارجية للدولة من قبل أجهزة رسم السياسة الخارجية للدولة، وكثيراً ما تكون هناك مؤسسات رسمية وأخرى غير رسمية، يفوق في بعض الحالات دور المؤسسات غير الرسمية، دور المؤسسات الرسمية، وإن كان ذلك يختلف باختلاف النظم السياسية ودرجة تطور مختلف دول العالم. ومن الملاحظ أن السياسة الخارجية المعاصرة، لم تعد تعتمد اليوم على فرد، بل أصبحت تعتمد على فريق عمل متكامل، مزود بأحدث تقنيات الاتصال التي تمكنه من الوقوف على تطور الأحداث فور وقوعها، مما أفسح المجال لصاحب القرار في مجال السياسة الخارجية، للاعتماد على فريق عمل من المستشارين المتخصصين في تخصصات متنوعة، تعرض عليهم الموضوعات التي تدخل ضمن إطار تخصصاتهم، وفي بعض الأحيان يعرض الموضوع الواحد على أكثر من مستشار بتخصصات متعددة لها علاقة بالموضوع قيد البحث، وبناءً على ذلك توضع عدة بدائل تعالج موضوع واحد مع شرح للمساوئ والمحاسن التي ترجح كل بديل عن غيره، تاركين القرار لصاحب الحق في اتخاذ القرار المناسب في مجال سياسة الدولة الخارجية. ورغم اعتماد السياسة الخارجية للدولة على الدراسة والأساليب والمناهج العلمية الحديثة المتطورة والمنطقية لاتخاذ القرار، إلا أن هذا لا ينفي دور المؤسسات الديمقراطية في المجتمع المدني من برلمان وأحزاب وتجمعات سياسية واستفتاء شعبي، لإضفاء الشرعية على قرار معين في السياسة الخارجية للدولة، وكثيراً ما تكون هناك سياسة خارجية معلنة للدولة وسياسة فعلية غير معلنة، ولظروف معينة قد تختلف السياسة المعلنة عن السياسة الفعلية غير المعلنة، وقد يعلن عن السياسة الفعلية بعد زوال الظروف التي حالت دون إعلانها. وتدخل السياسة الخارجية للدولة حيز التنفيذ فور اعتمادها، بإتباع كل الوسائل المتاحة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وإعلامياً واجتماعياً وثقافياً، ويدخل في إطار الوسائل السياسية التمثيل الدبلوماسي المعتمد، والمقابلات والزيارات الرسمية، والمعاهدات، ودبلوماسية القمة التي يلجأ إليها في المسائل الملحة والهامة والمصيرية كالقمم الثنائية، ومؤتمرات القمة كالقمة العربية، وقمة المؤتمر الإسلامي، وقمة رؤساء دول رابطة الدول المستقلة، وقمة الاتحاد الأوروبي، والقمة الإفريقية، وقمة رابطة أوروآسيا الاقتصادية، وقمة منظمة شنغهاي للتعاون مثلاً، ويساعد على ذلك التطور الهائل الحاصل اليوم في وسائل المواصلات والاتصالات التي قصرت المسافات بين الدول، ووفرت الوقت والجهد.
ومن الوسائل المتبعة في تنفيذ السياسة الخارجية للدول اتفاقيات التعاون الاقتصادي والمالي وتنمية العلاقات الاقتصادية والتجارة الخارجية، وتقديم الهبات والمساعدات والقروض، وإقامة المشروعات الاقتصادية المشتركة، وإرسال الخبراء الاقتصاديين، وهو ما يسمى بدبلوماسية المساعدات الاقتصادية لتحقيق أغراض سياسية معينة. وهنا يبرز دور شبكة الإنترنيت العالمية، بعد أن تطور مفهوم التجارة الالكترونية، وظهور هذا المصطلح في قاموس التجارة الخارجية، في نفس الوقت مع التقدم الهائل الحاصل في تكنولوجيا الاتصال، وما رافقها من تطورات هامة أثرت في عمليات التبادل الإعلامي الدولي، والتبادل التجاري وتبادل السلع والخدمات بين الدول المختلفة، وينطوي مفهوم التجارة الالكترونية على أي نوع من أشكال التعاملات التجارية والمالية التي تتم الكترونياً عبر شبكة المعلومات الدولية الـ(انترنيت) وتتم هذه التعاملات بين الشركات والبنوك بعضها البعض، أو بين الشركات والبنوك وعملائهم، أو بين الشركات والبنوك والإدارات المحلية. وبهذا أصبح بإمكان التجارة الالكترونية أن تقوم بوظائف عديدة في عمليات التبادل التجاري الدولي. من بينها الإعلان والتسويق والمفاوضات وتسوية المدفوعات والحسابات، ومنح الامتيازات والتراخيص، وإعطاء أوامر البيع والشراء. ولهذا بدأت البنوك والشركات الكبرى في العالم بتأسيس مواقع خاصة بها في شبكة الانترنيت، التي بدأ يتزايد عدد مستخدميها ليصل إلى أكثر من خمسين مليون مشترك من كافة أنحاء العالم، وتشير الإحصائيات إلى أن حوالي 20 % من حجم الصفقات التجارية في الولايات المتحدة الأمريكية، وحوالي 10 % منها في أوروبا تم في مطلع القرن الحالي من خلال التجارة الالكترونية. ويتوقع أن تزيد هذه النسبة في الفترة المقبلة. بالإضافة لما تتيحه التجارة الالكترونية من المزايا العديدة لتسهيل عمليات التبادل الإعلامي الدولي، وإتاحة المزيد من الاختيارات أمام المستهلك، وتخفيض الوقت والتكلفة لكل من المستهلك والمنتج، واتساع دائرة التسويق من السوق المحلية إلى السوق العالمية، وسهولة النفاذ إلى الأسواق الجديدة. وتؤدي هذه المزايا التي تتمتع بها التجارة الالكترونية إلى تغييرات جوهرية في طبيعة وأساليب عمليات التبادل الإعلامي الدولي لأنها تعمل على تحقيق ثلاثة عناصر رئيسية تتمثل في الكفاءة من خلال تخفيض التكاليف في مراحل عديدة من بينها تكلفة الإعلان والتصميم والتصنيع، والفعالية من خلال توسيع نطاق السوق وتلبية احتياجات المستهلك، والابتكار وتحسين نوعية المنتج وذلك في ظل المنافسة الشديدة وتوفر المعلومات.
أما الوسائل العسكرية المستخدمة في تنفيذ السياسة الخارجية للدولة فتكون بالتهديد أو التلويح باستخدامها أو استخدامها الكلي أو المحدود في بعض الأحيان، وسياسة تقديم المساعدات العسكرية، وإمدادات العتاد والسلاح بأنواعه المختلفة لتحقيق أهداف سياسية معينة. بالإضافة لاتفاقيات التعاون العسكري، والدخول في عضوية الأحلاف العسكرية. وتبادل المعلومات لاستخدامها في حروب المعلوماتية في ظل الثورة التكنولوجية التي أحدثتها تكنولوجيا وسائل الاتصال عن بعد الحديثة، غير أن التحليل الدقيق لمفهوم الثورة التكنولوجية يظهر أن ظاهرة حروب المعلوماتية ليست قاصرة على الجوانب التقنية المعقدة لنظم الاتصال الهاتفي المرئي وشبكات الكمبيوتر الحديثة المستخدمة في إدارة العمليات الحربية، بل تتعدى ذلك لتشمل طبيعة الحرب نفسها مع قدوم عصر المعلومات والتحولات الاقتصادية والاجتماعية الذي أفرزها. وقد واكب الاهتمام المتزايد بالحرب المعلوماتية داخل أروقة البنتاغون الأمريكي، ظهور إدراك متنامي في أوساط المفكرين ورجال الأعمال بمدى عمق التحولات التي تشهدها مجالات السياسة والاقتصاد وأنماط التفاعل الاجتماعي، التي تتمثل في السمة المشتركة بينها في زيادة الاعتماد على جمع وتحليل كم هائل من المعلومات للتعامل مع درجة التعقيد التي وصلت إليها البيئة الإنسانية والتكنولوجية في نهاية القرن العشرين، والتي بلا شك ستكون السمة الغالبة التي ستميز القرن الواحد والعشرين. باتجاه نحو التعقيد واستمرار التأثير على حركة التطور، حتى أصبحت وظيفة تحليل المعلومات تفوق في أهميتها الوظائف التقليدية التي ميزت عصر الثورة الصناعية وهي ظاهرة برزت بوضوح أثناء تحول اقتصادات بأكملها من النمط الصناعي الذي يعتمد على الإنتاج الشامل إلى اقتصاد المعلوماتية الذي تدار فيه عمليات الإنتاج والتجارة عن طريق شبكات الاتصال وتبادل وتحليل المعلومات إلكترونياً. وجرى تسريب معلومات عن جوانبها العسكرية بوضوح عبر محطات التلفزيون التي عرضت جنوداً أمريكيين يستخدمون أجهزة الكمبيوتر المحمولة في ساحة المعركة أثناء عملية اجتياح العراق من قبل قوات التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003.
وتشتمل الجوانب الإعلامية والثقافية والعلمية والاجتماعية في إطار تنفيذ السياسة الخارجية للدولة، إضافة لاتفاقيات التعاون المشترك، تبادل المعلومات والأفلام التسجيلية وأشرطة الفيديو والكتب والمعارض، وتدعيم التعاون بين المؤسسات الإعلامية الاجتماعية والثقافية والتعليمية ومراكز البحث العلمي، وتبادل المنح الدراسية، وتشجيع الدبلوماسية الشعبية وتبادل الزيارات والوفود والمجموعات السياحية. ويعد التبادل الإعلامي الدولي من الوسائل الفعالة لتنفيذ سياسة الدولة الخارجية ويمارسها الجميع من رئيس الدولة إلى أصغر المناصب الإدارية في الدولة كل في اختصاصه، في الوقت الذي تسعى فيه وسائل الإعلام الجماهيرية الموجهة للخارج إلى تحقيق أهداف السياسة الخارجية من خلال مؤسساتها الإعلامية المختصة بالإعلام الخارجي، إلى جانب قيام البعثات الدبلوماسية المعتمدة، بوظيفة إعلامية بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال رصدها لما تنشره وسائل الإعلام المحلية في البلد المعتمدة فيه، وإصدارها للنشرات الإعلامية، أو ما تتناقله وكالات الأنباء العالمية من تصريحات، أو ما تنشره الإذاعات المسموعة والمرئية والصحف والمجلات واسعة الانتشار من مواد أصبحت اليوم بمتناول الجميع بسبب التطور العلمي والتقني الهائل الذي حدث خلال تسعينات القرن العشرين، وسمح باستقبال البث التلفزيوني عبر الأقمار الصناعية، ومطالعة الصحف من خلال شبكات الكمبيوتر وخاصة شبكة الإنترنيت العالمية، ومن لا يعرف اليوم وكالات الأنباء العالمية ومحطات الإذاعة والتلفزيون العالمية الأمريكية والفرنسية والبريطانية، الموجهة إلى جميع دول العالم تقريباً وبأكثر اللغات العالمية انتشاراً، كالإنكليزية والفرنسية والإسبانية والعربية والصينية والروسية والبرتغالية والفارسية والتركية والألمانية وغيرها من اللغات الحية. والتبادل الإعلامي الدولي اليوم يعكس أساساً الأوضاع القائمة من ثقافية وعلمية وسياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية، ولكن لا يمكن التقليل من أهمية وإمكانيات الإعلام الموجه، وتأثيره وفعاليته من خلال التخطيط المحكم للحملات الإعلامية، وتكتيكات وأساليب عملها، ومتابعتها ورصدها للأحداث وشرحها وتحليلها، ومراعاتها لخصائص المستقبل المحلي والأجنبي للرسائل الإعلامية.
ويتمتع الإعلام الدولي بأهمية خاصة كوسيلة من وسائل تنفيذ السياسة الخارجية للدول الكبرى والمتقدمة، تتناسب مع حجم مصالح هذه الدول على الصعيد الدولي، وتعاظم دورها وتأثيرها في السياسة على الساحة الدولية، فهي تعمل من خلال وسائل إعلام متطورة تملكها، وتوجهها نحو تحقيق أهداف سياستها الخارجية وحماية مصالحها في الخارج. ومن نظرة موضوعية للوظيفة الإعلامية، لا نستطيع الفصل بين الإعلام الداخلي والإعلام الخارجي لأنهما عملياً يكملان بعضهما البعض ويقومان بعمل واحد يخدم سياسة الدولة ويدعم مواقفها على الصعيدين الداخلي والخارجي. وتخطئ الدولة التي تدعم الإعلام الداخلي على حساب الإعلام الخارجي، أو بالعكس، لأن هذا يضر بمصالح هذه الدولة على الصعيد العالمي ويفسح المجال واسعاً أمام وكالات الأنباء ووسائل الإعلام العالمية، للإضرار بسياسة تلك الدولة وتشويه سمعتها أمام الرأي العام المحلي والعالمي، أو الإقلال من أهميتها في المجتمع الدولي، أو على الأقل التعريف بتلك الدولة من خلال وجهات نظر تلك الوكالات والوسائل الإعلامية الأجنبية التي لا تتطابق والمصالح الوطنية للدولة المعنية، حتى على الصعيد الداخلي في تلك الدولة بعد انهيار الحواجز الجغرافية واللغوية والزمنية أمام وسائل الاتصال عن بعد الحديثة والمتطورة. وكلما أمسكت وسائل الإعلام الوطنية الموجهة للخارج بزمام المبادرة، وتميزت بالسرعة في الحركة، وتمشت مع التطور العلمي والتقني، كلما كانت أكثر فاعلية وتأثيراً وخدمة لأهداف السياسة الخارجية للدولة، ولكن هذا يخضع لعدة مؤثرات أخرى يدخل ضمنها الإعلام المضاد، والخلفية الثقافية للمستقبل الأجنبي، التي تحدد مدى راجع صدى المادة الإعلامية الموجهة للمستقبل الأجنبي. وطبيعي أن أية حملة إعلامية مهما بلغت من الدقة في الإعداد والتوجيه لتحقيق أهداف معينة، فإنها قد تحقق جزءاً من تلك الأهداف أو كلها حسب ظروف المستقبل الأجنبي ومدى تعاطفه وردة فعله على مضمون المادة الإعلامية، لأن الإنسان بحد ذاته يشكل جملة أحاسيس ومشاعر ومعتقدات وأفكار، وليس آلة يمكن توجيهها من قبل صاحب المادة الإعلامية الموجهة حيث يشاء. وتتحكم بردة فعله على المادة الإعلامية جملة مؤثرات داخلية وخارجية، وعلى الخبير الإعلامي السعي لمعرفتها والاستجابة لها، عند الإعداد لأية حملة إعلامية أو عند إعداد أية مادة إعلامية للمتلقي الأجنبي. ومن العوامل الأخرى التي تحد من فعالية وتأثير الإعلام الوطني الموجه للخارج، التأخر في نشر المادة الإعلامية، أو نشرها بعد فوات الأوان، أو مواجهته لإعلام مضاد قوي يستند على حقائق تاريخية وثقافية ولغوية، ومنطق إعلامي مقبول لدى المستقبل الأجنبي، من المنطق الذي تخاطبه به وسائل الإعلام الوطنية الموجهة للخارج. إضافة للإمكانيات المادية الكبيرة التي يحتاجها نجاح الإعلام الخارجي الموجه في الدول الصغيرة والفقيرة، مما يجعلها عاجزة أمام الإعلام الموجه للدول الكبيرة والمتطورة والغنية، وهو ما يفسر نجاح الحملات الإعلامية لتلك الدول بغض النظر عن الموضوعية والمنطق والحجج التي يلجأ إليها إعلام تلك الدول.
التبادل الإعلامي الدولي كوظيفة من وظائف المنظمات الدولية: يعد التبادل الإعلامي وظيفة من وظائف المنظمات الدولية، وتختلف هذه الوظيفة باختلاف طبيعة عمل هذه المنظمات وأنشطتها ووظائفها في المجتمع الدولي. كما وتعتبر المداولات الجارية في المؤتمرات واللقاءات الدولية التي تدعو لها تلك المنظمات على مختلف الأصعدة والمستويات، والمواد الإعلامية التي تصدرها من تقارير ومعلومات وكتب ومجلات ونشرات ومواد إحصائية وإعلامية وأفلام فيديو ومراسلات إعلاماً دولياً، يجد طريقه للنشر جزئياً أو بالكامل في وسائل الإعلام الجماهيرية للعديد من دول العالم. كما وتستفيد الدول الصغيرة والفقيرة التي لا تملك إعلاماً خارجياً، من منابر تلك المنظمات لتوجيه بيانات ومذكرات تجد طريقها في أكثر الأحيان للنشر في وسائل الإعلام الدولية المختلفة، وتعتبر مشاكل التبادل الإعلامي الدولي والاتصال والتدفق الحر للمعلومات، والتعاون السلمي بين الشعوب، من أولى المشاكل التي تصدت لها منظمة الأمم المتحدة منذ تأسيسها، عقب الحرب العالمية الثانية. حيث أصدرت العديد من المبادرات ودعت لانعقاد العديد من المؤتمرات واللقاءات الدولية لبحث مشاكل التبادل الإعلامي الدولي، وأصدرت الكثير من التقارير والوثائق الدولية حول هذا الموضوع. وكان لمنظمة الأمم المتحدة دوراً كبيراً في تقديم المساعدة للدول الفقيرة لإنشاء وسائلها الإعلامية الوطنية. وبحثت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة العديد من المسائل التي مازالت تعتبر من المشاكل الرئيسية للتبادل الإعلامي الدولي، منها تعريف حرية الإعلام والحقوق المترتبة عن حرية الإعلام وطرق تنفيذها على الصعيد الدولي، وهذه المشكلة المدرجة في جدول أعمال منظمة الأمم المتحدة منذ سنوات قيامها الأولى وحتى الآن، بالإضافة للتدفق الحر للمعلومات، والتغلب على الحواجز المعيقة للاتصال والتبادل الإعلامي الدولي، ومن ضمنها تحديد موجات الإرسال الإذاعي والتلفزيوني. وقد وافقت المنظمة على بعض الاتفاقيات الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية وحرية التعبير، وتنظيم وضع المراسلين الأجانب في البلدان المضيفة، لاسيما أثناء الأزمات والصراعات العسكرية حيث يعتمد وضعهم على حسن نية وتفهم الدول والأفراد في تلك الدول.
ويستنكر ميثاق منظمة الأمم المتحدة التحريض على الحرب، والاستعداد النفسي لها، والدعاية لها، ووفقاً لأحكام القانون الدولي: فإن التخطيط للحرب والإعداد لها وإعلانها، جريمة ترتكب بحق البشرية وتهدد السلام العالمي، ويدخل في هذا الإطار الأنشطة الدعائية التي تمهد للعدوان، ونشر الكراهية ضد الشعوب الأخرى، ونشر المعلومات الكاذبة والمشوهة لتبرير نوايا عدوانية مبيتة، كحجة نزع القدرات النووية للعراق قبل اجتياح أراضيه حتى دون موافقة مجلس الأمن الدولي وثبت عدم وجود تلك القدرات لديه بعد احتلاله من قبل قوات التحالف الدولي. ومنظمة الأمم المتحدة بالإضافة لتناولها مشاكل التبادل الإعلامي الدولي بحثاً عن حلول ملائمة لها، فإنها تقوم بوظائف إعلامية محددة، من خلال نشر مطبوعاتها المختلفة باللغات الرسمية المستخدمة في هذه المنظمة، على نطاق واسع. كما وأنشأت منظمة الأمم المتحدة مكاتب لها في العديد من دول العالم، ويشمل نشاط كل مكتب منها الدولة المقر والدول المجاورة لها، على سبيل المثال: مركز منظمة الأمم المتحدة في بانكوك عاصمة تايلاند يشمل نشاطه إضافة إلى تايلاند، كمبوديا، ولاوس، وماليزيا، وسنغافورة، وفيتنام؛ ومركز منظمة الأمم المتحدة في القاهرة عاصمة مصر، يشمل نشاطه إضافة لمصر، المملكة العربية السعودية، واليمن؛ ومكتب الأمم المتحدة في جينيف عاصمة سويسرا، يشمل نشاطه إضافة لسويسرا، إسبانيا، والبرتغال، والنمسا، وبلغاريا، وألمانيا، وبولندا، والمجر. وأدى تضخم كميات المعلومات الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة إلى أن يصبح التعامل معها صعب رغم استخدام أحدث السبل والتقنيات الحديثة لنشر وحفظ وفهرسة تلك المعلومات، وهو ما يسمى اليوم بالانفجار الإعلامي الدولي. ومن المنظمات الدولية المتخصصة في مجال التبادل الإعلامي الدولي: المنظمة العالمية لحماية حقوق التأليف التي أسستها منظمة الأمم المتحدة عام 1967 بدلاً عن المنظمة التي كانت قائمة منذ عام 1893، وتضم في عضويتها أكثر من 109 دول؛ وإتحاد البريد العالمي الذي أنشأته منظمة الأمم المتحدة عام 1947 بدلاً عن الإتحاد الذي كان قائماً منذ عام 1874 ويضم في عضويته أكثر من 168 دولة؛ والمنظمة العالمية للاتصالات البحرية عبر الأقمار الصناعية التي تأسست في لندن عام 1976 وتضم في عضويتها أكثر من 43 دولة؛ والمنظمة العالمية للإذاعة والتلفزيون التي تأسست عام 1946 بدلاً عن منظمة الإذاعات العالمية؛ والمنظمة العالمية للاتصالات الإليكترونية عبر الأقمار الصناعية التي تأسست في واشنطن عام 1964 وتضم في عضويتها أكثر من 109 دول؛ والمنظمة العالمية للاتصالات الإليكترونية التي تأسست عام 1865 وتضم في عضويتها أكثر من 160 دولة؛ ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة التي أنشأتها منظمة الأمم المتحدة عام 1945 من خلال المؤتمر الذي انعقد في لندن وضم ممثلين عن 44 دولة، وتضم في عضويتها أكثر من 160 دولة؛ ومنظمة الصحفيين الدولية التي تأسست عام 1946 وتضم منظمات الصحفيين لأكثر من 120 دولة في العالم.
وتؤدي المنظمات الإقليمية وظائف إعلامية محددة من خلال وسائل إعلامها الخاصة بها لتغطية أخبار مؤتمراتها ونشاطاتها الخاصة وشرح وجهة نظرها من القضايا الإقليمية والدولية. ومن هذه المنظمات الإقليمية: مجلس آسيا والمحيط الهادي الذي تأسس عام 1966 ويضم في عضويته أستراليا، وماليزيا، ونيوزيلنديا، وتايلاند، والفيليبين، واليابان، وكوريا الجنوبية، وفيتنام، وتايوان؛ ورابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN) التي تأسست في بانكوك عام 1967 وتضم في عضويتها بروني، وإندونيسيا، وماليزيا، وسنغافورة، وتايلاند، والفلبين؛ ومنظمة حوض الكاريبي التي تضم دول حوض الكاريبي. ونشأت من خلال رابطة الكاريبي للتجارة الحرة وضمت في عضويتها خلال الأعوام 1965 / 1968 غيانا، وأنتيغوا، وباربادوس، وترينيداد وتاباغو، وغرينادا، ودومينيكان، ومونت سيرات، وسينت فينسينت، وسينت كريستوفير نيفيس أنغليا، وسينت لوسيا، وجامايكا، وفي عام 1970 بيليز؛ وجامعة الدول العربية التي تأسست في القاهرة 22/3/1945 وتضم 22 دولة عربية هي: الجزائر، والبحرين، وجيبوتي، ومصر، والأردن، والعراق، واليمن، وقطر، والكويت، ولبنان، وموريتانيا، والمغرب، والإمارات العربية المتحدة، وعمان، والعربية السعودية، وسورية، والسودان، وتونس، وليبيا، والصومال، وفلسطين وجزر القمر؛ ورابطة الدول المستقلة: التي تأسست عام 1990 في مينسك وتضم معظم الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي السابق؛ ومنظمة شنغهاي للتعاون: التي تأسست في شنغهاي عام 2000 وتضم في عضويتها: الصين، وروسيا، وقازاقستان، أوزبكستان، وقرغيزستان، وطاجكستان. ويخضع التبادل الإعلامي الدولي كوظيفة من الوظائف المتعددة للمنظمات الدولية والإقليمية، للحدود التي تخضع لها تلك المنظمات الدولية والإقليمية، وتخضع قراراتها وفق أنظمة تلك المنظمات للمداولة لظروف من الضغوط الخارجية، ومصالح أعضائها ومصالح الدول المتقدمة المهيمنة على الساحة الدولية، رغم أن قرارات هذه المنظمات غير ملزمة وفقاً لمبدأ "المنظمات الدولية ليست فوق الدول ولكنها تشكل إرادة مستمدة من إرادة الدول الأعضاء في تلك المنظمات"، ووظيفة التبادل الإعلامي الدولي كوظيفة من وظائف المنظمات الدولية والإقليمية، هي المساهمة في تشجيع التعاون السلمي والتفاهم بين الشعوب، ودفع التطور الإنساني ونشر المعرفة لما فيه مصلحة الإنسان والمجتمع، مستخدمة في ذلك كل وسائل وتقنيات الاتصال الحديثة، ووسائل الإعلام الجماهيرية.
التبادل الإعلامي والتفاهم الدولي: يتحدد الإطار المثالي للتفاهم الدولي من خلال التبادل الإعلامي الدولي بتوخي الموضوعية المجردة، والدقة في إبراز الوقائع والصدق ووضع الجوانب المختلفة للموضوع والابتعاد عن التشويه، والسعي نحو الحقيقة، وهو ما يصعب تحقيقه. وتعتبر هذه الصورة مثالية بحد ذاتها وترتبط في معظم الأحيان بالحديث عن السلام العالمي والتفاهم والتعاون الدولي، ونبذ الصراع بكل أشكاله، واللجوء إلى التفاوض في حل المشاكل والخلافات المحلية والإقليمية والدولية، والسعي إلى ما فيه خير البشرية، بما فيها إقامة سلطة تتعدى سلطة الدول ! ! ؟ وهو ما نجده في بعض نصوص القانون الدولي وخاصة عندما توضع في محك التطبيق العملي، كما ونصادفها في كتابات الفلاسفة على مر العصور عندما تناولوا مواضيع التفاهم الدولي والتعاون بين الأمم. وعلى كل حال فإن العلاقات الدولية والظواهر الاجتماعية المختلفة تتسم بالدينامكية وسرعة الحركة والتغيير، وما هو مثالي صعب التحقيق اليوم قد يصبح سهلاً وواقعياً في فترة لاحقة. وما كان مثالياً وضرباً من الخيال قبل انهيار المنظومة الاشتراكية التي كان يقودها الإتحاد السوفييتي السابق، أصبح واقعياً بعد انهيارهما السريع والمفاجئ، وانتهاء الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، بين الشرق والغرب.
اللغات القومية والتفاهم الدولي: من المعروف أن العالم المعاصر يستخدم ما يقرب من 2900 لغة، بالإضافة إلى اللهجات المحلية المنبثقة عن تلك اللغات، مما يجعل من عملية التفاهم الدولي مهمة شاقة وصعبة، وباهظة التكاليف المطلوبة للترجمة الفورية والتحريرية، إن كان في المؤتمرات واللقاءات الدولية، أم في وسائل الإعلام الجماهيرية الموجهة للمواطن الأجنبي. لأن التبادل الإعلامي يعد في كثير من الحالات معوقاً للتفاهم الدولي، عندما لا يلتزم بالموضوعية، ويشوه الوقائع ويبرز وجهة نظر دون أخرى، وكثيراً ما يضع جوانب الموضوع التي تفيده فقط، ويتعمد التشويه خدمة لطرف واحد من أطراف الصراع، مهاجماً أو مواجهاً الطرف الآخر من الصراع الدائر. بطريقة يتم فيها احتكار تفكير الإنسان، وتوجيهه دون إرادة منه، لمفاهيم تحتوي على جانب واحد من الحقيقة، وبتكرارها بصور وأشكال مختلفة يصبح الإنسان مقتنعاً بها، معرضاً عن الجانب الآخر من الحقيقة حتى ولو اطلع عليها بطريقة أو أخرى. ويفسر ذلك بأن التبادل الإعلامي الدولي، بالأساس هو وسيلة من وسائل تنفيذ السياسات الخارجية للدول، وبالتالي فهو يسعى لخدمة هذه السياسات والتفاعل من أجل ذلك مع الوسائل الأخرى لخدمة تلك السياسات، ومن هنا فإن الموضوعية أو عدم تشويه الوقائع أو الكذب، الذي يصاغ بشكل يراعى فيه عدم إمكانية اكتشافه، واستخدامه ببراعة للهجوم على الخصم، من خلال وضع جوانب الموضوع بتكتيكات معينة تسير في إطار تحقيق أهداف السياسات الخارجية للدول. ومن هنا نفهم واقع سوء توزيع مصادر الأنباء في العالم، عندما توظف الدول المتقدمة إمكانياتها الاقتصادية، وتقدمها العلمي والتكنولوجي في خدمة سياساتها الخارجية، وهي الأكثر نضجاً من غيرها في الدول الأقل تطوراً، ويبرز الواقع أيضاً أن هذه الدول المتقدمة والغنية، تتحكم بوكالات الأنباء المؤثرة والرئيسية المسيطرة على جمع توزيع الأنباء في العالم، بالإضافة إلى محطات الإذاعة والتلفزيون وشبكات الكمبيوتر العالمية، والصحف والمجلات المنتشرة على نطاق عالمي، ووسائل الاتصال الحديثة وشبكة الأقمار الصناعية المخصصة للاتصالات ونقل البث الإذاعي والتلفزيوني، التي مكنت تلك الدول من إيصال واستقبال المعلومات الفورية دون أية حواجز تذكر إلى ومن أية نقطة في العالم. وجعل التطور العلمي والتكنولوجي الهائل في مجال الاتصال، من وسائل الإعلام الجماهيرية سلاحاً خطيراً في أيدي القوى الكبرى والدول المتقدمة والغنية، للتأثير على الرأي العام العالمي وتوجيهه، وخاصة فيما إذا استخدمت وسائل الإعلام الجماهيرية القوية والمسيطرة تلك، للتحريض على الحرب وإثارة التعصب الديني والقومي والعنصري، كما هو جار اليوم دون الدعوة للسلام ونصرة الحقوق المشروعة والتعاون والتفاهم بين الشعوب، ونبذ أي نوع من التعصب مهما كان نوعه، خدمة للتقدم الإنساني.
المعيقات السياسية لعملية التبادل الإعلامي الدولي: منذ العشرين سنة الأخيرة من القرن العشرين تزايد الدور العالمي لوسائل الإعلام الجماهيرية واسعة الانتشار وخاصة منها برامج التلفزيون المنقولة عبر الأقمار الصناعية، رغم تباين النظم السياسية والإيديولوجية ودرجات النمو الاقتصادي والثقافي والاجتماعي لدول العالم المختلفة، ورغم عدم التكافؤ الواضح بين القلة القليلة التي تبث السيل الهائل من المعلومات على مدار الساعة يومياً، وبين الغالبية العظمى من دول العالم التي تستقبل ما يرسل إليها، بغض النظر عن وضعها الاقتصادي غنية كانت أم فقيرة، لأن من يصنع ويملك تقنيات وتكنولوجيا الاتصال ويتحكم بصياغة المادة الإعلامية هو المسيطر على عملية التبادل الإعلامي الدولي دون منازع يذكر، ومن عداه فهو مستهلك لتكنولوجيا وتقنيات الاتصال وللمادة الإعلامية باهظة النفقات والتكاليف. لأن العلاقة شديدة الصلة بين السياسات الخارجية للدول، والرأي العام الوطني والإقليمي والعالمي، كل منها يؤثر ويتأثر بالآخر، وهذا بحد ذاته يبرز مشكلة سياسية عويصة أمام عملية التبادل الإعلامي الدولي، مفادها ضخامة وتضارب المصالح الحيوية لمختلف دول العالم وخاصة الدول المتطورة والغنية، التي تتجاوز حدودها الجغرافية المعترف بها لمناطق أخرى بعيدة كل البعد جغرافياً عنها، وتعدد المشاكل السياسية والاقتصادية والإيديولوجية بينها يجعل عملية التبادل الإعلامي تؤثر وتتأثر حتماً بوسائل تنفيذ السياسات الخارجية للدول الأخرى، وهذا مرتبط بمدى قوة وفاعلية وسائل الإعلام الجماهيرية الموجهة للخارج لكل دولة. لأن وسائل الإعلام الجماهيرية الدولية، من خلال عملية التبادل الإعلامي الدولية، تسعى لخدمة سياسة معينة كثيراً ما لا تتماشى هذه السياسة مع متطلبات التفاهم الدولي، ولأن هذه الوسائل بالأساس تتصدى لمشكلة أو مشاكل سياسية معينة، وتسير في خط معين مرسوم لها ضمن السياسة الخارجية للدولة، وكثيراً ما يبتعد هذا الخط عن الموضوعية والدقة في عرض الوقائع، وقد ينجح في إقناع عدد كبير من مستقبلي الرسائل الإعلامية، بعدالة وصدق موقفه من المشكلة المطروحة، رغم أن الحقيقة عكس ذلك، ومرد ذلك إما الظروف المتاحة دولياً والتفاهم والتعاطف الدولي مع سياسة خارجية معينة، أو قوة أساليب عمل وسائل الإعلام الجماهيرية الدولية التي يملكها هذا الطرف أو ذاك، أو ضعف أساليب عمل وسائل الإعلام الجماهيرية للطرف المواجه، أو غيابها تماماً عن الساحة الدولية مما يتيح للخصم ظروفاً ممتازة لإقناع الرأي العام العالمي بعدالة وصدق مواقفه كما يشاء دون منازع.
وقد أدى انهيار المنظومة الاشتراكية والإتحاد السوفييتي، إلى انتهاء الحرب الباردة بين الشرق والغرب، وإلى انفراج نسبي في العلاقات الدولية، خفف الصراع الإيديولوجي الذي كان قائماً إلى حد ما، ولكن سرعان ما استبدل بصراع من نوع جديد أخذ طابعاً آخر كأنه يدعم الديمقراطية والانفراج الدولي ومحاربة التطرف الديني، والإرهاب الدولي من وجهة نظر القوي المسيطر على عملية التدفق الإعلامي الدولي. وأدى غياب الصراع الإيديولوجي إلى تخفيف السباق المتسارع بين التكتلات الإقليمية والدولية المتصارعة للإمساك بزمام المبادرة في توجيه الحملات والضربات الإعلامية ضد بعضها البعض، ولكن لا أحد ينكر فضلها الأكبر في دفع التطور السريع لتقنيات ومعدات الاتصال، التي نعرفها اليوم، وكانت محض خيال قبل نصف قرن من الزمن. وتقوم وسائل الإعلام الجماهيرية لأية دولة في العالم، بتوجيه حملات إعلامية مركزة للتأثير على الرأي العام الدولي وتقوية الرأي العام المحلي داخلياً وتحصينه ضد الحملات الإعلامية الخارجية، وتشترك بنفس النشاط تقريباً مع وسائل إعلام الدول الأخرى التي تشترك معها في تحالفات وتكتلات إقليمية ودولية، ويظهر من خلالها مدى ضلوع عملية التبادل الإعلامي الدولي في مشاكل ومتناقضات السياسات الدولية، محلياً وإقليمياً ودولياً.
ومن المشاكل العويصة التي تواجه عمل وسائل الإعلام الجماهيرية كوسيلة من وسائل السياسة الخارجية للدولة، العلاقة الموضوعية بين السياسة الخارجية للدولة، والرأي العام الوطني، والرأي العام الإقليمي، والرأي العام الدولي، خاصة عندما يبرز تضارب واضح وتباين بينها. فبينما تعمل وسائل الإعلام الجماهيرية على تهيئة الرأي العام العالمي لاتخاذ موقف معين من قضية معينة تتفق والسياسة الخارجية للدولة المعنية، نراها في أكثر الأحيان مضطرة لاتخاذ موقف آخر قد يكون مغاير تماماً، لتهيئة الرأي العام المحلي من القضية ذاتها، وهذه مشكلة عويصة بحد ذاتها أمام المخططين والمنفذين للسياسات الإعلامية الداخلية والإقليمية والدولية. خاصة بعد التطور الهائل الحاصل في مجال وسائل الاتصال الحديثة، وتعدد وسائل الإعلام الجماهيرية وتنوعها وتجاوزها للزمن والمسافات والحدود الجغرافية واللغوية والحضارية، ليصبح ما يحدث اليوم في أي جزء من العالم في متناول الإنسان أينما كان ومهما بعدت المسافات خلال دقائق عبر قنوات التلفزيون الفضائية وشبكات الكمبيوتر، ولتصبح قدرة الدول في التحكم الفعلي بالرأي العام المحلي محض خيال، بعد أن طالته وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية الدولية، وأصبح الخيار في أيدي من يملك وسائل الاتصال الحديثة، ومن يوجه وسائل الإعلام الجماهيرية الدولية، ويسيطر على صياغة الخبر بالطريقة التي تحلو له. وإذا كان العالم اليوم يتجه حسيساً نحو الانفراج والتعاون الإيجابي بين الأمم، فإن هذا لا يعني انتهاء المشاكل والصراعات الدولية القديمة منها والجديدة والمتجددة، وكل ما يحدث هو تغير في الظروف الدولية وديناميكية العلاقات الدولية، وزيادة في عملية التفاعل والتبادل الإعلامي الدولي. وهذا يفرض على خبراء الإعلام الإلمام بالعلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية الدولية، ومسارها التاريخي، والنظم والاتجاهات السياسية السائدة في دول العالم، وخلفية مواقفها من العلاقات الدولية المعاصرة، ليستطيع كلاً منهم أخذ مكانه الفاعل والمؤثر في عملية التبادل الإعلامي الدولي المتجددة، وخدمة سياسات بلده الداخلية والإقليمية والدولية بعد أن تجاوزت وسائل الإعلام الجماهيرية فعلاً الحدود الفاصلة بين تلك السياسات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق