تحت
عنوان "رسالة مفتوحة إلى السيناتور الأميريكي ريتشارد هـ. بلاك" نشر
الأب إلياس زحلاوي على صفحته الإلكترونية في الإنترنيت يوم 8/6/2014 رسالة أعجبتني
وأود أن أنشرها لكل مهتم بالقضية السورية، وجاء فيها:
الأب إلياس زحلاوي
من
دمشق أحيّيك، أنا الكاهن العربي السوري.
فاجأتني
رسالتك إلى السيد الرئيس بشار الأسد، كما قد تكون فاجأت الكثيرين في أميركا، وعلى
نطاق العالم.
إلا
أنّ ما فاجأني فيها، بوصفي مواطناً سورياً، لا يطابق بالضرورة، ما قد يكون فاجأ
سواي.
قد
يظن بعضهم أنّ مبادرتك هذه تنطوي على قدر كبير من الشجاعة، تُقدِم عليها في وجه
إدارة وقوى وإعلام، بلغوا في امتهان الوحشيّة والتلفيق والغطرسة والغباء، في آن
واحد، حدود المنتهى!
أما
أنا، فإني لا أرى فيها، في أفضل الأحوال، سوى مجرّد محاولة - متأخّرة جدّاً -
لاعتذارك الشخصي عن الفظائع التي ارتكبتها وترتكبها دولتك دون هوادة، منذ عشرات
السنين، ولا سيما في سورية، دون أن يرفّ لها جفن، لا من ندم، ولا من خجل!…
وأنت،
أيها السيد السيناتور، شئت أم أبيت، مسؤولٌ في هذه الإدارة… ولذا كان يتوجّب عليك
من زمان بعيد، أن تُقدِم على ما أقدمت عليه اليوم فقط، بل كان يتوجب عليك أن تحرّض
عليه الكثيرين من رجالات الدولة وسواهم. وقد تكون فعلت، وفشلت… فبات من الصعب عليك
الإقرار العلني بذلك.
في
رسالتك، أمور كثيرة استوقفتني.
أنت،
منذ الأسطر الأولى، تكيل الشكر للجيش العربي السوري. لماذا؟ لأنه، كما كتبت،
"أنقذ أرواح المسيحيّين" في القلمون، و"حرّر المسيحيّين وغيرهم من
السوريّين" في يبرود، و"أنقذ ثلاث عشرة راهبة في يبرود" أيضاً!
إنّ
تركيزك هذا الصريح على "المسيحيّين"، أثار لديّ سؤالاً ضخماً أطرحه
عليك، وعلى كلّ مسؤولٍ في طول الغرب وعرضه:
وغير
المسيحيّين، ماذا تفعلون بهم؟
أوَليسوا
بشراً خُلِقوا على صورة الله، فلهم إذن قدسيّتهم، ولهم حقّهم الإلهي في حياة
كريمة، آمنة، هانئة؟
ثم
ما الذي يستدعي اهتمامك الخاص بالمسيحيّين؟
ألأنك
تخشى عليهم من المسلمين؟ دعني إذن أقل لك، ولكلّ أميركي، ولكلّ غربي، دفعة واحدة.
إنّ ما أذقتم العرب المسيحيّين وحدهم في الشرق العربي، منذ نشوء دولة إسرائيل في
فلسطين، حتى اليوم، فاق بهوله آلاف المرّات، ما ذاقوه منذ الفتح العربي حتى الآن!
أيّها
السيناتور الأميركي "المسيحي"، دعني أسألك أيضاً: ما الذي تعنيه
المسيحيّة بالنسبة إليك، وأنت اليوم في موقعك هذا المسؤول، في إدارة تسعى كلّها،
في وحشيّة علميّة مدروسة، لابتلاع العالم كلّه؟
هل
لك أن تقول لي: أين المسيح من كلّ هذا؟ وأين هي مسؤوليّة كنيسته في الولايات
المتحدة، إزاء دولة كهذه تدمّر العالم في انتظام، وتنهب الأرض، وتجوّع الناس
وتشرّدهم دون رحمة، وتقتل شعوباً برمّتها، كما هي فعلت منذ عشرات السنين في كوريا
وفييتنام، وكما كرّرت فعلتَها لسنوات خلت، في إيران والعراق وأفغانستان، ومن ثمّ
ليبيا، وكما هي تفعل الآن في وطني سورية؟
أوَليس
لهذه الكنيسة الأميركية ما تقوله، إزاء كلّ هذا الذي يناقض تعليم يسوع، على نحو
مطلق؟
أوَليس
لك، يا سيّدي السيناتور، معارف، بل أصدقاء، بين الأساقفة والكهنة في الولايات
المتحدة؟ أفلا يحدث لكم أن تقّيموا أعمال دولتكم هذه، في ضوء تعاليم يسوع؟ ما لم
تكونوا، كما يبدو جليّاً، أحللتم الإله الدولار، محلّ الله، ويسوع والإنجيل! مع
أنكم تملأون الكنائس كلّ يوم أحد! أتراكم رضيتُم وحسب، بحياةٍ تتّسم بانفصام تامّ
بين ما تدّعون من إيمان، وما تفعلون من شرور؟ أفلا تكونون، والحالة هذه كما هي،
مرضى تحتاجون إلى علاج، فتكون بذلك الولايات المتحدة كلّها، أقرب إلى مصحّ عقليّ،
منها إلى أيّ شيءٍ آخر؟!
ثمّ
إن كانت المسيحية تعني لك شيئاً ما، فما الذي أسكتك، ويسكت، لا كنيسة الولايات
المتحدة وحدها، بل كنائس الغرب كلها، إزاء الدمار المنظّم والمفضوح، الذي تنتهجه
إسرائيل، منذ سبعين عاماً، حيال وطن يسوع، فلسطين، أرضاً وشعباً ومقدّسات؟
أجل،
ما الذي يسكتك ويسكت الولايات المتحدة، إزاء اقتلاع كلّ ما هو ديني في فلسطين
كلّها، وعلى نحو خاص، في مدينة القدس؟
أوَيرضي
إيمانكم المسيحي أن تتحوّل مدينة القدس هذه، إلى ما يريد لها الاحتلال الصهيوني،
أن تؤول إليه: مدينة للّهو واللعب ليس إلاّ، بعد أن كانت المدينة المقدّسة
بامتياز، لجميع اليهود، وجميع المسيحيّين، وجميع المسلمين في الأرض كلّها؟
ثمّة
نقاط أخرى في رسالتك، أودّ أن أدلي برأيي فيها، قبل أن أودّعك.
أنت تقول بكلّ صراحة "إنّ قلّةً من الأميركيّين يدركون أنّ المقاتلين في سورية، تسيطر عليهم القاعدة!".
أنت تقول بكلّ صراحة "إنّ قلّةً من الأميركيّين يدركون أنّ المقاتلين في سورية، تسيطر عليهم القاعدة!".
وأنت،
بذلك، تثير على مستوى أميركا والعالم، قضيّتين في منتهى الخطورة. الأولى هي قضية
الإرهاب الذي تتعاون دولتكم من خلاله، مع منظّمات أعلنت هي والهيئات الرسمية
الدولية، أنها إرهابيّة!
والثانية
هي قضية الإعلام الأميركي، والإعلامَين الغربي والعربي الخاضعين له، الذي يمطر
العالم كلّه بالكذب الممنهج والمنظم والمفبرك، ليبرّر سياستكم الساعية أبداً إلى
انتزاع تأييد الرأي العام، من أجل تبرير الدمار الشامل الذي تنتهجه دولتك الكريمة
مع من تصنّفهم "أعداء" لها…
ولقد
قلت أيضاً: "إنّ عدة مسؤولين في الولايات المتحدة لا يوافقون على سياسة تسليح
وتدريب الإرهابيّين الذين يعبرون حدودكم"…
سيدي،
هؤلاء
المسؤولون الأميركيون، الذين "لا يوافقون" على هذه السياسة، أين هم؟
لماذا لا يُسمع لهم صوت؟ لماذا لا يكتبون ويحتجّون في هذا البلد الذي تزعمون أنه
بلد الحرية بامتياز؟ لماذا لا يتحرّكون خارج حدودكم؟ ولماذا هم لا يحرّكون سواهم،
من سياسيّين، وإعلاميّين، وإداريّين، ومسؤولين كنسيّين أيضاً في الولايات المتحدة؟
ثم
إنك كتبت في هذه الرسالة تقول للسيد الرئيس:
"لقد واصلتَ نهج والدك
بالتعامل المتّسم بالاحترام، مع جميع المسيحيّين ومع الطائفة اليهودية الصغيرة في
دمشق، وسمحتَ لهم أن يتعبّدوا بحريّة وفق معتقداتهم".
هنا،
اسمح لي أيها السيد السيناتور، أن أدعوك لمطالعة كتب التاريخ العربي كلها، لأنك،
بكل تأكيد، تجهل هذا التاريخ بالذات. وإلا لكنتَ عرفتَ أنّ هذا التعامل السمح مع
غير المسلمين، الذي ترى فيه منّةً من الرئيس حافظ الأسد، لم يكن جديداً إلاّ في
نظرك، وأنه نشأ وثبت وتواصل في دمشق، وفي طول البلاد العربية والإسلامية، وعرضها،
منذ أن فتحت دمشق أبوابَها للمسلمين الفاتحين حتى اليوم. ذلك أنّ هؤلاء المسلمين،
خلافاً لكلّ فاتحٍ قبلَهم وبعدهم، فاجأوا العالم آنذاك وبعد ذاك حتى اليوم، بنمط
من التعامل مع الشعوب المقهورة، لم يعرفه العالم البتّة! وقد بات هذا التعامل
الطيّب والسمح، بين المسلمين والمسيحيّين واليهود، عبر التاريخ كله، نموذجاً
يتوجّب على الغرب اليوم وغداً، أن يقتدي به، قبل فوات الأوان، وقبل أن ترتدّ
صواريخ "أصدقائكم" الإرهابيّين، القادمين إلى سورية من (83) بلداً -
بينها الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وانجلترا وبلجيكا والشيشان الخ…! - إلى
صدوركم وصدور أبنائكم ومؤسساتكم وأحلامكم، فتذيقكم بعض ما أذقتم أبناء سورية!
أخيراً،
السيد السيناتور، أسمعك تقول للسيد الرئيس، بكل سذاجة:
"إني أصلي لكي يطرد
جيشك الجهاديّين من سورية!"
وأنا
بدوري، أنا الكاهن العربي السوري، أدعوك، وأدعو كلّ أميركي للتوبة إلى الله، في
صدقٍ واتّضاع، والصلاة إليه، كي يعود جميع المسؤولين في وطنكم، من مدنيّين
وعسكريّين، وخصوصاً كنسيّين، إلى ضميرهم وإنسانيّتهم، فيتعاملوا مع جميع دول الأرض
وشعوبها، في احترام وتواضع، وكي يساعدوا جميع الدول، دون تمييز، على التعامل في ما
بينها في احترام وتكافل حقيقيّين، ضمن المؤسسات الدولية المسؤولة، بحيث يعود العقل
والقانون إلى الأرض كلّها، فيستعيد الإنسان، كلّ إنسان دون استثناء، ما حباه الله
به من كرامة وقدسيّة.
أيها
السيد بلاك،
تقبّل
شكري واحترامي.
الأب
الياس زحلاوي
دمشق
في 2/6/2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق