تحت عنوان "الطغيان اللغوي والترجمة
الآلية" نشرت
صحيفة تشرين الدمشقية بتاريخ 12/4/1998 مقالة كتبها المفكر السوري برهان بخاري،
أعيد وانشرها لكن نقلاً عن صفحة ابن المفكر السوري برهان بخاري Orfan
Boukhari. آملاً أن تعجبكم:
تبقى اللغة هي الوسيلة الوحيدة للتعبير
والاتصال حتى لو كانت لغة العيون أو الشفاه أو الأصابع أو أي شكل من أشكال اللغات،
ومن هنا يأتي جبروت اللغة وطغيانها واستبدادها وسطوتها وسحرها.
ثمة فرق كبير بين جبروت اللغة وبين طغيانها،
فالجبروت هو نوع من القوة الفائقة التي تدل عليها صفة «جبار»، والتي قد تحمل
جانباً إيجابياً، أما الطغيان فهو صفة تحمل حكماً معنى سلبياً تؤكده صفة «طاغية»،
ثم تأتي صفة الاستبداد، التي تقتصر في اعتقادي على العلوم اللغوية فقط، وعلى علم
«النحو» بشكل خاص.
والنحو، كما هو معروف، من العلوم القابلة
للتطور إلى حد أنه لا شيء يمنع إطلاقاً من نسف أساساته وإعادة بنائها من جديد وفق
متطلبات عصرنا ومتطلبات جميع العصور.
وفي الوقت الذي يمكن أن تحمل فيه اللغة العربية شيئاً من القداسة فإن النحو العربي لا يحمل أي نوع من أنواع القداسة، لأن النحو العربي ولد - كما هو معروف - بشكل بدائي ومتواضع في أربعينات القرن الأول الهجري على يد «أبو الأسود الدؤلي»، ثم شهد نقلته النوعية الأولى على يد سيبويه، التلميذ النجيب للعالم الفذ الخليل بن أحمد الفراهيدي، في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري.
وفي الوقت الذي يمكن أن تحمل فيه اللغة العربية شيئاً من القداسة فإن النحو العربي لا يحمل أي نوع من أنواع القداسة، لأن النحو العربي ولد - كما هو معروف - بشكل بدائي ومتواضع في أربعينات القرن الأول الهجري على يد «أبو الأسود الدؤلي»، ثم شهد نقلته النوعية الأولى على يد سيبويه، التلميذ النجيب للعالم الفذ الخليل بن أحمد الفراهيدي، في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري.
وبمنتهى البساطة يمكن القول إنه كما أننا لا
نخضع الآن لنظريات القرن الثاني الهجري في علوم الفلك والطب والكيمياء وغيرها من
العلوم فإننا لسنا مجبرين على الخضوع لهذا النحو المتخلف الذي بين أيدينا، والذي
أصبح سيفاً مسلطاً على رقاب أبنائنا، ومهزلة لمعظم الذين يستخدمون «الفصحى» في
خطاباتهم.
وعليه فمن غير المعقول أن نستمر بجلد الأجيال
من المرحلة الابتدائية حتى التخرج من الجامعة، ولا بد من وضع حد لهذا الهدر في
الطاقة، ومن هنا يأتي إصراري على أن النحو العربي هو إشكال سياسي وليس إشكالاً
فنياً محصوراً بيد مجموعة محدودة من الاختصاصيين.
كان لا بد من هذه المقدمة للدخول في ما نواجهه
من تحديات حضارية تجاه مسألة الطغيان اللغوي الذي يتجلى يوماً بعد يوم بالهيمنة
المتزايدة للغة الإنكليزية على الثقافة العالمية، وما تخلفه مثل هذه الهيمنة من
آثار مرعبة على مسارات الثقافات العالمية والتعايش بينها بشكل إنساني وحضاري،
بعيدٍ عن مفهوم الطغيان.
المعنى الأساسي للمصطلح الإنكليزي « Overflow» هو
«الفيض» وأوضح مثال له هو فيض مياه النهر على جوانبه حين تزيد كمية الماء عن طاقة
مسار النهر، لكن هذا المصطلح قد يأخذ معنى «الطغيان» في حالة تشبه حالة الفيض الذي
باتت تمر به اللغة الإنكليزية نتيجة انصباب جميع المسارات الثقافية فيها.
وإذا كانت الفرانكوفونية قد خسرت العديد من
المواقع الهامة تجاه الآنجلوفونية فإنه يصعب جداً تحديد حجم المواقع التي خسرتها
ويمكن أن تخسرها الآراب فونية تجاه الآنجلو فونية، وعلى الأخص أن الآراب فونية لم
تتبلور كمفهوم دقيق بعد.
ولقد بدأ طغيان اللغة الإنكليزية من مفهوم
اللغة العالمية الذي يحدده المصطلح الإنكليزي « Linguafranca »، والذي يعني استخدام مجموعة من الأفراد لغة وسيطة غير لغاتهم
الوطنية للتفاهم عبرها، ومع التوسع الاستعماري تحولت العديد من اللغات الأوروبية
كالإنكليزية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية والهولندية والألمانية والإيطالية
إلى لغات عالمية في المناطق التي استعمرتها، الأمر الذي أدى إلى نشوء مصطلح
«الفونية»، الذي يعني مجموعة الشعوب التي تستخدم لغة عالمية معينة.
ومع تزايد الثقل الاستثنائي للإمبريالية
الأمريكية حسمت الأمور لصالح الآنجلو فونية، وبدأ بعدها طغيان اللغة الإنكليزية
على ثقافات العالم أجمع، والذي تمثل بضرورة نقل جميع الفعاليات الفكرية والثقافية
العالمية إلى اللغة الإنكليزية أولاً، قبل تبادلها بين شعوب العالم، الأمر الذي
سمح بعملية الانتقاء والاختيار من قبل المسيطرين على فعاليات الآنجلوفونية، وعلى
الأخص في مجالات الإعلام المختلفة، والذي ظهرت آثاره المرعبة بهيمنة الصهيونية على
مفاصل وسائل الإعلام الآنجلوفونية الرئيسية.
إن نظرة نلقيها على حجم التبادل بين ثقافات
العالم تظهر لنا بشكل مرعب مدى البؤس الذي يحيط بمجمل هذا التبادل، وقد لا يصدق
العربي أن ما يتاح له من اطلاع على ثقافات العالم لا تتجاوز نسبته واحد من مليون
على أعلى تقدير، ويأتي هذا الرقم من افتراض بسيط هو أن ما يترجم إلى الإنكليزية من
مختلف لغات العالم يمكن أن يصل إلى حدود واحد بالألف، وأن ما يترجم إلى العربية من
الإنكليزية هو بحدود واحد بالألف أيضاً، فتكون النتيجة واحد من مليون.
وكمثال بسيط فإن الراحل عدنان بغجاتي
ترجم بعض نتاج الشاعر الإسباني لوركا وأشعار الهايكو اليابانية عن طريق
اللغة الإنكليزية، ولو أن تلك الأشعار لم تترجم إلى الإنكليزية، لما كان بمقدوره
أن يترجمها إلى العربية، وعليه يمكن من هذا المثال البسيط تصور البؤس الذي تعيشه
حالة المثاقفة العالمية، فالعديد من الثقافات التي أنتجتها لغات محدودة الانتشار
لم نطلع نحن العرب ولو على جزء يسير منها.
لعل الجانب المرعب في الموضوع كله هو تضاؤل
النسبة بشكل مضطرد، فإذا كانت نسبة التبادل الثقافي العالمي هي بحدود واحد
بالمليون حالياً، فإنها قد تصل إلى واحد بالعشرة ملايين بعد فترة معينة، نظراً
للتنامي العالمي الهائل للإنتاج الفكري والثقافي والأدبي والعلمي، وفي جميع
الميادين الأخرى.
ثمة نقطة خطيرة أخرى تتلخص بالتشوه الذي يحدث
في الترجمة غير المباشرة عبر لغة وسيطة، فالنص يتعرض أصلاً لتشوهات حين يترجم من
لغة إلى أخرى، وحين يترجم النص المترجم إلى لغة ثانية فإن مقدار التشوهات يتضاعف
وفق سلسلة هندسية، وخلال تجربتي مع الأكاديميات الأوزبكية، وفي أول محاولة أجريتها
للترجمة من الأوزبكية إلى العربية مباشرة، طلب مني الأكاديميون الأوزبك أن أعيد
ترجمة ما سبقت ترجمته من أعمال أوزبكية إلى العربية عن طريق اللغة الروسية، وذلك
لرد الاعتبار إلى تلك الأعمال التي أصيبت بتشوهات فظيعة عبر ترجمتها مرتين، من
الأوزبكية إلى الروسية ثم من الروسية إلى العربية.
حين شرحت مشروعي الخاص بالترجمة الآلية عام
1985 لم أكن أفكر بالأبعاد السياسية له، لذا اكتفيت بمناقشته من الناحية
الأكاديمية والعلمية والتقنية فقط، أما الآن فأرى من واجبي أن أعيد شرحه واضعاً
الجانب السياسي في الاعتبار الأول.
وقبل أن أقدم عرضاً موجزاً لمشروعي ونظريتي أرى من المفيد أن أقول إن هذا المشروع قد نوقش على أعلى المستويات في أوروبا وأنني قد عرضته في عدد من المعارض والمؤتمرات الأوروبية، وأن شركة «مونوتايب» البريطانية قد قامت بصنع النموذج الأول له على حسابها، وأن جملة من الظروف التي لا داعي للتعرض لها قد أجبرتني على العودة إلى الوطن، وإيقاف جميع الأنشطة في أوروبا.
وقبل أن أقدم عرضاً موجزاً لمشروعي ونظريتي أرى من المفيد أن أقول إن هذا المشروع قد نوقش على أعلى المستويات في أوروبا وأنني قد عرضته في عدد من المعارض والمؤتمرات الأوروبية، وأن شركة «مونوتايب» البريطانية قد قامت بصنع النموذج الأول له على حسابها، وأن جملة من الظروف التي لا داعي للتعرض لها قد أجبرتني على العودة إلى الوطن، وإيقاف جميع الأنشطة في أوروبا.
يقوم مشروعي الخاص بالترجمة الآلية على نظرية
جديدة أطلقت عليها اسماً علمياً هو «اللغة العليا -Supralingua
»،
تتلخص بأن تجري الترجمة بواسطة الحاسب من أي لغة إلى أي لغة أخرى في العالم عن
طريق لغة رياضية تعمل كوسيط بينهما.
وتختزن هذه اللغة العليا جميع التراث اللغوي
البشري في العالم عن طريق تحويله إلى رموز رياضية ذات دلالات ثابتة، ولقد اقتنع
العلماء الغربيون بنظريتي عبر مثال نظري بسيط أوردته لهم وهو:
لنفترض وجود ستة أشخاص لا يعرف أي منهم إلا
لغته الوطنية، وأن ثمة مترجماً بينهم يعرف لغاتهم الست، فكيف تتم عملية الترجمة؟
لنفترض أن أحدهم قال «مساء الخير» فقام
المترجم بترجمتها إلى اللغة الإنكليزية، والسؤال هو هل يحتاج المترجم إلى إعادة
سماع الجملة نفسها إذا أراد أن يترجمها مرة أخرى إلى الفرنسية والإسبانية وبقية
اللغات؟ الجواب المنطقي هو لا طبعاً.
وعند تحليل هذه العملية نرى أن المترجم قد تلقى الجملة باللغة العربية واستوعبها ثم اختزنها على شكل رموز مجردة في دماغه، ثم قام بتحويلها إلى جملة مكافئة في كل لغة على حدى.
وعند تحليل هذه العملية نرى أن المترجم قد تلقى الجملة باللغة العربية واستوعبها ثم اختزنها على شكل رموز مجردة في دماغه، ثم قام بتحويلها إلى جملة مكافئة في كل لغة على حدى.
هذا باختصار هو جوهر النظرية التي يقوم عليها
مشروعي الخاص بالترجمة الآلية، ولا يتسع المجال طبعاً للاستفاضة في الشرح، لكن
المهم أننا أجرينا تجارب عملية أثبتت مصداقية شبه كاملة.
أنا لا أدعو الآن إلى أنصار لي من أجل المضي
في تطوير مشروعي، لكنني رأيت من واجبي أن ألقي أضواء مكثفة على الجانب السياسي
للترجمة الآلية، فـ«اللغة العليا» هي الوسيلة الوحيد القادرة على مجابهة طغيان
الآنجلو فونية، لذا فإن خطابي يمتد ليشمل كل من له علاقة بهذا الشأن الخطير، من أي
بلد كان ومهما كانت لغته الوطنية.
ومن خلال خبراتي وتجاربي فإن معظم المؤسسات العلمية في طول العالمين العربي والإسلامي وعرضه تعاني نوعاً من «التشرنق» نتيجة وجود إحساس عميق بـ«الإقطاع» يجعل كل مسؤول يشعر أن مؤسستة هي «ملكه الخاص» الأمر الذي ينفي المفهوم المؤسساتي، وهذا هو أحد أخطر أسباب التخلف الذي يعيشه هذان العالمان، الأمر الذي يؤكد دور المبادرات الفردية على مختلف الصعد.
ومن خلال خبراتي وتجاربي فإن معظم المؤسسات العلمية في طول العالمين العربي والإسلامي وعرضه تعاني نوعاً من «التشرنق» نتيجة وجود إحساس عميق بـ«الإقطاع» يجعل كل مسؤول يشعر أن مؤسستة هي «ملكه الخاص» الأمر الذي ينفي المفهوم المؤسساتي، وهذا هو أحد أخطر أسباب التخلف الذي يعيشه هذان العالمان، الأمر الذي يؤكد دور المبادرات الفردية على مختلف الصعد.
وآن أوان القول في ما أعتقد إن أمور اللغة
بدءاً من النحو وانتهاءً بالترجمة الآلية بحاجة إلى قرارت سياسية مباشرة لا تمر
عبر دهاليز المؤسسات وكواليسها، كي لا تختنق بالبيروقراطية والروتين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق