تحت عنوان "الكماشة التركية في سوريا" نشرت جريدة الوطن
العمانية يوم 1/4/2015 مقالة كتبها الصحفي المصري: د. أحمد
مصطفى، وجاء فيها:
” تهتم
تركيا بأن تكون لها يد طولى في الصراع في سوريا، ليس من قبيل المبادئ والانسانية
كما تدعي التصريحات الرسمية لقادتها ولا حتى من باب “صد النفوذ الإيراني في
المنطقة” الذي تروجه أنقرة باعتبارها طرفا رئيسيا في محور “سني” مقابل نفوذ
“شيعي”، إنما بغرض حماية أمنها القومي بخلق حزام نار خارج حدودها الجنوبية
والجنوبية الشرقية…” بغض النظر عن التسميات والتوصيفات لتحالف شراذم
الجماعات المسلحة التي تمكنت في الأيام الأخيرة من السيطرة على ادلب شمال غرب
سوريا فإن الخلاصة الأساسية أن تلك “جبهة النصرة” المجرمة دوليا باعتبارها جماعة
إرهابية وسعت قوى اقليمية في الآونة الأخيرة لإعادة تأهيلها لتكون بديلا لما سميت
“قوات المعارضة السورية المعتدلة” التي فشلت حتى الآن في أن تكون أكثر من مجرد
مؤتمرات واجتماعات في فنادق الدول الاقليمية تستنزف أموال مساعدة المعارضة على قلب
نظام الحكم في دمشق. ومع سيطرة النصرة (المعدلة) على تلك النقطة في الشرق وسيطرة
داعش على الرقة في شمال الشرق يصبح شرق وغرب الشمال السوري في فكي كماشة للجماعات
المتطرفة التي تحصل على الدعم والمدد عبر تركيا. وفي سياق الوتيرة المحمومة للصراع
في المنطقة بين طرفين اقليميين ـ كانا سابقا ايران وتركيا، والآن ايران والسعودية
ـ تسعى تركيا لتحقيق أقصى فائدة ممكنة.
تهتم تركيا بأن تكون لها يد طولى في الصراع في
سوريا، ليس من قبيل المبادئ والانسانية كما تدعي التصريحات الرسمية لقادتها ولا
حتى من باب “صد النفوذ الإيراني في المنطقة” الذي تروجه أنقرة باعتبارها طرفا
رئيسيا في محور “سني” مقابل نفوذ “شيعي”، إنما بغرض حماية أمنها القومي بخلق حزام
نار خارج حدودها الجنوبية والجنوبية الشرقية تصدر إليه كل مخلفاتها من مشاكل
داخلية وفي مقدمتها المشكلة الكردية. لكن الناتج الجانبي للسياسة التركية في سوريا
(وإلى حد ما في العراق) هو تعزيز خط الصراع الطائفي في المنطقة الذي لا يمكن إلا
أن يكون مفيدا للغرب واسرائيل. مع ذلك يجد هذا التوجه الدعم والتمويل من دول عربية
ترى أن هناك مصلحة مشتركة مع التوجه التركي، دون أدنى حساب لتبعات ذلك القريبة جدا
وكأننا لا نتعلم من أحدث الدروس التي ما تزال حية في الأذهان.
ولا يمكن فصل ما يجري في سوريا عن بقية
الصراعات في المنطقة، وحتى منها ما هو في شمال افريقيا ـ بكثافة في ليبيا وبدرجة
أقل في مصر وتونس وغيرها. ويبدو أن معسكر دعم وتعزيز وتمويل وتأجيج الصراع الطائفي
يكسب مؤقتا، وهو يحسب أن تلك مكاسب ستحافظ على مصالحه دون أن يدرك انه يشعل حريقا
لا بد وأن يصيبه منه طرفا طال الزمن أم قصر. وفي تلك الحالة ستكون تركيا مستفيدا
خالصا، لأن ما تروجه محض ادعاءات إنما الحقيقة في مواقفها هي مصالحها الوطنية
والقومية بغض النظر عن الدول والإقليم والطائفة والأمة ـ حسب مصطلحات المتاجرين
بالدين. ان تمكين النفوذ التركي من سوريا قد يؤدي إلى اسقاط النظام كما ترغب بعض
القوى الإقليمية التي “تشخصن” السياسة والصراعات، لكنه ايضا قد يطلق شرارة موجة
جديدة من الاضطرابات في المنطقة لن تقتصر على هذه المرة على احتجاجات سياسية
للتغيير كما حدث في موجة ما سمي “الربيع العربي” بل قد تكون شرارة نار تشعل حريقا
منخفض القوة طويل الأمد يوفر للغرب واسرائيل فرصة حماية مصالحهم بأقل قدر ممكن من
التورط المباشر.
ومنذ بدأ الأميركيون استراتيجية “فك الارتباط”
مع العالم، وفي القلب منه منطقتنا، في الفترة الرئاسية الثانية لجورج بوش
الابن وهم يرتبون الحفاظ على مصالحهم عبر قوى وأطراف محلية واقليمية ـ أو وضع
اقليمي مناسب لذلك. وليس افضل من نيران الطائفية مناخا للانسحاب من التدخل
المباشر، وهي فرصة ايضا لكل الأطراف في المنطقة للتباري في كونها “الراعي الرئيسي”
للمصالح الأميركية والغربية. وما لم يفهمه العرب للأسف، هو أن رعاية المصالح
الأميركية لا تعني بالضرورة ـ خاصة في سياق فك الارتباط الأميركي بالعالم ـ مصلحة
لهم، بل على العكس قد يكون ذلك مناقضا تماما لمصالحهم الاستراتيجية. وإذا كان
تطابق المصالح (أو تقاطعها) في فترات التواجد الأميركي النشط مفهوما فإنه يصبح
خبلا في حالة فك الارتباط. ربما كانت تركيا وإيران القوتين الاقليميتين الوحيدتين
اللتين تفهمان ذلك بشكل جلي وتتصرفان على اساسه. فإيران تريد ترتيبا مع الأميركيين
ـ عبر اتفاق النووي وسياقه الأوسع ـ لتعزز وضعها الاقليمي في المنطقة ضمن
استراتيجية فك الارتباط الأميركية. وتركيا تتأرجح بين تقاسم النفوذ مع إيران تارة،
وبين التعويل على بقية الدول العربية لن يكون ممكنا استغناء الأميركيين عنها تماما.
الواضح الان للأتراك أن لعب دور اقليمي
بالتقاطع مع إيران لن يوفر لهم المنافع التي يمكن ان يحصلوا عليها لو اعتمدوا
الخيار الثاني، وهكذا يمكن فهم ما يجري الآن في سوريا من كماشة في الشمال أذرعها
المحركة في تركيا وزيتها ودعم وقودها عربي في المقام الأول. ولن يحتاج الأمر
لمؤامرات ولا دسائس لينطلق ما هو متوقع: حرب نفوذ بين داعش والنصرة، أي بين الرقة
وإدلب. وهنا تستفيد تركيا بشكل مزدوج: أولا من تمويل ودعم الطرفين (لأن كل الأموال
والمتطوعين والعتاد يمر عبرها وتكسب منه، ولأن في اقتتال الطرفين إضعاف لكليهما
بما لا يجعلهما قادرين على أي تهديد عبر الحدود) وثانيا لأن هذا الوضع يتيح لأنقرة
تدخلا دائما في شمال سوريا بشكل حصري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق