طشقند: 21/12/2016 أعدها
للنشر أ.د. محمد البخاري. تحت عنوان "بعد رحيل رسام الوجوه.. نذير
إسماعيل … عاش يتيماً وأسهم في صناعة الفكرة البصرية في اللوحة وكان مبدع
الوجوه صامتة الملامح" نشرت صحيفة الوطن يوم 23/10/2016 مقالة كتبتها: سوسن صيداوي، وجاء فيها:
نحن في وقت غلبت فيه كفة الوداع
على كفة الترحيب واللقاء بعد طول الغياب، ومن الطبيعي في زمن كهذا؟ أن تكون النظرة
الكاملة متجلّية بحزن عميق مرافق له الدمعة، فكيف هذا وسورية تودّع أبناءها؟ مرّ
أسبوع على وداع الفنان التشكيلي نذير إسماعيل الذي اعتنق دمشق مذهباً منذ
أن وُلد، رافضاً وداعها حتى النفس الأخير، وكان إسماعيل صادقاً في عهده،
وهذا ليس بغريب مادام من مواليد دمشق 17 شباط 1948، ورحل عنّا في يوم 12 تشرين
الأول 2016، عن عمر ناهز 68 عاماً، إثر انتكاسة صحية حادّة ألزمته المشفى في
الأيام الأخيرة، وكان نعاه «اتحاد الفنانين التشكيليين السوريين»، قائلاً إن
الفنان الراحل «تميّز بغنى فريد في بحثه الدائم عن تقنيات جديدة تخدم تجربته
التشكيلية التي يختزل من خلالها تعابير إنسانية مختلفة ومتناقضة يظهر فيها إحساسه
بالمحيط وكيفية ترجمته لكل ذلك من خلال رسم الوجوه التي أصبحت علامة فارقة لأعمال
هذا الفنان».
البدايات
هناك أمور تكون محوراً في حياتنا
ووجودنا لا تكون محض مصادفة فهي حاضرة لسبب، انتقال الفنان التشكيلي إسماعيل
إلى بيروت في الستينيات وإقامته فيها لمدة سبع سنوات، بالإضافة إلى النصائح
المضيئة التي قدّمها له الفنان الراحل فاتح المدّرس، خلال عمل الفنان إسماعيل
على الرسم بالأبيض والأسود لعشرة سنوات، ملتزماً بجدية لا يمكن أن تتوانى مهما
كانت الظروف خلال ساعات عمل طويلة مخصّصة للرسم وتأمل الحياة، رغم أن لجنة المعارض
في وزارة الثقافة السورية في ذلك الوقت، رفضت إشراك أعماله في معرضها السنوي الأول
في ستينيات القرن الماضي، إلا أنه واصل شغله الدؤوب بعناد وإصرار كبيرين مع ظرف
انتقاله إلى بيروت مانحاً نفسه مجال الاطلاع على النشاط التشكيلي هناك، وخصوصاً
أنه كان في بيروت 22 صالة عرض في وقت كانت تفتقر فيه دمشق لمثل هذه الصالات،
وبالنتيجة كان أول معرض أقامه في بيروت في غاليري «ون» للفنان يوسف الخال
وأول مرة عُرض في دمشق عام 1966، ومن وقتها حتى عام 1987 تفرّغ إسماعيل
للعمل الفني مغنياً الفن التشكيلي السوري بوجوه تميّزت بعمق الشعور وإبداع
الأسلوب.
رسومه وأسلوبه
قرر الطفل الذي كان شغوفاً بصناعة
البسط اليدوية قرب بيته في حي الميدان الدمشقي، وخاصة بعد أن صنع اللون سحره في
نفسه، تعلّم الفن على يديه من دون الالتحاق بدراسة أكاديمية، مكتفياً بالمرور
بـ«مركز الفنون التطبيقية» كي يدرس فن الطباعة على القماش، هذه كانت في الطفولة
وريعان الشباب ولكن في أوائل السبعينيات تعرّف الوسط الفني على أعمال إسماعيل التي
تميّزت منذ اللحظة الأولى بأسلوبه الناضج، مذّكرة بالكتابة الأولى الناضجة لزكريا
تامر، فشخوصه كانت مهمّشة جداً لا هوية لها، لا تعبّر عن أي انفعال، وكان يرسم
الكائن الإنسانيّ نحيلاً شاحبًا، من أجل تأكيد عزلته ووحدته، ويرسمهم واقفين،
ناظرين إلى المُشاهد، وجوههم لا تحمل أي ألم أو إحساس ولا حتى احتجاج أو حتى عتب،
كان يرسمهم بتقنية الشمع المحروق هذه التقنية التي تتطابق مع ما يواجهونه، فشخوصه
بنظره، محروقة بضغوطات العالم الحديدي حولهم.
كان نذير بعيداً عن فلسفة
أعماله، إذ كان يرسم ويرسم ويرسم، تاركاً للرسم أن يصنع سواد عالمه قائلاً إن
أعماله هي شهادته على الزمن الذي يعيش فيه. وكان كتب الفنان الراحل نعيم
إسماعيل، حول معرض نذير الأول «من قرانا المنسية تأتي الريح شاحبة
كئيبة، في هذه القرى منازل يسكنها بشر، هادئة كالتراب لكنها ليست صماء، تحكي قصصاً
مخنوقة عن القحط والعطش والضجر، وفي أعماقها كلّ الحب وكل التحدي، نفوسنا تحب
العطاء، ولكن ما يمكننا إعطاؤه قليل ويا للأسف! حياتنا هناك مختصرة وأبسط من
بسيطة، بخيوط قليلة وألوان أقلّ، عفوية كالمشي والتنفس والخوف، لأننا في قرانا
النائية والمنسية نعيش بالحد الأدنى من وسائل العيش، وبالحد الأدنى من وسائل
الرسم.. نرسم».
ففي هذه المرحلة كان الفنان الراحل
يشتغل على الطبيعة الصّامتة بأسلوبه الخاص في التعامل مع الطبيعة بوصفها منمنمة
هندسية، الأمر الذي جعل العناصر التشكيلية تطغى على الخلفية، ضمن توجّه لا يخلو من
لمسة صوفية.
لم يعرف أباه
كان ذكر الفنان مرةً سبب اهتمامه
بالوجوه وبأنها موضوعه الأساسي في رسمه قائلاً «الوجه هو الموضوع الأساسي في فني
وربما يعود اهتمامي بالوجوه لأنني لم أعرف أبي إلا من خلال صورة له، ولأني عشت
يتيماً، فتراكم هذه المشاعر جعلني أتوجه إلى رسم الوجوه الصامتة من دون تحديد ما
إذا كان رجلاً أو امرأة».
نظرة لفنان
بنظر الكثير من الفنانين يعتبر
الفنان التشكيلي نذير إسماعيل فناناً مجدّاً وخلاقاً في العمل، لأنه دائم
البحث في التقنية ساعيّاً بشكل دائم لاستخدام أساليب وطرق غير تقليدية في التلوين،
وهذا بعد أن أوجد بدائل من خلال تصنيع المواد والأدوات اللازمة لإنجاز اللوحة ما
جعل في النهاية إضافاته هذه تدخل في عملية الإبداع لديه، هذا بالإضافة لما يعتبره
الكثير من الفنانين الزملاء والناقدين بأن مخزون الذاكرة للفنان الراحل كان يخزّن
الكثير من العناصر أو الملامح الموجودة في الحياة، هذا إلى جانب الإجادة في
توضّعها في العمل، ففي اللوحة الواحدة نجد مثلاً أكثر من عشرة أشخاص، ويتميّز كل
واحد منهم بحالة تعبير أو استقراء لما يراه الشخص نفسه لما هو محيط، وبالتالي
يتميز الراحل في أعماله بطريقة صادقة مشابهة لشخصه فهو لا يقدّم أعمالاً بطريقة
بانورامية تبرز عضلات الفنان، بل قدّم استقراء ذاتياً لحالة استطاع أن يقدّمها في
فهرسه الفني.
وبحسب ما قاله مرة الفنان الراحل «أنا أسهمت في صناعة الفكرة البصرية باللوحة، من خلال ما أقوم به من تجميع للأفكار وبلورة ملامح، فالخطوط في أعمالي فيها الكثير من الغرافيك إضافة إلى الملوّنات والأحبار التي أقوم بصناعتها، وخاصة أن الألوان ليست معلّبة بل استعاريّة وهذه الاستعارة أستغلها لمصلحة أعمالي بخياطة المنسوج الخطي أو اللوني بأشكال تتوافق مع العناصر التي أعمل عليها وخلالها».
وبحسب ما قاله مرة الفنان الراحل «أنا أسهمت في صناعة الفكرة البصرية باللوحة، من خلال ما أقوم به من تجميع للأفكار وبلورة ملامح، فالخطوط في أعمالي فيها الكثير من الغرافيك إضافة إلى الملوّنات والأحبار التي أقوم بصناعتها، وخاصة أن الألوان ليست معلّبة بل استعاريّة وهذه الاستعارة أستغلها لمصلحة أعمالي بخياطة المنسوج الخطي أو اللوني بأشكال تتوافق مع العناصر التي أعمل عليها وخلالها».
معارض وجوائز
باعتباره الفنان
التشكيلي نذير إسماعيل من فناني القرون الماضية، الخامس عشر والسادس عشر
والسابع عشر، كان قدّم خلال مسيرته أكثر من 62 معرضاً شخصياً في العديد من المدن
السورية كحلب وحمص، والمدن العربية كالقاهرة ودبي والشارقة والدوحة، والعالمية
كباريس وجنيف، وأقام معارض لاستعادة أعماله القديمة من 1969 إلى 1996 في معهد غوته
في دمشق، بالإضافة إلى مشاركته في مئات المعارض الجماعية حول العالم، وبخصوص هذا
الأمر كان بيّن إسماعيل مرةً، أنه وعلى الرغم من أنه أقام خمسين معرضاً
شخصياً في دول مختلفة من العالم، إلا أنه لا يزال يعتبر نفسه في طور التجريب،
معتبراً أعماله سجلاً لتجارب فاشلة، تمثّل حافزاً لعمل شيء مختلف في كل يوم.
كما حصل إسماعيل
على العديد من الجوائز الفنية من أبرزها: الجائزة الثالثة للفنانين الشباب للعام
1971 في دمشق، وجائزة إنترغرافيك برلين 1980، والجائزة الثالثة «لبينالي» الشارقة
1996، كما يعتبره الكثيرون من أهم التشكيليين العرب الذين كان جمال البورتريه محور
مشاريعهم الفنية، والجدير بالذكر أن أعماله مقتناة من وزارة الثقافة السورية،
المتحف الوطني بدمشق، متحف دمّر، المتحف الملكي بعمان- الأردن، قصر الشعب- سورية،
المتحف الوطني بقطر، والعديد من المجموعات الخاصة في كثير من دول العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق