الخميس، 11 مارس 2010

الإعلام وتحليل المضمون الإعلامي


الإعلام وتحليل المضمون الإعلامي

تأليف: أ.د. محمد البخاري: دكتوراه في العلوم السياسية DC، اختصاص: الثقافة السياسية والأيديولوجية، والقضايا السياسية للنظم الدولية وتطور العولمة، دكتوراه فلسفة في الأدب PhD، بروفيسور قسم العلاقات العامة والإعلان، كلية الصحافة بجامعة ميرزة أولوغ بيك القومية الأوزبكية. في طشقند عام 2009.

المقدمة: يعتبر التبادل الإعلامي الدولي وتحليل المضمون الإعلامي من أكثر الموضوعات إثارة للاهتمام، نظراً للإمكانيات الهائلة القائمة والمحتملة لعملية التبادل الإعلامي الدولي على ضوء التطور الهائل الحاصل في مجال تقنيات الاتصال الإلكترونية الحديثة التي تستخدمها وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الدولية فعلاً لمخاطبة العقول أينما كانـت، ومهما تباينت، وبأية لغة تفهمها، وسمحت تقنيات الاتصال الحديثة للتدفق الإعلامي الدولي أن يكون تبادلاً إعلامياً دولياً تسيطر عليه الدول المتطورة بفضل إمكانياتها المادية والعلمية والتقنية. ولو أن أية دولة أو أية جماعة مهما كان حجمها وإمكانياتها تستطيع ولوج عالم التبادل الإعلامي الدولي بالحرف والصوت والصورة دون عوائق تذكر، وقد التفتت حكومات الدول والتجمعات الدولية اليوم إلى حقيقة الثورة المعلوماتية من خلال التركيز على أهداف ووظائف التبادل الإعلامي الدولي، وردم الهوة بين الدول المتطورة والغنية، والدول الأقل تطوراً والمتخلفة والفقيرة. وغدى الإعلام مدخلاً لدراسة مشاكل تحليل المضمون الإعلامي والتبادل الإعلامي الدولي، وقضايا الإعلام والاتصال الجماهيري، والسعي لإقرار نظام عالمي جديد للتبادل الإعلامي الدولي، يهدف أساساً إلى الحد من اختلال التوازن بين الدول المتقدمة والدول النامية، ليجعل من التبادل الإعلامي الدولي المفتوح والايجابي مجالاً للحوار بين الأمم والثقافات والحضارات.

وبقي دور الدولة كما كان منذ القدم العنصر الأساسي في العلاقات الدولية رغم التأثير الواضح الذي بدرت ظواهره تزداد وضوحاً كل يوم، من خلال تأثير وسائل الاتصال والمعلوماتية المتطورة في عملية التبادل الإعلامي الدولي، لأن مفهوم قوة الدولة على الساحة الدولية، كان ولم يزل مرتبطاً منذ البداية بقوة وتماسك الدولة من الداخل، تعززه وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الوطنية من خلال تأثيرها على الجمهور الإعلامي وتكوينها للرأي العام.

وشمل تأثير الثورة المعلوماتية الدولة سلباً بكل مكوناتها من حدود سياسية معترف بها، وشعب وحكومة ومصالح وطنية. وأصبحت السيطرة على عملية تدفق المعلومات شبه مستحيلة بعد أن تحولت المعلومات إلى عناصر غير ملموسة وغير مرئية يسهل تنقلها واختراقها لأي حدود سياسية أو جغرافية كانت، مهما بلغت نوعية وكمية ودرجة إجراءات الحماية ضد الاختراقات الإعلامية الحديثة. وتقلص البعد الجغرافي، وزال الفاصل الزمني، وأصبحت تقنيات الاتصال الحديثة تقفز من فوق الحواجز وتخرقها. وما كان مستحيلاً في عالم الاتصال بالأمس، أصبح اليوم واقعاً ملموساً، وكأن مصدر المعلومات والقائم بالاتصال والجمهور الإعلامي مهما باعدت المسافة الجغرافية بينهم داخل ساحة إعلامية واحدة تعجز الدول عن التحكم بها، مما ترك بدوره أثاراً بالغة على الشعور الوطني والتماسك الاجتماعي والولاء للدولة من قبل المواطنين المنتمين للدول المعرضة للاختراق الإعلامي.

ولهذا أقدم للقارئ العربي والباحث والطالب والمهتم، كتابي "الإعلام وتحليل المضمون الإعلامي"، كمحاولة مني لتسليط الضوء على تطور الأبحاث الإعلامية واتجاهاتها الحديثة؛ وأبحاث الاتصال؛ وتطور أبحاث الإعلام والاتصال؛ وتطور الدراسات الإعلامية العلمية واتجاهاتها؛ والاتجاه النظري الفلسفي للدراسات الإعلامية؛ والاتجاه السياسي للدراسات الإعلامية؛ والاتجاه السيكولوجي الاجتماعي للدراسات الإعلامية؛ ونماذج عملية الاتصال الجماهيري؛ وتعريف الاتصال؛ وتعريف جماهيري؛ وتعريف عملية الاتصال؛ ووظائف الاتصال الأساسية؛ وأهداف الفرد من عملية الاتصال؛ وطبيعة تأثير الرسالة الإعلامية؛ وطبيعة نماذج الاتصال؛ ووظائف النماذج؛ والوظيفة التنظيمية لنماذج دراسة عملية الاتصال؛ وأن النماذج تعمل على تطوير الأبحاث العلمية؛ ووظيفة التنبؤ؛ ووظيفة التحكم؛ وصعوبات تصميم نماذج عملية الاتصال؛ والأنواع المختلفة لنماذج عملية الاتصال؛ ونماذج الاتصال الذاتي؛ وخلفية عملية الإدراك واكتساب المعاني؛ وتأثير اللغة؛ ونموذج وايزمان وباركر؛ ونموذج صامويل بويس؛ ونموذج بولدينج؛ ونموذج بارنلند؛ ونموذج الإنسان كمركز لتنسيق المعلومات؛ ونماذج الاتصال بين فردين؛ وعلم التحكم الأوتوماتيكي؛ ونموذج ديفيد برلو؛ ونموذج الاتصال في الإطار الشخصي (نموذج التعلم)؛ ونموذج بارنلند للاتصال بين فردين؛ ونموذج وستلي وماكلين؛ ونماذج الاتصال الجماهيري؛ ونموذج ولبر شرام؛ ونموذج تشارلس رايت التحليل الوظيفي والاتصال الجماهيري؛ والنتائج المطلوبة وغير المطلوبة من نشر المواد الإعلامية على الفرد والمجتمع؛ ونموذج ملفن دوفلور وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية كأنظمة اجتماعية؛ والتحليل الوظيفي؛ والنماذج التفسيرية؛ ونموذج التوازن في الاتصال؛ ونموذج التوازن عند فريتز هيدر؛ وعملية الاتصال في نموذج تيودور نيو كومب؛ ونموذج الاتفاق عند أسجود وتاننباوم؛ وموضوع الائتلاف (التوافق)؛ ومسار التغيير الذي يحقق أو لا يحقق التآلف (الاتفاق)؛ ومدى الضغط اللازم لتحقيق التآلف؛ ونموذج التعارض في المعرفة؛ وظرف فرض الخضوع؛ وظرف التعرض الانتقائي للمعلومات؛ وظرف التأييد الاجتماعي؛ والإقناع في نموذج كرونكيت؛ ونموذج شريف وهوفلاند عن الحكم الاجتماعي؛ ونموذج تحصين المتلقي ضد الإعلام المضاد؛ مقارنة نماذج الإدراك المعرفي؛ والقائم بالاتصال؛ ونظرية حارس البوابة الإعلامية؛ ودراسات القائم بالاتصال؛ ونموذج تصور القوى الاجتماعية والسيكولوجية المؤثرة على اختيار القائم بالاتصال للمادة الإعلامية؛ ودور وسائل الإعلام الجماهيرية في المحافظة على القيم الاجتماعية وتحقيق الانصهار الثقافي والاجتماعي في المجتمع؛ والقائمون بالاتصال والمصادر الإعلامية؛ وقادة الرأي من وسائل الإعلام الجماهيرية؛ وتأثير الضغوط المهنية على القائم بالاتصال؛ وتأثير الجمهور الإعلامي وسائل الإعلام الجماهيرية؛ ووظائف وسائل الإعلام الجماهيرية؛ وتفاوت القدرة الإقناعية لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية؛ والخصائص المميزة لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية؛ وتأثير وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية على المجتمع؛ وعناصر انتقال المعلومات على مرحلتين؛ ومضمون المادة الإعلامية؛ والإستمالات العاطفية، والإستمالات المنطقية؛ وإستمالات التخويف؛ والعوامل التي تؤثر على إثارة التوتر العاطفي؛ ومضمون الرسالة وأسلوب تقديمها؛ والمصدر الإعلامي؛ وعناصر تصديق المصدر؛ وجمهور وسائل الإعلام الجماهيرية؛ وأهمية دراسة جمهور وسائل الإعلام الجماهيرية؛ وخصائص الشخصية. ولإعداد هذا الكتاب استخدمت أعمال منشورة لباحثين عرب وأجانب منها باللغة العربية: الإعلام الدولي دراسات في الاتصال والدعاية الدولية. للدكتور أحمد بدر الدين؛ وبين الإنسان والآلة السيبرناطيقا في داخلنا. لإيلينا ساربارينا. ترجمة: صبحي أبو السعر؛ والأسس العلمية لنظريات الإعلام. للدكتورة جيهان أحمد رشتي؛ ومستقبل الجمهور المتلقي. لرسل نيومان. ترجمة: محمد جمول؛ والسبرنتيك وأصل الإعلام. لريمون رويه. ترجمة: الدكتور عادل العوا؛ والحاسوب الخارق لعبد الرحمن الحلبي؛ والأمن الإعلامي العربي وهموم المجتمع المعلوماتي في عصر العولمة. والعولمة والتبادل الإعلامي الدولي. للدكتور صابر فلحوط، والدكتور محمد البخاري؛ وتقارب وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية. ومراحل تكون الصحافة الدولية. والصحافة الدولية والتبادل الإعلامي الدولي. ومحاضرات في الدراسات الإعلامية وتحليل المضمون الإعلامي. ومبادئ الصحافة الدولية والتبادل الإعلامي الدولي. وأهمية البحث العلمي لتطوير الأداء الإعلامي. والإعلام وتحديات العولمة في الدول الأقل حظاً. للأستاذ الدكتور محمد البخاري؛ وكيف سيثّور العلم القرن الواحد والعشرين. لميشيو كاكو: ترجمة وتقديم: عدنان عضيمة؛ والعولمة بين الحقائق والأوهام للدكتورة هدى راغب عوض؛ والإعلام والاتصال بالجماهير. لإبراهيم إمام؛ ونظريات الاتصال والإعلام الجماهيري. لإبراهيم الساعدي؛ والمنظور الاجتماعي للاتصال الجماهيري. لتشارلز. ر. رايت: ترجمة: محمد فتحي؛ ومدخل في سياسة الإعلام العربي والاتصال. للدكتور جبار عودة العبيدي، وهادي حسن عليوي؛ وأبحاث في نظرية الاتصال والتفاعل السلوكي. للدكتور حامد ربيع؛ ووسائل الإعلام والإعلان وصف نظري للعلاقة والتأثير. لعبد العزيز حمد عبد الله الحسن؛ والنظريات الإعلامية المعيارية ماذا بعد نظريات الصحافة الأربع. لعثمان الأخضر العربي؛ وصناعة العقل في عصر الشاشة. للدكتور محمد فلحي؛ وأجهزة الإعلام والتنمية الوطنية. لولبر شرام. ترجمة: محمد فتحي؛ ومدخل إلى علم الاتصال. للدكتور يوسف مرزوق. وغيرها في محاولة لسد شيء من الفراغ الذي تعاني منه المكتبات في هذا المجال الهام.

تطور الأبحاث الإعلامية واتجاهاتها الحديثة: ازدادت أهمية المعلوماتية وتقنياتها في العصر الحديث بشكل كبير، بفضل تطور وسائل الاتصال وتقنياتها الحديثة. فالمعلومات أصبحت تحيط بنا في كل مكان وزمان ومن كل اتجاه حتى أصبحت طبقة تحيط بالكرة الأرضية كالغشاء الهوائي الذي يوفر لنا الحياة، طبقة تعود الإنسان عليها حتى كاد ينساها أو يجهل وجودها، عدا قلة من خبراء الاتصال والإعلام الذين يتعاملون مع هذه الطبقة المعلوماتية ويدركون مدى فاعليتها وتأثيرها. وقد أطلق خبير الاتصال بيير تايلهارد على هذه الطبقة المعلوماتية التي تحيط بالكرة الأرضية اسم الـ"نوسفير"، ويستفيد الإنسان المعاصر من هذه الطبقة متلقياً سيلاَ من المعلومات تتضمن حقائق وآراء مختلفة يستخدمها في مواقف اتصالية يدخل فيها مع آخرين كمتحدث ومستمع، ولكنه لا يؤثر في عملية الاتصال كغيره من الفئات الاجتماعية الأكثر تأثيراً في عملية الاتصال كالمفكرين والصحفيين والكتاب والسياسيين ورجال الدين والأساتذة والمعلنين الذين يعطون من خلال وسائل الاتصال والإعلام أفكاراً ومعلومات معينة في مواقف اتصالية أكثر مما يأخذون من معلومات، بحكم أدوارهم الاجتماعية التي تسمح لهم بالتأثير وتوجيه تفكير غيرهم من الناس.

وأصبح الاتصال اليوم حقيقة طاغية في حياتنا اليومية المعاصرة، وأصبح الناس أداة فاعلة في عملية الاتصال المستمرة على مدار اليوم مرسلين ومستقبلين على حد سواء بفضل تقنيات الاتصال الحديثة التي حولت العالم بأسره من خلال عمليات الاتصال المباشرة والمعقدة إلى ما يشبه قرية الأمس، قرية كونية لم تعد تعترف لا بالحدود الجغرافية ولا بالحدود السياسية لمختلف الدول في العالم. وفرض تطور تقنيات الاتصال الحديثة على الإنسان المعاصر تعلم مهارات جديدة لم يكن بحاجة لتعلمها قبل عدة عقود فقط، وأصبحت ضرورية لمواكبة العصر واستخدام وسائل الاتصال الحديثة المعقدة حتى في اتصالاته الشخصية عبر شبكات الحاسبات الإلكترونية (الكمبيوتر) التي جعلت من الاتصال عملية سريعة وفورية وسهلة بالاتجاهين. ومع تزايد أهمية الاتصال في حياتنا اليومية المعاصرة، ازدادت أهمية أبحاث الاتصال. فما هي أبحاث الاتصال ؟

أبحاث الاتصال: يميل بعض علماء الاجتماع إلى التفريق بين الأبحاث الصحفية، والأبحاث الإعلامية رغم امتداد الدراسات التي استهدفت الصحافة خلال القرن العشرين إلى سائر مجالات الإعلام وقنواته انطلاقاً من مفهوم وحدة الفنون الصحفية والإعلامية رغم تشعبها. ورغم اهتمام بعض المعاهد الصحفية في العالم بدراسة مجال واحد من المجالات الإعلامية، كدراسة الإذاعة المرئية أو المسموعة، أو الصحافة المطبوعة، أو الاتصال الشخصي كل على حدى. إلا أننا نعتبر أن مثل هذه الدراسات الناقصة لا تلبي حاجة البحث العلمي في مجال الاتصال والإعلام بشكله الملائم والمطلوب في القرن الواحد العشرين، في زمن تشعبت فيه قنوات الاتصال وتداخلت من خلال شبكات الاتصال الحديثة سمة الحقبة الأخيرة من القرن العشرين.

فالأسلوب العلمي الصحيح اليوم يربط بين أساليب الاتصال وتقنياته الحديثة كوحدة واحدة تتلاقى فيها قنوات الإعلام أصولاً وفروعاً. رغم التقسيم الذي سار عليه بعض الباحثين حينما فرقوا بين الأبحاث الصحفية، وحاولوا حصرها بدراسة وسائل الإعلام أو الرسائل الإعلامية فقط، بينما حاول البعض الآخر حصر أبحاث الإتصال بعملية الاتصال فقط. لأنه من الصعب جداً دراسة وسائل الإعلام الجماهيرية دون الاهتمام بعمليات الإتصال والمواقف الاتصالية التي يتم من خلالها توجيه وتبادل المعلومات. فأي بحث يتناول الإتصال يجب أن يهتم بالجانبين معاً. فنحن لا نستطيع فهم ما تنشره وما تنقله أو تذيعه أو تبثه وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، دون أن ندرك عملية الإتصال، وكيف يؤثر مضمون وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية على الأفراد والجماعات المختلفة.

وحينما نحاول أن نعرِّف المادة الإعلامية نجد صعوبة بالغة في وضع حدود واضحة تحدد الأبحاث الإعلامية وتميزها عن غيرها من أبحاث العلوم الإنسانية. فأهداف واهتمامات أبحاث الإتصال واسعة جداً، لأنها لا تدرس وسائل الإتصال والإعلام فقط، بل تتعداها لدراسة عمليات الإتصال. وهذا يحتم علينا الاهتمام بعلوم إنسانية أخرى منها التربية، وعلم النفس الفردي، وعلم النفس الاجتماعي، والاقتصاد، والأنثروبولوجيا، والقانون، والستسيولوجيا، والسياسة... الخ، فالصحافة أو الإعلام يشارك العلوم الإنسانية مسؤولية الكشف عن مختلف أوجه المشاكل التي تتضمنها عملية الإتصال في مختلف مراحلها.

ولقد أدرك علماء الإتصال منذ أواسط القرن العشرين، حقيقة أنه لا يمكن فهم الإتصال عن طريق وسائل الإعلام الجماهيرية بدون فهم عملية الإتصال المباشر بين شخص وآخر، وعملية الإتصال داخل الجماعة الصغيرة. فبدون إدراك وفهم عملية الإتصال الفردي، والاتصال داخل الجماعة الصغيرة، لا يمكن فهم عملية الإتصال عن طريق مؤسسات ووسائل الإعلام الجماهيرية، ولا نستطيع كذلك تقدير تأثير تلك المؤسسات والوسائل.

ومن المسلم به أن فهم ودراسة وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية هي من مسؤولية المختصين في شؤون الإعلام أساساً، ولكننا لا نستطيع أن ننكر اشتراك علماء السياسة والاقتصاد والمجتمع في هذه المسؤولية بشكل أو بآخر. ولكن المسؤولية تبقى أساساً على عاتق المختصين في الاتصال والإعلام المسؤولين عن دراسة عمليات الإتصال الجماهيرية، والتعرف على تنظيم مؤسسات الإتصال والإعلام الجماهيرية، وأساليب السيطرة الاجتماعية عليها، ومركز تلك المؤسسات في التنظيم الاجتماعي بشكل عام، ووظيفة تلك المؤسسات وجمهورها ومسؤوليتها، وطريقة اضطلاعها بتلك المسؤوليات، ودراسة طبيعة تأثير تلك المؤسسات. واكتشاف السبل لتحقيق فاعلية الاتصال والإعلام، واختيار أنجع الوسائل، والتعرف على طبيعة كل وسيلة منها. وطبيعة الجمهور المتلقي، ومشاكل نقل المعاني والرموز عبر وسيلة الإتصال.

تطور أبحاث الإعلام والاتصال: يمر التطور التاريخي لأي علم من العلوم الحديثة، بمراحل تطور متشابهة تبدأ من المرحلة الفلسفية التي ينصب الاهتمام فيها على تحديد المسارات الأساسية، وتكوين مفاهيم كلية وافتراضات أساسية، وتحديد طرق وأساليب البحث العلمي، بشكل يمكن بواسطتها جمع المعلومات والحقائق عن العلم المقصود. وتنتهي هذه المرحلة عند التوصل إلى اتفاق عام على بعض المبادئ والافتراضات الأساسية وبعض طرق وأساليب البحث العلمي.

وينتقل الاهتمام في المرحلة الثانية إلى تطبيق أساليب جديدة للبحث، مهمتها قياس صحة الافتراضات التي تم الاتفاق عليها في المرحلة الأولى الفلسفية، يرافقها تجميع حقائق مفصلة عن تلك الافتراضات. وتنتهي المراحل التجريبية بجمع جملة من الحقائق تستخدم في بناء نظرية علمية محددة، وهي المرحلة الثالثة التي تتابع فيها الأبحاث والتجارب وتؤدي إلى تطور البحث العلمي والوصول إلى نتائج جديدة ومقترحات تؤدي للوصول إلى نظريات علمية جديدة.

وقد بدأت الأبحاث العلمية في أوروبا وانتقلت منها إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال عشرينات القرن العشرين، وركزت الأبحاث الأولى على دراسة وصفية لتاريخ الصحافة، والشخصيات الصحفية التي قامت بإصدار وتحرير صحف كل مرحلة من المراحل المدروسة، وركزت الأبحاث التي جرت خلال تلك المرحلة على مفاهيم فلسفية معينة كحرية الصحافة وحق الأفراد في نشر آرائهم بدون تدخل السلطات، ودور الصحافة في المجتمع وغيرها من الاهتمامات العلمية. وظهرت في المرحلة التالية دراسات علمية اعتمدت على نتائج الأبحاث التجريبية والميدانية الكمية وأعطت دراسات موضوعية بعيدة عن تحيز الباحث معتمدة على حقائق علمية ثابتة، واستخدمت أساليب القياس والتجربة للوصول إلى نتائج علمية مقنعة. وبالنتيجة توصل العلماء إلى تكوين نظرية علمية تم تطويرها خلال خمسينات وستينات القرن العشرين. وتوسع البحث العلمي بعد ذلك في مجال الاتصال ليشمل دراسات في الإعلام الدولي وطبيعة الإعلام في الدول الأخرى وخاصة تلك التي تختلف مع الولايات المتحدة الأمريكية إيديولوجياً، أو التي تدخل ضمن مجال اهتمامات سياستها الخارجية والمصالح الأمريكية في العالم بشكل عام. ورافق تطور الأبحاث العلمية في مجال الإعلام اهتمام علماء السياسة والاقتصاد والمجتمع وعلم النفس والأنثروبولوجيا بعلوم الإتصال، وساهموا في تطويرها وبناء نظريات ومفاهيم أساسية لعلم الاتصال مما أعطى الدراسات الإعلامية طابعاً متميزاً ساهم في اتساعها وشموليتها وإثرائها خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

تطور الدراسات الإعلامية العلمية واتجاهاتها: الاتجاه النظري الفلسفي للدراسات الإعلامية: استخدم اصطلاح "أبحاث الإتصال الجماهيري في مطلع ثلاثينات القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية. ولكننا لا نستطيع اعتبار هذا التاريخ بداية للأبحاث العلمية في مجال علوم الاتصال والإعلام. لأن الاهتمام بفهم وتفسير عملية الإتصال بدأ قبل ذلك بكثير. فأرسطو (284-322 ق.م) مثلاً عرَّف في كتابه "فن البلاغة"، دراسة البلاغة (أي الاتصال بمفهوم اليوم) بأنه: " البحث عن جميع وسائل الإقناع المتوافرة"، وحدد عملية الإتصال بالمواقف التالية: 1- متحدث، 2- حديث، 3- مستمع. في الوقت الذي كان فيه الاتصال الجماهيري يعتمد على فن الخطابة لتحقيق أغراض الاتصال السياسي في المدينة الإغريقية الصغيرة. ولم تخرج النماذج الاتصالية فيما بعد عن الإطار العام الذي وضعه وسار عليه أرسطو.

أما بدايات الاهتمام بالأبحاث الإعلامية العلمية فتعود لأوائل القرن العشرين، حين بدأت كما وسبق وأشرنا بالدراسات التاريخية والفلسفية والقانونية والأدبية. ورافق ذلك ظهور أولى الكتب عن الرأي العام، وكان أهمها كتاب جابريل تارد "الرأي العام" الذي ظهر عام 1910، وكتاب جراهام ولاس "الطبيعة البشرية في مجال السياسة" الذي ظهر عام 1909، ومن الكتب الهامة التي تناولت دور الجماعات المنظمة في عملية اتخاذ القرار كتاب بنتلي "عملية الحكم" الذي صدر عام 1908، وتناول موضوع ما عرف فيما بعد بجماعات الضغط وعلاقتها بالرأي العام والسياسة.

وشكلت الحرب العالمية الأولى نقطة بداية سمحت للدول الكبرى وخاصة بريطانيا باستخدام الإعلام كسلاح للتأثير على العقول عن طريق الدعاية المنظمة من خلال الإعلام الموجه، وازداد الاهتمام بعد ذلك تباعاً بدراسة الإعلام بشكل لم يسبق له نظير. ولفتت الحرب أنظار الباحثين إلى أبعاد جديدة للعمل الدعائي، وازداد الاهتمام بوسائل الاتصال والإعلام وأساليب التأثير على الرأي العام واعتبرت الفترة الممتدة من عام 1920 وحتى عام 1930 نقطة التحول الهامة على طريق الدراسات العلمية الإعلامية، وبداية حقيقية لتطبيق مناهج البحث التجريبية الحديثة في مجال دراسة الاتصال والإعلام ووسائله وأساليبه وتقنياته. وظهرت بعد الحرب العالمية الأولى عدة مؤلفات لباحثين أمثال: جورج كريل، وهارولد لازويلد، وج. برنشتورف، وجورج ديمرشيل، وهانز ثيم، وشونمان ، وكميل ستيوارت، وادجار شترن، وولتر ليبمان. وفرضت الحاجة ضرورة استخدام طرق جديدة في البحث العلمي لمعرفة أفضل طرق جذب المعلنين، ولكن الدفعة القوية للبحث العلمي في مجال وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية بدأت مع اهتمام الحكومات بالدعاية خلال الحرب ودراسة الروح المعنوية للقوات المسلحة والمدنيين، وسيكولوجية القيادة ومشاكلها، والعلاقة بين الضباط والجنود وما رافقها من حاجة للأبحاث التجريبية. وكان هذا الاهتمام بمثابة الحافز الذي دفع الباحثين والخبراء والعلماء إلى تطوير بحوثهم العلمية لتشمل مجالات السياسة وعلم النفس، وقياس تأثير الرسائل الإعلامية، فظهرت أسماء جديدة من الباحثين العلميين كان لهم أبلغ الأثر في تطوير البحوث العلمية في مجال الإتصال والإعلام واستخدام أساليب حديثة في البحث كجون لونج، وبارنيز، وريس، وأبراهام ليسكي، وايفي لي، ورالف كيس، وغيرهم.

وشهدت عشرينات القرن العشرين بداية تطبيق أساليب حديثة في البحث الميداني لدراسة سلوك المستهلكين، واهتمامات قراء الصحف والمجلات ومستمعي الراديو ورواد صالات السينما والرأي العام. وبدأت مجلة Literary Digest باستطلاعات الرأي العام في تلك الفترة بطريقة غير رسمية لمعرفة المرشح الذي سيصوت لصالحه الجمهور، وهو ما عرف آنذاك باسم Straw Votes. وشهدت نفس الفترة تطور أساليب القياس وطرق إعداد استطلاعات الرأي والدراسات التجريبية، واخترعت بعض الآلات البسيطة لاستخراج النتائج وتلخيص كميات كبيرة من المعلومات بصورة أسرع من الطرق التقليدية المتبعة آنذاك، وهو ما ساعد على القيام بدراسات إحصائية كمية، رافقتها محاولات لقياس الآراء والاتجاهات، لعب فيها الباحثان لويس ثرستون في مجال علم النفس، وستيوارت رايس في مجال السياسة والإحصاء دوراً بارزاً. وفي نفس الوقت لفتت نجاحات الدعاية السوفييتية، والفاشية الإيطالية أنظار الباحثين في استخدام الدعاية كسلاح من أسلحة السياسة الخارجية للدولة، وكوسيلة ناجحة للسيطرة على الجماهير في الداخل، إلى جانب التقدم الهائل للإعلان التجاري في الولايات المتحدة الأمريكية. وهي الدروس التي استفاد منها أدولف هتلر في كتابه "كفاحي" الذي صدر الجزء الأول منه عام 1925، وصدر الجزء الثاني منه عام 1927، لتستخدم وسائل الاتصال ببراعة فائقة في الدعاية الألمانية النازية. وشهد عام 1925 صدور أول مجلة ربع سنوية متخصصة تعنى بتشجيع ونشر الأبحاث والدراسات الإعلامية في الولايات المتحدة الأمريكية حملت اسم Journalism Quarterly.

ومع الكساد الاقتصادي الذي سيطر على العالم خلال ثلاثينات القرن العشرين، وانتهى باندلاع الحرب العالمية الثانية المدمرة التي استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية فيها ولأول مرة في تاريخ الإنسانية القنبلة الذرية لتدمير مدن يابانية بأكملها وقتل سكانها الأبرياء، ودخلت إلى جانبها الإذاعات المسموعة الدولية الموجهة كسلاح من الأسلحة الهامة في الحرب استعملتها بنجاح كبير الدول الكبرى آنذاك إيطاليا الفاشية، وألمانيا النازية، واليابان، والإتحاد السوفييتي، وبريطانيا العظمى، وفرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية. وبدأت الإذاعات الموجهة الدولية بالبث باللغات الأجنبية كاللغة الإنكليزية والفرنسية والعربية والإسبانية والبرتغالية وغيرها من لغات العالم. بهدف التأثير على شعوب الدول الأخرى وكسب الرأي العام العالمي لصالح قضاياها ومصالحها في العالم وهو ما ساعد على تطوير أساليب تحليل المضمون بمختلف الطرق والوسائل كمياً وموضوعياً. وكان من العوامل الهامة التي ساعدت على تطوير البحوث العلمية الإعلامية والاتصالية آنذاك:

1- ازدياد اهتمام الهيئات الحكومية بالدعاية الأيديولوجية، وتشجيعها على تطوير مناهج البحث وتطبيقها على نطاق واسع لقياس تأثير المادة الإعلامية. وتشجيع دراسات التسويق والإعلان على نطاق واسع.

2- وقلق المجتمعات الديمقراطية من السيطرة السياسية على وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية في الإتحاد السوفييتي وألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، واستخدام هذه الدول لها لدعم نفوذها السياسي في الداخل والخارج الوضع الذي استغله بعض علماء الاجتماع لتضخيم قدرات وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية في التأثير على العقول والسيطرة عليها.

3- وأدى تركز ملكية وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية المقروءة والمسموعة والمرئية، في أيدي قلة من المالكين في الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا، لاختفاء المنافسة في السوق الإعلامية للمجتمعات الغربية. ورافقها قلق واضح من احتكار وسيطرة أقلية من المالكين لوسائل التوجيه والاتصال والإعلام الجماهيري مما أبرز حاجة لدراسة ظاهرة الاحتكار الإعلامي.

4- ومع اشتداد المنافسة بين وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية المقروءة والمسموعة والمرئية للحصول على أكبر قدر من الدخل والتمويل عن طريق جذب الإعلانات والدعاية إليها، زادت الحاجة لدراسات قياس تأثير وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية كل على حدى ومقارنة تلك الوسائل بعضها ببعض من حيث الانتشار والتأثير الفعلي. ورافقها خلال خمسينات القرن العشرين التركيز على دراسة تأثير الإذاعة المرئية على الأطفال، وتأثير برامج العنف والجريمة على انحراف الأحداث، ودور الإذاعة المرئية في التعليم.

5- وأدى الاهتمام بدراسة التأثير السياسي لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، وخاصة أثناء الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة الأمريكية إلى دفع مركز الدراسات الاجتماعية والتطبيقية بجامعة كولومبيا، ومؤسسات البحث العلمي في جامعات ييل، وستانفورد، وآلينوي، للقيام بدراسات لاكتشاف الحقائق عن الدور الذي يلعبه الاتصال الشخصي في المجتمعات المتقدمة، ودور الجماعة في التأثير على أعضائها، وتأثير الإشاعة، وخصائص وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية المختلفة. والعمل على تطوير تلك الأبحاث. ومن الأساليب الشهيرة المتبعة خلال ثلاثينات القرن العشرين، كان أسلوب جورج جالوب في قياس اهتمامات قراء الصحف، والذي عرف باسم "أسلوب التعرف" واستخدمته مؤسسة أبحاث الإعلان في دراستها المستمرة لقراء الصحف في الفترة من عام 1939 وحتى عام 1953 وشملت عينات من قراء 130 صحيفة يومية من جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، لخصت نتائجها في 138 تقريراً. وشملت "الدراسة المستمرة" تطور الإعلانات في الصحف، وأسلوب تحرير الصحف بشكل عام، وجمعت معلومات كبيرة عن قراء الصحف، والمواد الأكثر قراءة في الصحف وأدى تكرار هذه الدراسات إلى تراكم المادة العلمية وتطوير أساليب البحث المتبعة. وطور كلاً من: سوانسون، وجونز، وبلدو أساليب علمية لقياس اهتمامات قراء الصحف، وابتكروا طرقاً سهلة لتسجيل وتفريغ البيانات.

6- وبدأ في النصف الثاني من القرن العشرين خطوات تعاون بين مؤسسات التعليم العالي وهيئات البحث العلمي في مجال الدراسات الإعلامية، ومن أبرزها كان البحث الذي موله معهد الصحافة الدولي في زيورخ IPI ودرس طبيعة الأخبار الدولية في عينة من صحف الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا الاتحادية، وبريطانيا، وفرنسا، وهولندا، وبلجيكا، وسويسرا، والسويد، والهند. نشرت نتائجه تحت عنوان "تدفق الأخبار" عام 1953. وأدى تراكم البحوث الإعلامية إلى ظهور أكثر من خمسين وصفاً لعملية الاتصال الجماهيرية، وإلى وضع نماذج كثيرة تشرح عملية الاتصال الجماهيري، منها النموذج الرياضي لكلود شانون عام 1948، ونظرية الإتصال الرياضية لشانون وويفر. وتجنبت الأبحاث دراسة الدور الاجتماعي لوسائل الإعلام الجماهيرية، رغم أن الدور الاجتماعي لوسائل الإعلام الجماهيرية هو الأساس لمعرفة دور وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية في إقناع الجماهير في أي مجتمع من المجتمعات. ورغم استخدام أساليب التحليل الوظيفي في دراسة طبيعة ودور الإتصال الجماهيري على الفرد والمجتمع في الإتحاد السوفييتي السابق.

الاتجاه السياسي للدراسات الإعلامية: يعتبر عالم السياسة الأمريكي هارولد لازويل، الذي تدرب ومارس التدريس في جامعة شيكاغو، وعمل لسنوات طويلة في جامعة ييل، ممثلا للاتجاه السياسي الذي اهتم باستخدام تحليل المضمون كأسلوب من أساليب القياس في الدراسات الإعلامية. وقد درس لازويل الدعاية الأيديولوجية ودور وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية في المجتمعات والدول، والنفوذ السياسي للقائمين بالاتصال، وتحليل المضمون على أسس علمية. ومن الموضوعات التي اهتم لازويل بدراستها: - وظيفة الإتصال في المجتمع. - علاقة الإتصال بالحكومات. - السلطة ممارستها وتوزيعها. - عوامل الإشراف والسيطرة على وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية. - استخدام الحكومات وسائل الاتصال كأداة سياسية. - مقارنة نظم الإتصال بين الثقافات والدول المختلفة. - اقتصاديات وسائل الاتصال والإعلام. - طبيعة عمل القائمين على عملية الاتصال. - مضمون وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية. ومن بين الذين درسوا عملية التحضير للاتصال السياسي دانيل لونر، ولوشيان باي. ودرس كلاً من أثيل دوسولا بول، وكارل دويتش أنظمة الاتصال في الدول النامية من خلال دراستهم للإعلام الدولي.

الاتجاه السيكولوجي الاجتماعي للدراسات الإعلامية: يعتبر علم النفس الاجتماعي من المجالات الأساسية والهامة في الدراسات الإعلامية. ويعتبر كارل هوفلاند، وبول لزرفيلد، وكرت لوين، من أوائل الباحثين في هذا المجال الهام. وركز هوفلاند عالم الاجتماع في جامعة ييل، على عملية الإقناع في دراساته. بينما ركز لوين عالم الاجتماع في جامعة أيوا، وجامعة ماساتشوسيت للتكنولوجيا دراساته على الجماعات والأدوار الاجتماعية. بينما ركز لزرفيلد في مركز الأبحاث الاجتماعية التطبيقية بجامعة كولومبيا، دراساته على استقصاء الرأي العام، وتأثير وسائل الإعلام الجماهيرية ، وعلى العلاقة بين التأثير الشخصي وتأثير وسائل الإعلام الجماهيرية على الجمهور الإعلامي. ولد لزرفيلد في فيينا وتعلم فيها حتى حصل على درجة الدكتوراه، وفي عام 1923 ترك مسقط رأسه مهاجراً إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث صب اهتمامه على دراسة الساحة الإعلامية وتأثير وسيلة الاتصال الإعلامية الجماهيرية الجديدة آنذاك. وكان الباحثون هناك مهتمون فعلاً بقياس مدى نجاح الإذاعة المسموعة كوسيلة إعلامية جديدة لفتت انتباه المعلنين. وانصبت دراسات القياس على معرفة عدد المستمعين والبرامج التي يفضلون الاستماع إليها. واهتم لزرفيلد بمعرفة الأسباب التي دفعت المستمعين لسماع برامج إذاعية بعينها، واستنباط الطريقة التي تمكنه من معرفة كيفية استخدامهم للمعلومات التي يحصلون عليها عبر وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، وتأثيرها على أذواقهم واتجاهاتهم الاجتماعية وتأثير الحملات الانتخابية على خياراتهم الانتخابية، وعلاقة الاتصال الشخصي بوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية. وبدأ اهتمام لزرفيلد بالإذاعة المسموعة عام 1937 عندما عين مديراً لمركز أبحاث الإذاعة المسموعة الذي أفتتح للتو في جامعة برنستون بتمويل من مؤسسة روكفلر. مستفيداً من خبرة فرانك ستانتون المدير السابق لشبكة س. ب. إس، في الإذاعة الأمريكية. وفي عام 1940 انتقل المركز الذي يشرف عليه لزرفيلد إلى جامعة كولومبيا وأصبح مركزاً للأبحاث الاجتماعية التطبيقية. وأثمرت أبحاث لزرفيلد عن مجموعة من الكتب ذات المستوى الرفيع في موضوعات كالتصويت، والبطالة، والاتصال، ومناهج البحث في العلوم الاجتماعية التطبيقية، إضافة لتدريب مجموعة من الباحثين الشباب الذين ذاع صيتهم فيما بعد.

أما عالم النفس والخبير بوسائل وأساليب إجراء التجارب العلمية، وعلم النفس الاجتماعي كورت لوين Kurt Lewin فقد هاجر في مطلع الثلاثينات من مسقط رأسه في أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن أتم تحصيله العلمي في فيينا. وتمتع بتأثير كبير هناك على طلبته في جامعة أيوا ومعهد ماساتشوسيت للتكنولوجيا، حيث اهتم خلال الحرب العالمية الثانية بدراسة حركة الجماعة، والاتصال داخل الجماعة، وتأثير جماعات الضغط الاجتماعي، وتأثير الجماعة على اتجاهات وتصرفات أعضائها. وركزت أبحاث لوين في علم النفس الاجتماعي على الفرد في ظروف المحيط الاجتماعي، وتحليل المؤثرات الاجتماعية على الطفل، وطبيعة الاختلافات القومية بين الأمريكيين والألمان، والمشاكل الاجتماعية الناتجة عن انتماء الفرد لأقلية اجتماعية.

أما كارل هوفلاند فقد تخرج من جامعة ييل وبرز بين علماء النفس التجريبي قبل الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1942 استدعي للخدمة العسكرية والتحق بقسم الأبحاث الإعلامية في الجيش وهناك ركز اهتمامه على بحوث الاتصال وتغيير الاتجاهات، وبعد الحرب عاد هوفلاند إلى جامعة ييل ووضع برنامجاً للبحث في عناصر الاتصال وتغيير الاتجاهات، وتمتع برنامجه بأسلوب دقيق للقياس يعتمد على التجربة المنظمة. ودرس هوفلاند تأثير القائم بالاتصال الذي يؤمن الجمهور الإعلامي بصدقه، والقائم بالاتصال الذي يتمتع بالنفوذ، وتأثير عرض الجانب الذي يسعى القائم بالاتصال لترويجه، من خلال عرض الجانبين المؤيد والمعارض في آن واحد، وتأثير بواعث الرسائل الإعلامية المثيرة للخوف الشديد لدى المستقبل، ومقارنة تأثير الرسائل الإعلامية التي تثير خوفاً معتدلاً أو خفيفاً، وأساليب تحصين الجماهير ضد الدعاية المضادة. وتعتبر كتبه من أهم ما وضع من كتب في علم الاتصال حتى وقت قريب، وتوفي هوفلاند عام 1961 متأثرا بمرض السرطان عن 48 عاماً، ولم تتوقف أبحاثه التي استمرت على أيدي تلاميذه الذين استمروا على تطويرها والتوسع بها من بعده.

ومن دراستنا لأبحاث الرواد الأربعة في تطوير أبحاث الإتصال الجماهيري: لازويلد، ولزرفيلد، ولوين، وهوفلاند، فإننا نستطيع استنتاج أن أبحاث لازويل اتسمت بالشمول الذي يهتم بالمجال العام. أما لزرفيلد وهوفلاند فقد اتسمت بالمجال الأضيق الذي يهتم بالتفاصيل، أما أبحاث لوين عن الجماعات الصغيرة، فقد جاءت في الوسط بين المجالين. وأضاف الباحث الأمريكي برنارد ولسون إلى المجالين أنفي الذكر خمسة مجالات فرعية للبحوث الإعلامية وهي:

1- المجال الإصلاحي: الذي مثلته لجنة حرية الصحافة في الولايات المتحدة الأمريكية التي شكلت عام 1943، وأصدرت تقريرها عام 1947 واهتمت بتنظيم وسائل الإتصال وتكوينها، وأساليب السيطرة عليها، ومسؤولية وسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية اتجاه المجتمع، وهو المجال الذي تجاهلته الجامعات، ووقفت وسائل الإتصال والإعلام التجارية ضده، وضد لجنة حرية الصحافة.

2- المجال التاريخي: الذي تمثل بدراسات ديفيد رايسمان، وهارولد إنيس، واهتم بالتأريخ لحياة القائمين بالاتصال عبر وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية. وتدخل ضمنها مؤلفات فرانك لوترموت، وأرنولد هاوسر، التي اعتمدت على السرد والسير الشخصية.

3- المجال الصحفي: ويمثله نشاط معاهد الصحافة ومراكز البحث العلمي في مجال الاتصال والإعلام، وبعض الأساتذة أمثال: كيسي، وريمو ب. نيكسون، وولبر شرام. واهتم بالسيطرة على وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، وخصائص القائم بالاتصال، واهتمامات قراء الصحف، ومسؤولية الإعلام اتجاه المجتمع.

4- مجال دراسة فلسفة اللغة والمعاني: الذي حاول من خلاله الباحثون تطبيق نظرية المعرفة على الإتصال الجماهيري، واشتغل فيه إضافة للفلاسفة، علماء الأنثروبولوجيا، واللغويين، وعلماء النفس، وعلماء الرياضيات.

5- دور وسائل الإعلام الجماهيرية في مجال نشر الأفكار المستحدثة: الذي اهتم أصلاً بالمجتمعات الزراعية ونشر الأفكار المستحدثة، وله علاقة كبيرة باهتمامات الدول النامية وأساليب التغيير السريع للمعتقدات والقيم. ومن رواده روجر، وكير، وشوميكر.

ويبقى من مميزات الربع الأخير من القرن العشرين التركيز على دراسات الإتصال والإعلام الدولي على ضوء التطورات الهائلة لوسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية وخروجها من إطار المحلية إلى إطار الدولية، وما نتج عن ذلك من مشاكل معقدة تحتاج للدراسة والبحث لمعرفة وفهم المتغيرات التي طرأت على نظم الإتصال والإعلام الجماهيري في مختلف دول العالم. ويبقى التصنيف الذي وضعه كتاب "نظريات الإعلام الأربع" الذي صدر عام 1956، قائماً في تصنيفه رغم انهيار الإتحاد السوفييتي السابق ومعه المنظومة الاشتراكية التي كان يقودها في مطلع تسعينات القرن العشرين، واتجاه معظم الدول المستقلة إلى تبني نظم ديمقراطية في سياساتها الإعلامية. وتبقى في حاجة لدراسات تركز تأثير الانفتاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي على وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، وتأثير وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية في شكلها الراهن على هذا الانفتاح وتحليل المتغيرات في التعليم والدخل القومي وتوزيع الثروات والاستقرار السياسي والاجتماعي ومشاكل البيئة والتلوث... وغيرها من البحوث التي لها علاقة مباشرة بنظم الاتصال والإعلام الجماهيري في دول المنظومة الاشتراكية السابقة ومقارنتها مع النظم القائمة في مختلف دول العالم. وهو ما سبق وتنبهت له الدول الأوروبية وانعكست صورته في ما نشرته مجلة اتحاد الإذاعات الأوروبية E. B. U. Review، ومجلة معهد الإذاعة الدولي Inter Media في لندن، ومجلة Gazette في هولندا، وغيرها من المجلات المتخصصة.

نماذج عملية الاتصال الجماهيري: ظاهرة الاتصال بين الأفراد والأمم والشعوب هي ظاهرة قديمة قدم الإنسان والأمم، لكن الاهتمام بدراسة الاتصال والإعلام والدعاية والرأي العام دراسة منهجية منتظمة اتضح في الفترة التي رافقت الحرب العالمية الثانية كما سبق وأشرنا، وظهرت بعض الكتب والدراسات القيمة خلال خمسينات وستينات القرن العشرين تناولت مواضيع الاتصال والإعلام الجماهيري الدولي، وانصب الاهتمام فيها نحو دراسة الإنتاج الفكري للفترة الممتدة بين الحرب الكونيتين الأولى والثانية. ولكن قبل أن نتحدث عن نماذج الاتصال لابد أن نوضح ما المقصود من اصطلاحات الاتصال، والجماهيري، وعملية الاتصال بحد ذاتها.

تعريف الاتصال: الاتصال هو من أقدم النشاطات الإنسانية على الإطلاق، وهو من الظواهر المألوفة لدى الإنسان ومعنى مصطلح الاتصال واضح وغامض في نفس الوقت، والمعنى يصبح واضحاً حينما نستخدمه بشكله التقليدي الضيق، ولكنه يتسم بالغموض عندما نستخدمه بشكله الشمولي الواسع. فإذا تحدث فرد مع آخر وأدى هذا الحديث إلى تفاهم متبادل بين الطرفين، فيمكننا القول أنه حدث اتصال، أي تحقق الهدف من الحديث. أما إذا أدى الحديث إلى حدوث سوء تفاهم، فيمكننا القول أنه لم يحدث اتصال أي لم يتحقق الهدف من الحديث. أو نصبح غير واثقين مما إذا حدث الاتصال فعلاً أم لا. وذكر كارل هوفلاند، أن الاتصال هو عملية ينقل من خلالها الفرد (القائم بالاتصال) مثيرات (رموزاً لغوية، رسالة)، لكي يعدل من سلوك الأفراد الآخرين (مستقبلي الرسالة). وفي هذه الحالة ينقل القائم بالاتصال الرسالة عمداً، أي بشكل هادف لإحداث تأثير معين. أما تشارلس موريس، فذكر أن اصطلاح الاتصال حينما نستخدمه بشكل واسع النطاق، فإنه يتناول أي موقف يشارك فيه عدة أفراد بموضوع معين. ولكنه حصر الاتصال في استخدام الرموز لكي تحقق انتشاراً ومشاركة ذات مغزى. أي أن يتحقق تفاهم حول موضوع معينٍ، سواء عن طريق الرموز أو أية وسيلة أخرى سماها تشارلس موريس Communization، كأن ينتقل الغضب من شخص إلى شخص آخر، أو أن لا يغضب الشخص فعلاً ولكنه يبدي دلائل توحي بالغضب، وهذا الموقف ينطوي على إحساس ومشاركة نسميها اتصال. واعتبر جورج لندبرج أن الاتصال هو نوع من التفاعل يحدث بواسطة الرموز، ويستخدم للإشارة إلى التفاعل بواسطة العلامات والرموز، التي يمكن أن تكون حركات أو صور أو لغة أو أي شيء آخر يمكن أن يثير السلوك الإنساني. والسلوك الناتج عن هذا التفاعل قد لا يكون بسبب التعرض للرموز نفسها، إن لم يكن المتلقي مهيأً للاستجابة للرمز بصورة معينة. وأن الاتصال يختلف عن التوصيل، وأن الاتصال الحقيقي هو نوع من التفاعل يتم بواسطة الرموز والعلامات، ويؤدي إلى تخفيف أو زيادة التوتر والشك وزيادة أو تشويش الفهم لدى الأفراد. أما إدوار سابير فقد كتب عن الإتصال المحدد، والاتصال الضمني، ما يلي: الإتصال المحدد، هو: اتصال بالمعنى التقليدي، أما الإتصال الضمني، فهو: التفسير البديهي للرموز اللاشعورية نسبياً، والاستيعاب اللاشعوري للأفكار والسلوك في ثقافة الفرد. بينما يعتبر بعض علماء الإتصال أن مفهوم الإتصال يتضمن كل العمليات التي يؤثر من خلالها الناس على بعضهم البعض. بينما عرف ستيفنز الإتصال باستجابة الكائن الحي على منبه معين بشكل متميز، بحيث يقدم بنتيجتها على استجابة أو ردة فعل متميزة. والرسالة التي لا تحظى باستجابة لدى المستقبل لا تعتبر اتصالاً عكس نوبرت وينر الذي يعرف الإتصال بشكل أوسع يشمل التفاعل بين الآلات، عندما يقول: أن الإتصال بمعناه الواسع يتضمن كل الإجراءات التي يمكن بمقتضاها أن يؤثر عقل بشري على عقل آخر، أو يؤثر جهاز على جهاز آخر كأجهزة الرصد والتوجيه الأوتوماتيكي، وأجهزة الاستشعار عن بعد مثلاً.

ولكننا ورغم الاختلاف في التعريف نرى أنه هناك اتفاق على استخدام مصطلح اتصال لنقل المعاني، وانه في صيغة المفرد يستخدم للإشارة إلى عملية الإتصال، وفي صيغة الجمع فيستخدم للإشارة إلى الرسائل الإعلامية ومؤسسات الإتصال والإعلام الجماهيري بشكل عام.

تعريف جماهيري: يشير مصطلح جماهيري إلى جمهرة أو حشد أو مجموعة كبيرة من الناس مؤلفة من جميع الطبقات والشرائح الاجتماعية، يختلف أفرادها في مراكزهم الاجتماعية ومهنهم وثقافاتهم وثرواتهم، وهم مجهولين الهوية ولا يتفاعل الواحد منهم مع الآخرين ولا يتبادل معهم المشورة والخبرة، وغير منظمين ولا يمكن أن يعملوا ككتلة واحدة، ولا تتاح لهم فرصة الاختلاط والتقارب، وكل ما يشدهم إلى بعضهم البعض هو حدث محلي أو وطني أو قومي هام يعنيهم جميعاً ويشدهم إلى متابعة تطوراته. وازداد حجم الجماهيري وأهميته في ظروف التطور العلمي والتقني والتكنولوجي الصناعي الحديث. و كانت المجتمعات البشرية لعدة قرون خلت منغلقة في مجتمعات صغيرة، في المزارع والقرى والمدن، وكان عدد المدن الكبيرة محدود جداً حتى أن روما في قمة مجدها لم يتجاوز عدد سكانها المليون نسمة، يعيش غالبيتهم في جماعات صغيرة مكونة من الأقارب والأصدقاء وجماعات العمل والجيش. ولكن الحروب والغزوات والاحتلال والهجرات الجماعية أدت إلى اتصال الجماعات المعزولة نسبياً ببعضها البعض. بينما نجد في حياتنا المعاصرة اليوم أنه وخلال جيل واحد بسبب من الحروب الحديثة وانتقال قوات هائلة من قارات إلى قارات أخرى، وما رافقها من تطور لوسائل المواصلات والاتصال الحديثة وخاصة شبكة الانترنيت العالمية، وانتشار وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الحديثة في جميع أنحاء العالم، أدى إلى خروج الناس عن إطار ثقافاتهم الأصلية المغلقة، ليعيشوا في عالم منفتح جديد وواسع.

تعريف عملية الاتصال: عملية الاتصال ظاهرة تتغير بشكل مستمر خلال فترة محددة من الزمن، لا بداية ولا نهاية ولا تسلسل لأحداثها، وإذا رجعنا إلى ثورة الفلسفة العلمية التي أحدثها اينشتين وراسل ووايت هيد، نجد أن الثورة العلمية قد نفت نظرية ثبات الأشياء، كما نفت وجود أشياء مستقلة تقوم بعملها بشكل منفرد. وأدى هذا إلى ظهور نظرية النسبية التي تقول: أولاً: أن أي ظاهرة يمكن تحليلها ووصفها على ضوء ظاهرة أخرى متصلة بها أو عمليات تدخل في ملاحظتها فقط. وثانياً: أن الملاحظة القوية أظهرت أن الأشياء الثابتة مثل الأثاث المنزلي يمكن النظر إليها كظواهر خاضعة لعوامل غير مستمرة، فهي تتغير تماماً مثل الإنسان الذي يقوم بملاحظتها، وتعود أسباب عدم القدرة على ملاحظة التغييرات إلى قصور أعضاء الحس لدى الإنسان نفسه. فالكون يتغير دائماً ويتأثر بعوامل عديدة، نعرف بعضها ونجهل بعضها الآخر، والعلم كنشاط إنساني يهدف إلى كشف العلاقات المشتركة بين الظواهر المختلفة، وتجعلها تؤثر على بعضها البعض. واكتشاف علاقة الظواهر بعضها ببعض وفهمها هما شيء واحد لأن فهم الظواهر معناه كشف العلاقة التي تربط بينها وبين ظواهر أخرى. أما إذا لم نعثر على تلك العلاقة فستبقى غير مفهومة لدينا أو بدون تفسير محدد لتلك الظواهر لأن المعرفة والفهم لا يتمان من دون اكتشاف العلاقات المختلفة بين المتغيرات وموضوع الفهم والمعرفة. كما لا يمكن فهم جانب واحد من السلوك البشري دون ربطه بالجوانب السلوكية الأخرى. ونحن نفهم معنى الأحداث من خلال ربطها بالأحداث الأخرى التي سبقتها والظروف المحيطة بها فالفهم إذن يتم بعملية ربط أو إدراك العلاقات بين الظواهر المطلوب تفسيرها، وربطها بالأحداث الأخرى التي تلازمها والتي سبقتها والتي تؤثر فيها. فالفهم لن يتحقق إلا بربط الظاهرة بالمتغيرات والظروف الأخرى الخارجة عنها، والتي يعتبر وجودها مسؤولاً عن تسلسل أحداث الظاهرة نفسها.

والأسلوب الوظيفي لدراسة التفاعل البشري يفترض أن الناس عندما يتصلون ببعضهم البعض يستخدمون كل إمكانياتهم وطاقاتهم، لأن عملية الإتصال تتطلب استغلال كل إمكانيات وطاقات الفرد، من مدارك وتعلم ودوافع وعواطف واتجاهات ومعتقدات وقيم ومعاني وظروف اجتماعية. فالاتصال البشري هو عبارة عن عملية واحدة مركبة تجمع العديد من العمليات والقوى المعقدة والمستمرة والتي تتفاعل في ظرف متبدل لا بداية ثابتة له ولا نهاية ثابتة له. وكل أوجه النشاط تلك تؤثر على الإتصال البشري الذي يعتبر تجميعاً لعناصر وقوى متفاعلة مادية وسيكولوجية واجتماعية وعلينا التنبؤ بكيفية تفاعل تلك المتغيرات أو ردود الفعل المحتملة لإحداث نتائج معينة. وتأثير الرسالة الإعلامية لا يمكن تفسيره على ضوء نموذج المثير والاستجابة البسيط، لوجود عدة متغيرات خارجة عن عملية الإتصال ذاتها، وتؤثر على نتيجة عملية الإتصال تأثيراً مباشراً. لأننا نبحث عن تفسير ظاهرة معينة وعن مؤثرات ومتغيرات خارجة عن عملية الإتصال وتربطها بها علاقة وظيفية محددة. منطلقين من مبدأ أن وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية تؤثر في الجمهور الإعلامي، وأن الجمهور الإعلامي يؤثر بدوره على مضمون وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية. وأن السياسة تغير الرأي العام، وأن الرأي العام يغير السياسة، وأن التغيير الاقتصادي يحدث تغييراً في الإتصال والإمكانيات الإعلامية التي بدورها تعاون على التغيير الاقتصادي. وبمعنى آخر أن الأسلوب الوظيفي لتفسير عملية الإتصال يأخذ في اعتباراته ظواهر متعددة لتأثير وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية.

وظائف الاتصال الأساسية: نستطيع أن ندرس أهداف عملية الاتصال من خلال وجهة نظر المرسل أو من وجهة نظر المستقبل على حد سواء. كما ونستطيع تحديد وظائف عملية الإتصال على أساس الفرد أو على أساس المجتمع. فمن وجهة نظر الفرد القائم بالاتصال، أي المرسل بشكل عام، هي: 1- الإعلام. 2- التعليم. 3- الترفيه. 4- الإقناع. أما من وجهة نظر المستقبل، أي الطرف الآخر في عملية الإتصال، فهي: 1- المشاركة في عملية الإتصال. 2- فهم ما يحيط به من ظواهر وأحداث. 3- تعلم مهارات جديدة. 4- الاستمتاع والاسترخاء والهرب من مشاكل الحياة. 5- الحصول على معلومات جديدة تساعده على اتخاذ القرارات والتصرف بشكل مقبول اجتماعيا.

وكانت هذه الأهداف قبل اختراع الطباعة تحقق عن طريق الأفراد، ومن ثم أصبحت تتحقق تدريجياً عن طريق المادة المطبوعة ومع التطور الكبير لتكنولوجيا الاتصال أصبحت تتحقق عن طريق وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الحديثة تباعاً مع دخول تلك الوسائل ميدان الخدمة الاجتماعية، حتى أصبحت من الأجهزة المهمة والمؤثرة على حياتنا اليومية إلى جانب مؤسسات التربية والتعليم والتنشئة الاجتماعية الأخرى. وتقوم وسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية اليوم وكما كانت عليه بالسابق بمهام محددة لا تخرج عن إطار: 1- توفير معلومات عن الأوضاع المحيطة بنا (أخبار). 2- الإسهام في نقل التراث الثقافي عبر الأجيال، والمساهمة في تنشئة الأجيال الجديدة، وصهر الوافدين الجدد في المجتمع الوافدين إليه. 3- الترفيه عن الجماهير وتخفيف أعباء حياتهم. 4- تقديم المساعدة لنظام الحكم من أجل تحقيق التفاهم، والاتفاق، والوئام بين الفئات الاجتماعية، وتحقيق الوحدة الوطنية، وتعبئة الرأي العام، عن طريق الإقناع، والحوار، بدلاً من استخدام القوة والعنف والإكراه للسيطرة على المجتمع.

أهداف الفرد من عملية الاتصال: يتعرض الفرد لمواد وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية من خلال ما تنقله إليه من خبرات وتجارب، ويتصل الفرد بأفراد آخرين بشكل مباشر، ويمر بتجارب معينة تكسبه خبرات محددة ويتحول بذلك إلى مصدر من مصادر المعلومات، ويستفاد من خبراته. وعملية الاتصال أساساً هي تفاعل لصلات فرد معين بمحيطه. وحينما يتفاعل الإنسان مع المحيطين به، يتقاسم معهم المعلومات والتجارب، ويصبح هدفه الأساسي تغيير العلاقات القائمة بينه وبين ما يحيط به. محاولاً التقليل قدر الإمكان من التأثير الخارجي عليه، مدعماً من قدراته الذاتية ليتحول إلى قوة مؤثرة في ذلك المحيط. وباختصار: نحن نتصل لنؤثر بهدف معين. والاتصال الهادف هو الذي يحقق ردود فعل أو استجابة معينة لدى المستقبل ضمن عملية الاتصال. وفشل عملية الإتصال في تحقيق أهدافها يعود عادة إلى: 1- ضعف قدرات القائم بالاتصال وعجزه عن تحديد هدفه بدقة. 2- سوء فهمه للهدف الحقيقي من مساهمته في عملية الإتصال.

وقد أثبتت بعض الدراسات الإعلامية، عن القائمين بالاتصال في الولايات المتحدة الأمريكية، أن أغلبية القائمين بالاتصال المسؤولين عن الأخبار الدولية، يهدفون من أدائهم لعملهم كسب احترام زملائهم، وتقدير رؤسائهم في العمل. أو السعي للعمل في وسيلة اتصال أكبر، أو شغل منصب في العلاقات العامة أو الإعلان يوفر لهم دخلاً مادياً أكبر، متناسين الهدف الأساسي من عملهم وهو: خدمة الجمهور الإعلامي، وبذلك نراهم قد انصرفوا عن الهدف الأساسي نحو تحقيق مكاسب شخصية لا أكثر. وتحليل أية رسالة إعلامية لا يمكن دون معرفة الهدف منها، وهذا الهدف لابد أن تكون له استجابات محددة لدى المتلقي، ودوافع تدفع المتلقي للتعرض للرسالة الإعلامية. لابد أن تؤخذ كلها بعين الاعتبار لدى دراسة عملية الإتصال. وتنطوي عملية الاتصال عادة على نوعين من الاستجابات هما: 1- استجابة يهدف إليها صانع الرسالة الإعلامية. 2- استجابة يقدم عليها متلقي الرسالة الإعلامية.

وهنا يجب أن نراعي حقيقة مفادها أن أهداف القائم بالاتصال، لا تتلقى دائماً نفس الاستجابة التي هدف إليها في رسالته الإعلامية، ولا تحقق التأثير المطلوب على الآراء والاتجاهات كما رسمها القائم بالاتصال في رسالته الإعلامية تلك.

طبيعة تأثير الرسالة الإعلامية: ذكر الباحثان الأمريكيان ولبر شرام، وديفيد برلو، أن بعض أهداف عملية الاتصال تتحقق بمجرد استهلاك الرسالة الإعلامية، وانتهاء التعرض لها. وهو الهدف العاجل الاستهلاكي، للتسلية وتبديد الوقت والتخلص من التوتر. وفي أحول أخرى يسعى مضمون الرسالة الإعلامية إلى تحقيق أهداف مؤجلة كما هي الحال في المقالات السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، لفهم الظروف التي تحيط بنا فهماً أفضل وهو الهدف البعيد المدى. وأشار ديفيد برلو إلى أنه هناك الكثير من الأدلة التي تثبت أن أهداف القائم بالاتصال والمتلقي قد تختلف، ورغم ذلك نراهما ينجحان في تحقيق ما يهدفان إليه. فقد يشتري القارئ مجلة ليطالع قصة فيها ( هدف المتلقي)، ولكنه لا يلبث أن يشتري سلعة أعلن عنها في تلك المجلة (هدف القائم بالاتصال). وقد يشاهد الجمهور دراما في الإذاعة المرئية لمجرد الاستمتاع، ولكنه قد يغير من تصرفاته مع الآخرين متأثراً بما شاهده في تلك دراما الإذاعة المرئية.

لماذا نستخدم نماذج لدراسة عملية الاتصال ؟ النظرية أو النموذج محاولة لتقديم العلاقة الكامنة التي يفترض وجودها بين المتغيرات التي تصنع حدثاً معيناً، أو تؤدي إلى نظام معين. والنماذج في واقع الأمر هي أدوات ثقافية تساعدنا على فهم أي ظاهرة أو نظام، وأدوات تصورية توفر لنا إطارات للافتراضات التي تتحدد نطاقاتها من خلال المتغيرات الهامة. والنماذج المثالية تتضمن خطوات متتابعة للتجريد، تقوم على تصور الظروف المادية التي استمدت منها.

طبيعة نماذج الاتصال: يوفر نموذج الاتصال للخبراء والباحثين أبسط الطرق لتفسير التفاعل البشري من خلال عملية الاتصال، وللنماذج أشكال عديدة منها النماذج الإحصائية. وتختلف النماذج في المتغيرات التي تظهرها أو تؤكدها، ولكن هذه الاختلافات سطحية وتصنف النماذج ضمن فئتين أساسيتين هما: 1- النماذج البنائية: التي تظهر الخصائص العامة للحدث، من خلال مكوناته وحجمه وترتيب أجزائه المنفصلة عن بعضها. 2- النماذج الوظيفية: التي تحاول تقديم صورة طبق الأصل من الأسلوب الذي يعمل من خلاله النظام الإعلامي. وهي نماذج تشرح طبيعة القوى أو المتغيرات التي تؤثر على النظام الإعلامي بشكل عام. وتعد النماذج أساساً لتوضيح ظاهرة أو حدث معين، تساعد الباحث على التنبؤ والتفسير، وفهم المعلومات المتراكمة. ويعتمد نجاح النماذج على مدى تشجيعها ودفعها للباحثين نحو إجراء أبحاث إضافية، ومدى قدرتها على تنظيم الحقائق والنتائج المتنوعة بشكل يسهل فهمه. وعند تصميم أو اختيار نموذج، يجب مراعاة الواقعية والتركيز، وأن يحتوي على صورة قريبة قدر الإمكان من الواقع. مع مراعاة استخدام مصطلحات تشير إلى الخصائص الأساسية المطلوبة والتركيز على التبسيط، وعدم التعرض لبعض التفاصيل الثانوية غير الهامة. ومع اعتبارات التركيز والواقعية، يجب مراعاة اختيار النماذج التي تساعد على الخروج بتنبؤات جديدة وخطوط جديدة لدراسة عملية الاتصال.

وظائف النماذج: نماذج دراسة عملية الاتصال تخدم أربعة أهداف أساسية، هي: 1- الحصول على المعلومات وتنظيمها. 2- تشجيع القائم بأبحاث علمية. 3- المساعدة على التنبؤ. 4- السيطرة على الظواهر الإعلامية والتحكم بها.

الوظيفة التنظيمية لنماذج دراسة عملية الاتصال: النموذج هو محاولة لإعادة العلاقات التي يفترض وجودها بين المكونات أو القوى التي ندرسها رمزياً أم مادياً. ولا يمكن وصف عملية الاتصال المتغيرة دائماً بسهولة، ولكن الإطار الذي يوفره النموذج يجدد هذه العملية ويساعد الباحث على عزل المتغيرات الهامة، ووصف دورها في عملية الاتصال بكاملها. ويساعد أيضاً على إعادة بناء الحدث أو الظاهرة الإعلامية، وتحديد عناصرها. وإعادة تقديم الخصائص الرئيسية للنظام الذي نخضعه للدراسة والتحليل. ووضع عدد كبير من المتغيرات في تكوين واضح، وربط تأثيرات تلك المتغيرات بعضها ببعض، ومحاولة استنتاج طبيعة التفاعل بينها. وهذا يضمن عدم تجزئة الأحداث المدروسة.

النماذج تعمل على تطوير الأبحاث العلمية: النماذج كما سبق وأشرنا تجعل من نظريات الاتصال أكثر بساطة وفهماً. فالنموذج يقدم أفكار من قام ببنائه عما يعتقد بأنه المتغيرات الهامة في عملية الاتصال، بشكل يمكن الباحث من تحليل الأسلوب الذي تعمل بموجبه تلك المتغيرات. كما ويظهر المتغيرات التي يمكن تجاهلها في البحث، ويشجع على التوسع في البحث والدراسة.

ومن أمثلة التشجيع على التوسع في البحث والدراسة نورد النموذج اللفظي التالي الذي يتضمن العناصر الرئيسية للاتصال التالية: المرسل، المتلقي، الرسالة، التشويش.

مرسل < رسالة { تشويش } رسالة < مستقبل ويدفع هذا النموذج الباحث لدراسة قدر التشويش في عملية الاتصال بين المرسل والمتلقي، ومدى دقة الرسالة التي تلقاها المستقبل، بأسلوب علمي دقيق.

وظيفة التنبؤ: هناك علاقة قوية بين الفهم والتنبؤ، فالتنبؤ مبني على الفهم، الذي هو نقطة البداية للوصول إلى المجهول. ومن خلال هذه العلاقة يمكن أن نفترض وجود علاقة وظيفية بين أحداث ومكونات الحدث الإعلامي، والاستفادة منها. والتنبؤ هو جزء من خطة التحقق التي نختبر بها صحة معلوماتنا وتساعد من ناحية أخرى على زيادة الفهم بناء على المعلومات المتوفرة لدينا. والتأكد من قدرة النموذج على ربط العناصر غير المرتبطة بالحدث، وغير المعروفة سابقاً، وإظهار التماثل والارتباط بينها، وتنظيم المعلومات المنفصلة بشكل يسهل تخزينها في الذاكرة.

وظيفة التحكم: وبعد الفهم والتنظيم والتنبؤ، نصل للهدف الأخير من أهداف نماذج الاتصال وهو التحكم، الذي يعتبر من مستلزمات تطوير المعرفة. من خلال السيطرة على الظواهر واستخدامها لصالح الإنسان. والأهداف الثلاثة: الفهم والتنظيم والتنبؤ، تخدم التحكم من خلال معالجة الظروف التي تحدد حدوث الظاهرة، والتمكن من الوصول إلى هدف معين. والقدرة على التحكم مرتبطة بالقدرة على التنبؤ. وبدوره يساعد التحكم على اختبار صحة التنبؤات، ومدى فهم الظاهرة بشكل عام، ولكي يتحقق التنبؤ لابد من التحكم بالظروف التي تحدد الظاهرة ذاتها.

صعوبات تصميم نماذج عملية الاتصال: من أهم الصعوبات في تصميم نماذج عملية الاتصال: 1- الاضطرار إلى تجميد عملية الاتصال، لوصف عناصرها ومكوناتها. وهي أشبه بالصورة التي تجمد الحدث ولكنها لا تمثله. وتغفل العلاقات بين العناصر وتجمد حركة تفاعل الأحداث. 2- إغفال بعض العناصر بسبب تجميد عملية الاتصال، أو فصل بعض العناصر التي لا تقبل الفصل. لأن عملية الاتصال لا تتضمن خط يحدد الحدود بين أجزاء عملية الاتصال، ووضع الفواصل سيؤدي إلى إغفال طبيعة الاتصال الدائرية، مرسل - رسالة - متلقي - راجع صدى. 3- الاضطرار إلى استخدام اللغة في الوصف، واللغة كما هو معروف تخضع للتغيير من وقت لآخر، لأن استخدام اللغة لوصف شيء يتطلب استخدام كلمات بعينها، بحيث نضطر إلى تجميد العالم المادي بشكل ما، ووضع كلمات قبل أخرى، أو حذف بعض الكلمات. ولهذا لا يكون اختيار الكلمات في الوصف موضوعياً تماماً.

الأنواع المختلفة لنماذج عملية الاتصال: تتعدد نماذج عملية الاتصال بتعدد الأسئلة التي يتم طرحها من خلال البحث عن المعرفة. ويميل بعض خبراء الاتصال إلى تقسيمها وفق مستويات الاتصال التالية: 1- الاتصال الذاتي داخل الفرد. 2- الاتصال بين فردين. 3- الاتصال داخل الجماعة. 4- الاتصال عبر الثقافات. 5- الاتصال بشكل عام. 6- الاتصال عبر وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية. بينما يميل البعض الآخر إلى تقسيم النماذج الاتصالية على أساس الهدف والمادة، إلى نماذج بنائية تهدف إظهار الخصائص الأساسية لأي حدث. وتعتمد على عدد وحجم وترتيب الأجزاء المتصلة داخل النظام. وإلى نماذج وظيفية تتعرض للقوى التي تكون ذلك النظام، وتحدد اتجاهاتها وعلاقاتها بالتأثير. ويميل البعض الآخر إلى تقسيم النماذج الاتصالية إلى أربعة أنواع رئيسية، وهي:

1- النماذج اللفظية: وتتكون من سلسلة عبارات تحاول تحديد أهداف المشتركين في عملية الاتصال. ووصف طبيعة عملية الاتصال. وهي من أقدم النماذج على الإطلاق (الخطابة). ومن النماذج اللفظية الهامة، نموذج كينيث برك، ونموذج لازويل، ونموذج فرانكلين فيرنج. ويقسم كينيث برك المجالات الأساسية لدراسة دوافع الاتصال إلى خمسة مجالات هي: 1- الحدث The Act؛ 2- خلفية الحدث The Scene؛ 3- القائم بالاتصال The Agent؛ 4- الوسائل The Agency؛ 5- الدوافع The Purpose. وجاء نموذج كينيث كنموذج معاصر للنموذج الكلاسيكي السابق الذي وضعه أرسطو. أما هارولد لازويل رائد تحليل المضمون الإعلامي، فقد قدم خمسة أسئلة يمكن من خلالها وصف السلوك الاتصالي، وهي: 1- من يقول؟ 2- ماذا يقول؟ 3- ومن خلال أي وسيلة؟ 4- ولمن يقول؟ 5- وبأي تأثير؟ وهذا النموذج أقرب لنموذج أرسطو الذي يتضمن: 1- المصدر. من يقول ؟ 2- الرسالة. يقول ماذا ؟ 3- المتلقي. لمن يقول ؟ ولكن لازويل أعطى نفس الأهمية للوسيلة التي تنقل الرسالة، ولتأثير الرسالة الإعلامية. أما جربنر فقد حدد لعملية الاتصال عشرة عناصر متغيرة هي: 1- شخص ما، 2- يدرك حدث ما، 3- ويقوم برد فعل ما، 4- في ظرف ما، 5- بوسائل معينة، 6- لتقديم مادة ما، 7- بشكل ما، 8- وفي إطار محدد، 9- لنقل مضمون معين، 10- له نتيجة معينة.

2- النماذج الرياضية: وهي النماذج الإحصائية.

3- النماذج اللفظية المصورة: ( النماذج الرمزية) وهو امتداد للنموذج اللفظي. وهدفه توضيح عناصر النموذج اللفظي، وتقديم صورة للهدف عن طريق تفسير العلاقات المعقدة لعملية الاتصال التي لا تستطيع الكلمات عرضها. ويمثل المخطط التالي عناصر النموذج اللفظي المصور لعملية الاتصال، ويتضمن: مصدر، ينقل رسالة إعلامية إلى متلقي.

آ- مصدر --< رسالة --< ب- متلقي ومن النماذج اللفظية المصورة الهامة، نموذج شانون وويفر، ونموذج وستلي وماكلين، ونموذج بارتلند، ونموذج ولبر شرام. 4- النماذج التفسيرية: وسنتحدث عنها في فصل خاص. مثل نموذج التوازن عند هيدر، ونموذج نيوكومب، ونموذج أسجود وتاننباوم، ونموذج فستنجر عن التعارض في المعرفة. كما وسنستعرض في الفصول القادمة عملية الاتصال، من خلال ثلاثة مسارات رئيسة، وهي: 1- نماذج الاتصال الذاتي: من خلال خمسة نماذج، وهي: نموذج باركر ووايزمان، ونموذج صامويل بويس، ونموذج بولدنغ، ونموذج بارتلند، ونموذج ابلباوم (الإنسان كمركز لتنسيق المعلومات). 2- نماذج الاتصال بين فردين: من خلال ستة نماذج، وهي: نموذج روس، ونموذج شانون وويفر، ونموذج ديفيد برلو، ونموذج التعليم، ونموذج بارتلند، ونموذج وستلي وماكلين. 3- نماذج الاتصال الجماهيري: من خلال ثلاثة نماذج،وهي: نموذج ولبر شرام، ونموذج التحليل الوظيفي لتشارلس رايت، ونموذج ملفن ذوفلور.

نماذج الاتصال الذاتي: والاتصال الذاتي هو ما يحدث داخل الفرد، حينما يتحدث مع نفسه. وهو اتصال يحدث داخل عقل الإنسان ويتضمن أفكاره وتجاربه ومدركاته الشخصية. وفي هذه الحالة يكون المرسل والمستقبل شخصاً واحداً. فالفرد قد يناقش مع نفسه ما إذا كان سيقرأ كتاباً، أم لا يقرأ كتاباً من الكتب. أو يشاهد، أو لا يشاهد برنامجاً تلفزيونياً. أو يسمع، أو لا يسمع حديث إذاعي. فإذاً الاتصال الذاتي هو عبارة عن أنماط يطورها الإنسان من خلال إدراكه، وهو الأسلوب الذي من خلاله يلاحظ الإنسان ويقيم ويعطي معنى للأفكار التي تدور داخله عن الأحداث والتجارب المحيطة به.

خلفية عملية الإدراك واكتساب المعاني: الإنسان يولد في هذا العالم مجرداً من المعاني، وسرعان ما يكتسب معاني من محيطه تجعل من الحياة مفهومة من حوله. ومصطلح اتصال يعني التفاعل الذي يتطور من خلاله المعنى داخل الإنسان. فالاتصال ينشأ من الحاجة إلى اليقين وتحقيق الذات. وهدف الاتصال زيادة المعاني وتثبيتها في حدود الاتجاهات والدوافع وأنماط السلوك التي أثبتت نجاحها في الماضي، وما يبرز منها مستقبلاً، في ظروف سيكولوجية معينة. والاتصال ليس رد فعل، بقدر ما هو عملية يستنبط فيها الإنسان معاني للأشياء لتحقيق أهدافه الحياتية. وهنا يجب التأكيد على حقيقة أن المعنى هو شيء مستنبط من قبل الأفراد، ويتم إعطاؤه ولا يتلقاه الأفراد. فالرموز لا تتضمن معاني، ولكن المعاني تفرض عليها فرضاً. وتحليل أجزاء المعلومات الأساسية في المادة الإعلامية، لا تهتم بالوحدات الدلالية للمادة الإعلامية، لأن هذه الوحدات هي من أهداف الباحث الذي يدرس علاقة الاتصال بالظروف الاجتماعية المحيطة بالكائن الحي، بما فيها المواد الإعلامية التي يتعرض الإنسان لها، ويمكن أن تزيد من تنوع المعاني التي يستنبطها. وعملية تراكم المعرفة، كما أشار كنيث بولدنج في نظريته الإنسان كقائم بالاتصال، تنمو من خلال مبدأ داخلي منظم تماماً، مثل الجهاز الذي ينظم نمو الجسم. هذا المبدأ الداخلي المنظم في حالة الإنسان يشار إليه عادة بالتجريد، وكل معنى جديد يأتي به الاتصال يريح الإنسان ويزيد من توتره في نفس الوقت، ويؤدي إلى عملية بحث لا تتوقف عن طرق جديدة يواجه بها ما يحيط به من حقائق. وهدف الإدراك المساعدة على القيام بهذه العملية، ولمواجهة العالم من حولنا عن طريق إضفاء معاني على الأحداث يمكن أن تصمد أمام اختبار التجارب التالية. والإنسان يحدد ما يدركه، من خلال تصوره عن العالم، واتجاهاته وتجاربه السابقة، وتوقعاته للمستقبل. ويعمل الإدراك كمرشح تمر من خلاله مختلف المنبهات. وقد يعدل هذا المرشح الإدراك حيال أية تجارب سابقة، ويؤثر بها، ويؤثر الإدراك الذي كونه الحاضر على أهداف المستقبل.

وهناك ميول إدراكية يشترك بها أغلب الناس، وميول أخرى يختلفون بها. من خلال استخدام الحواس التي يتمتع بها البشر. وتتضاءل أوجه التماثل في الإدراك بين البشر، أمام الاختلافات الموجودة في الأسلوب الذي يدرك بموجبه الناس رغم تماثلهم ككائنات حية. لأن كل فرد فريد من النواحي الثقافية والعاطفية والخبرة الذاتية. ويرى كلاً من وار، وكنابر هذه الاختلافات من خلال ثلاثة عناصر، هي: 1- عنصر تخصيص المعاني وإعطاء الصفات: الذي يعطي الفرد خصائص معينة لإدراكه. مثل: الحجم والوزن واللون والذكاء والسلوك..الخ. وهي التي تساعد الإنسان على تصنيف الأشياء والأحداث، وتخيلها. 2- عنصر الخروج بتوقعات: وينطوي على توقعات تنبع من الخصائص والصفات التي نعزوها للأشياء أو الفئات. وتؤثر على إدراكنا للحدث المستقبلي، ويدعم الدلالات والصفات المدركة لدينا عن أشياء معينة أو أحداث معينة أو أفرد معينين. 3- العنصر العاطفي: ويلعب دوراً هاماً في إدراكنا عن أفراد معينين، أو أشياء بحد ذاتها. نصفها ونخرج بتنبؤات عنها، ونخرج بردود فعل عاطفية حيالها. كالتقدير والاشمئزاز، والاحترام والاحتقار، والتعاطف والرفض... الخ.

تأثير اللغة: وللغة تأثير كبير على الإدراك، لارتباطها بتفكير الإنسان وإدراكه ووجوده. فاللغة تملي على الإنسان الطريقة التي يرى من خلالها العالم ويفسر وجوده وتجاربه فيها. واللغة لا تعيد تقديم التجارب فقط، بل تشكل تلك التجارب. والفرد يختار منبهات معينة من العالم الذي يحيط به، ثم يفرض تصنيف لتلك المنبهات في فئات، تتكون من التجارب السابقة التي مر بها وتعتمد على اللغة والخلفية الثقافية. واللغة لا تستخدم بشكل علمي، بل تستخدم بشكل فيه قدر كبير من الذاتية، وقدر كبير من الفرض والإجبار، مما يجعل من عملية الفهم والاتصال بين الأفراد والجماعات والشعوب أكثر صعوبة. واللغة لا توازي الواقع بل تحاول وضعه في إطار قابل للاستخدام. وقد تضللنا اللغة عندما نقوم بتجريد ما ندركه جزئياً دون أن نفهم أن الجزء لا يمثل الكل. وتصورنا للعالم متصل بشكل عضوي بلغتنا وبالفئات التي نستخدمها في تصنيف مدركاتنا. وما نقوله لأنفسنا عما ندركه، يخضع بشكل مباشر لسيطرة عادات استخدامنا للغة. ولهذا فالاتصال يتأثر بشكل مباشر بعادات استخدام اللغة، وبهذا تصبح اللغة جزءاً لا يتجزأ من هذه العملية.

نموذج وايزمان وباركر: يعتمد نموذج وايزمان وباركر على أن الكائن الحي يتأثر بمنبهات داخلية، سيكولوجية وفسيولوجية، مثل: القلق والجوع. ومنبهات خارجية، ملموسة تحيط بالإنسان، مثل: إشارة المرور، أو لاشعورية، مثل: الموسيقى التصويرية التي تصاحب مشهداً سينمائياً، وتنتقل هذه المنبهات على شكل نبضات عصبية إلى العقل، الذي يختار بعضها ويفكر بها تمهيداً لاتخاذ قرار بعد عملية تمييز تجري خلال التفكير، وبعد إعادة ترتيب المنبهات التي اختارها العقل خلال مرحلة التمييز، يتم ترتيب هذه المنبهات في إطار له معنى عند الفرد القائم بالاتصال. وبعد تجميعها في إطار معين يتم تفسير الرموز التي تم تمييزها ويقوم القائم بالاتصال بتحويلها إلى رموز فكرية لها معنى. فإذا كان القائم بالاتصال يقرأ كتاباً، وهو جالس في الحديقة فإنه يتعرض إلى منبهات عديدة، يقوم عقله بفك رموزها، مثل: إحساس يديه بنوعية ورق الكتاب، أو عدم الراحة، أو الكتلة الهوائية المحيطة به، أو حرارة الشمس المرتفعة. وبعد اختيار المنبهات، ينتقل العقل إلى التفكير والتخطيط وترتيب الأفكار، وربط الدلالات التي تتصل بالمعرفة والخبرة السابقة، وبعد تجميع وتقييم المعلومات التي لها علاقة بالمسألة المهمة، يقوم العقل بإعداد رسالة لإرسالها أو نقلها. ومن ثم ينتقل العقل لمرحلة التأهب للظهور والاحتضان Incubation التي تتيح الفرصة للأفكار بالنمو والتطور حتى تأخذ أشكالاً واتجاهات مفيدة. وتتميز هذه المرحلة بأن الدلالات الفكرية قد أصبحت جاهزة لوضعها في رموز لها معنى، ككلمات أو حركات. وفي مرحلة الإرسال النهائية يتم إخراج الكلمات والحركات التي وضعها القائم بالاتصال في الرموز بشكل مادي ملموس، بواسطة الكلام أو الكتابة أو الحركة... الخ، حتى يستطيع المستقبل تلقيها كمنبهات. والجانب الآخر من نموذج وايزمان وباركر، هو راجع الصدى أو التأثير المرتد. كسماع الفرد لنفسه عند الكلام في التأثير المرتد الخارجي. أو إحساساته الداخلية في التأثير المرتد الداخلي. ويسمح التأثير المرتد للقائم بالاتصال بتعديل وتصحيح موقفه الاتصالي أثناء عملية الاتصال.

نموذج صامويل بويس: يعتبر صامويل بويس في نموذجه الإنسان كمفاعل دلالي، ويركز على ما يفعله الإنسان، من خلال أربعة مجالات أساسية للنشاط الإنساني، تتفاعل مع بعضها في آن معاً داخل الإنسان، وهي: 1- المجال الكهروكيميائي: وهو عبارة عن ردود فعل كهربائية وكيميائية في جسم الإنسان. 2- مجال يتحرك ذاتياً: ويشمل الأحاسيس والحركات اللاإرادية لأعضاء جسم الإنسان, والحركات الإرادية له. 3- الشعور: ويشمل العواطف والدوافع والاحتياجات والقيم. 4- التفكير: ويشمل عمليات فك الرموز، والاتصال الذاتي. والإنسان في نموذج بويس لا يعيش منعزلاً، لأنه محاط بظروف طبيعية متفاعلة دائماً، ومتصلة بالمجالات الأربع أنفة الذكر. والإنسان لا يعيش الحاضر فقط، بل يعود رد فعله الدلالي ويتأثر بردود أفعاله السابقة، ويتأثر بتنبأته المبدئية عن المستقبل. ويفسر هذا النموذج الأسلوب الذي يدرك به الإنسان الظروف المحيطة به، وكيف يفسرها ويتفاعل معها. وكيف يعطي لتجاربه معنى.

نموذج بولدينج: ويهتم نموذج بولدينج أصلاً، بسلوك الإنسان، الذي يطور وينمي تصور منظم للعالم عند الإنسان، ويخلق لديه بناءاً عاماً له معنى محدد. لأن مدركات الفرد مرتبطة بتجربة الحياة لديه، وكل تجربة جديدة تجد مكانها في التصور الذي تكون عن العالم، وكل تجربة تؤيد التصور الأساسي لديه. ويتم تفسيرها بإحدى الطرق الأربع التالية: إضافة معلومات جديدة إلى التصور الحالي، أو تدعم التصور الحالي، أو تحدث تعديلات طفيفة على التصور الحالي، أو تؤدي إلى إعادة بناء التصور الحالي لواقع الفرد من جديد. وكل ذلك يعطي تلك المدركات معنى محدداً عن التجربة التي يمر بها الإنسان.

نموذج بارنلند: يؤكد نموذج بارنلند على حقيقة أن الاتصال له طبيعة دائرية ويسير في اتجاهين من المرسل إلى المتلقي، ومن المتلقي إلى المرسل. واهتم هذا النموذج إضافة للخصائص البنائية للاتصال: المصدر، والرسالة، والوسيلة، والمتلقي، بالعلاقة الوظيفية للاتصال التي تتحكم بالجوانب التكوينية. ويؤكد أن الاتصال هو عملية، مع التركيز على العلاقات الفعلية التي تدخل في ظاهرة الاتصال. وأدى تركيز نموذج بارنلند على الوظائف الاتصالية، إلى ازدياد الاهتمام بالإطار الذي يحدث فيه الاتصال، والقالب الاجتماعي الذي يحدث فيه التفاعل. وأكد على أهمية الدلالات المتنوعة التي تؤدي إلى التأثيرات الداخلية والخارجية. ويرى بارنلند أن نقل المعنى في الاتصال الشخصي هو أمر شديد التعقيد وديناميكي مستمر ودائري، لا يتكرر ولا يرتد. والمعنى يصنعه القائمون بالاتصال عندما يستجيبون للدلالات المادية والسيكولوجية للقائمين بالاتصال الآخرين. بالاشتراك مع دلالات أخرى موجودة داخل الظروف المحيطة والزمن والمساحة. والدلالات الإدراكية هي: 1- دلالات عامة: مثل درجة حرارة الأشياء، وتنقسم إلى: أ) دلالات طبيعية: يوفرها العالم المادي دون تدخل الإنسان، الأحوال الجوية من حرارة ورطوبة، وخصائص البصر واللمس، وتمييز الألوان، والظواهر الطبيعية. ب) دلالات صنعية: ناتجة عن تأثير الإنسان وتعديله للظروف المحيطة. 2- دلالات خاصة: مثل الإحساس بالألم، والطعم، والسماع والمشاهدة بواسطة أدوات خاصة. 3- دلالات سلوكية غير لفظية: وتتكون من الملاحظات التي يصنعها القائم بالاتصال بنفسه.

نموذج الإنسان كمركز لتنسيق المعلومات: مركز تنسيق المعلومات الآنية عند البشر يعمل على ضوء تفسير المعلومات على ضوء التجارب السابقة والتوقعات المستقبلية وهي حالة فردية. فكل فرد يتعرض لمنبهات داخلية وخارجية كثيرة ويختار ويصنف ويعطي معاني لما يختار أن يدركه، وتنقسم تلك المنبهات إلى ثلاثة مكونات، وهي: 1- الفرد نفسه ومنبهاته الداخلية. 2- الإطارات التي ينظر الفرد من خلالها إلى المنبهات الداخلية والخارجية. 3- المنبهات الخارجية والمجال الذي يستند على التجربة الفردية. وهذه المكونات متصلة ببعضها البعض اتصالاً وثيقاً ومن الصعب القول من أين تبدأ ومن أين تنتهي.

وهكذا نرى أن كل نموذج من تلك النماذج يعطي صورة معينة عن الاتصال الذاتي، وللطريقة التي بمقتضاها يتصل الإنسان بذاته وبها يحاول فهم العالم المحيط به من حوله. وأن الاتصال الذاتي هو عبارة عن العمليات الشعورية التي تحدث داخل الفرد، نفسه مع نفسه، دون فهم للذات، ودون تكوين صورة واقعية للذات مما يؤدي إلى تحويل الاتصال بين الأفراد إلى عملية صعبة. ولابد لكل إنسان أن يلاحظ الاختلافات في الصور التي يكونها لنفسه خاصة وأن مفهوم الإنسان عن نفسه يتأثر بمحيط الناس من حوله، وفق المكان والزمان والمجتمع المحيط به. وتلك العوامل تحدد ردات الفعل التي سيقوم بها الإنسان من خلال عملية الاتصال. والفكرة من الذات هي تنظيم الخصائص التي يعزوها الفرد لنفسه. وتتضمن أهدافه وطموحاته وذكائه والدور الاجتماعي الذي يحدده لنفسه. وتنبع فكرة الفرد عن نفسه من خلال التفاعلات الاجتماعية، التي تؤثر بدورها على سلوكه. ومن المبادئ الأساسية لنظرية مفهوم الذات: 1- أن مفهوم الفرد عن نفسه يعتمد على فهمه للطريقة التي يستجيب بمقتضاها الآخرين له. 2- مفهوم الفرد عن نفسه يوجه سلوكه. 3- إدراك الفرد لاستجابات الآخرين له، يعكس الاستجابات الفعلية للآخرين نحوه. 4- الأسلوب الذي يدرك بمقتضاه الفرد استجابات الآخرين نحوه تؤثر على سلوكه. ومن المبدأين الأول والثالث يستنتج: 5- أن الاستجابات الفعلية للآخرين، تحدد الطريقة التي ينظر الفرد من خلالها إلى نفسه (مفهومه عن ذاته). ومن جمع المبدأ الثاني والثالث والرابع والخامس نستنتج: 6- أن الاستجابات الفعلية للآخرين ستؤثر على سلوك الفرد. أي أن الاستجابات الفعلية للآخرين هامة لأنها تحدد الطريقة التي يحدد الفرد مواقفه من نفسه، وهذا المواقف تؤثر على مفهومه عن ذاته، وتؤدي إلى توجيه سلوكه.

نماذج الاتصال بين فردين: الاتصال بين فردين (الاتصال الشخصي) هو العملية التي تحدث يومياً، حين ندخل في مناقشة، أو نعطي أو نتلقى أوامر، أو نتبادل التحية. ومن فهم لعملية الاتصال الشخصي، يمكن أن نفهم أنماط الاتصال الأكثر تعقيداً. ومن نماذج الاتصال بين فردين: نموذج روس R.S. Ross: الذي يعتمد على خمس متغيرات يعتبر أنها مؤثرة على الاتصال الشخصي بين الأفراد، وهي: المرسل يحول معلومات لديه إلى أفكار، وينقلها من خلال رسالة عبر وسيلة اتصال معينة إلى متلقي يستجيب لها عن طريق إعادة بناء الفكرة الأصلية للمرسل، وبذلك يحقق المرسل الهدف، وهو راجع الصدى. ويؤكد روس على أهمية الظروف المحيطة والجو العام الذي تتم فيه عملية الاتصال، والذي يتضمن بدوره المعرفة، والتجارب السابقة، والمشاعر، والعواطف، لدى المرسل والمستقبل على السواء. إضافة للرموز، واللغة، والصوت، وترتيب المعلومات، التي تشكل كلها مجتمعة الحدث الاتصالي. نموذج شانون وويفر Claude Shannon and Warren Weaver وتعتمد نظرية المعلومات التي قدمها كلود شانون في عام 1948، على مفاهيم رياضية للاتصال تشبه إلى حد ما الطريقة التي تقوم بها الآلات بنقل المعلومات. أما النظام الاتصالي في نموذج شانون وويفر فيتكون من مصدر يختار رسالة ويضعها في رموز بواسطة جهاز إرسال يحولها إلى إشارات ثم يقوم جهاز الاستقبال بفك الرموز، ويحولها إلى رسالة يستطيع الهدف (المستهدف من عملية الاتصال) أن يستقبلها. أما التغييرات التي تطرأ على الرسالة في جهازي الإرسال والاستقبال فترجع إلى التشويش الذي يحدث أثناء عملية الاتصال. ويركز شانون على دراسة العملية الاتصالية من النواحي الفنية، والدلالية، والتأثيرية. فكيف يمكن للمصدر أن يوصل رسالته إلى الهدف بأقل قدر من التحريف والخطأ، أخذين بعين الاعتبار خصائص الوسيلة التي تقوم بنقل الإشارات مع وجود التشويش ؟ والجواب يكمن في نقل الرسالة بأقل قدر ممكن من التطويل والحشو، حتى يستطيع المتلقي من إعادة بناء الرسالة الأصلية من المادة التي وصلت إليه مع التشويش الذي طرأ على الرسالة أثناء عملية النقل. ومن أجل فهم نظرية المعلومات لابد مكن شرح بعض المفاهيم، كمفهوم التشويش الذي يؤدي إلى ظهور اختلاف بين الرسالة المرسلة، والرسالة المستقبلة. وللتشويش نوعان هما: 1- التشويش الميكانيكي: الناتج عن التداخل الفني، أو التغيير الذي يطرأ على الإشارة المرسلة، أثناء انتقالها من المصدر إلى الهدف المقصود، كضعف النطق أو التحدث بسرعة أثناء البث الإذاعي المسموع أو المرئي. 2- التشويش الدلالي: الذي يحدث داخل الفرد حينما يسيء الناس فهم بعضهم بعضاً لأي سبب من الأسباب. ومفهوم النظام في عملية الاتصال: هو تسلسل أي جزء من أجزاء المعلومات. ويمكن أن تسمية عملية تقوية ترددات الاستقبال في أجهزة الاستقبال الإذاعية المسموعة والمرئية وأجهزة الهاتف نظاماً، والعصب السمعي والبصري لدى الإنسان نظاماً، والإطار الدلالي للفرد نظاماً. وكل نظام من هذه الأنظمة قادر على استقبال إشارات متعددة كما ويمكن وصل كل نظام منها بنظام آخر من أجل توفير تسلسل الاتصال. ويحدث الاتصال عادة عندما يتصل نظامين مختلفين أو متطابقين ببعضهما البعض بواسطة نظام واحد، أو عدة أنظمة غير متناظرة. مما يؤدي إلى حدوث حالة من التطابق نتيجة لنقل إشارة عبر كل سلسلة الاتصال. كانتقال الصوت عبر الهاتف مثلاً. ومفهوم المعلومات عند شانون غير عادي لأنه لم يتقيد بتصور سابق عن اللغة، واكتفى بمشاكل الإرسال الفنية لأي نظام من أنظمة الاتصال فقط. ومصدر المعلومات الذي يقوم باختيار ما لا يعرفه الهدف من عملية الاتصال. ومفهوم الحشو أو الإطالة من أكثر مفاهيم نظرية الإعلام أهمية، ويعتمد هذا المفهوم أساساً على مدى إمكانية الحذف والزيادة في الرسالة الإعلامية للحد من تأثير التشويش، والتقليل من المجازفة وضمان فهم مضمون الرسالة الإعلامية لدي المستقبل. ومفهوم رجع الصدى: هو من المفاهيم الأساسية في نظرية الاتصال ونقل المعلومات، لأن الاستجابة لرسالة ما، تسيطر وتتحكم دائماً في الرسالة التالية التي تليها.

علم التحكم الأوتوماتيكي: اشتهر نوبرت ويفير (1894- 1964) أستاذ الرياضيات في معهد ماساتشوسيت للتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية، بأبحاثه العلمية في مجال التحليل الرياضي، ونظريات الاحتمالات، والعمليات الفجائية. وكان أول من استخدم اصطلاح Cybernetics كيبرنيتيك، وأخذه من الكلمة اليونانية كيبرنيتيس Cybernetics وتعني قيادة، ومنها اشتقت الكلمة الإنكليزية Governor التي تشير إلى السيطرة الميكانيكية. وعلم التحكم الميكانيكي، وهو علم المراقبة بواسطة آلات إعلامية، سواء أكانت تلك الآلات طبيعية أو عضوية أو من صناعة الإنسان. وولد هذا العلم في الولايات المتحدة الأمريكية خلال أربعينات القرن العشرين. وشجعت الحرب العالمية الثانية تطوير أبحاث التحكم الأوتوماتيكي الذي يحتاج للدقة والسرعة لأداء المطلوب منه. وتمكن العلماء من ابتكار آلات قادرة على التفكير والاتصال، أطلق عليها اسم العقول الإليكترونية، وكانت تلك العقول قادرة على الخروج باستنتاجات استدلالية وقياسية، وقادرة على حل مشاكل رياضية، والتنبؤ منطقياً. وتمكن الإنسان من تعليم الآلات أن تفكر تفكيراً منطقياً وتتعلم وتتصل حتى توصلت عبقرية الإنسان لإدخال شبكات الانترنيت العالمية حيز الخدمة الفعلية. وقال العلماء: أن جسم الإنسان ما هو إلا عبارة عن نظام كيبيرنيتيكي معقد، تتحكم به أجهزة تنظيم ذاتية لا حصر لها، وأن كل خلية في الجسم البشري ما هي إلا جهاز تحكم أوتوماتيكي. وأن هناك ملايين من وحدات التحكم الأوتوماتيكي الدقيقة التي تعمل دون توقف داخل جسم الإنسان.. وهذه الوحدات هي التي تتحكم بدوران الدم داخل الجسم، وفي تركيب العصارات المعدية والهضم، وتحافظ على انتظام عملية انقباض القلب والرئتين، وآلاف العمليات الأخرى التي نسميها اصطلاحاً بالوظائف الحية لأي كائن حي. وتحقق ما تنبأ به وينر وأصبح العالم اليوم يتناول عملية الاتصال، والآلات الذكية "الكمبيوتر" تقوم بها، وتتصل مع بعضها عبر الشبكات المعقدة التي تلف الكرة الأرضية والفضاء الكوني. وجاء ميتشو كاكو في النصف الثاني للقرن العشرين ليتنبأ بأن العلماء سينتجون آلات تمتلك أحاسيس مثل البشر، وأجهزة الحاسبات الإلكترونية "كمبيوتر" تتفوق على الإنسان حسابياً، وتعجز أمام الحقائق البيولوجية في القرن القادم. وقال أن ثورة الحاسوب ستغير أسلوب حياة البشر خلال القرن الواحد والعشرين، وأنها ستكون سبباً في تحول البشر من مجرد مراقبين سلبيين لأسرار الطبيعة، إلى أسياد لها يتحكمون في ظواهرها، وسوف يغدو في وسعهم صياغة المادة، والتحكم بأسس الحياة ووظائفها، وصناعة الذكاء ونشره في العالم المحيط بهم. ولعل الأنظمة الخبيرة التي تنطوي على برامج لكشف المعارف المتراكمة لخبرات الإنسان، ويمكنها أن تحلل المشاكل كالبشر تماماً، ومن الأمثلة على ذلك، هو ما تقوم به أجهزة الحاسبات الإلكترونية (الكمبيوتر) وشبكة الانترنيت العالمية اليوم من خلال البرامج المتقدمة التي وضعت قيد التداول الفعلي.

وقد قسم نوبرت وينر الآلات إلى ثلاثة أنواع رئيسية، هي: 1- آلات القرن السابع عشر، وأوائل القرن الثامن عشر التي اتسمت بالبساطة، مثل: الساعات الميكانيكية. 2- آلات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والتي كانت آلات تتحرك بمصدر خارجي للطاقة، تحول الطاقة الكيميائية إلى قدرة حركية، مثل: الآلة البخارية. 3- آلات الإعلام، وهي الآلات التي تميز بها القرن العشرين. وأحدثت ثورة معلوماتية حقيقية شملت العالم كله مع نهاية القرن العشرين.

نموذج ديفيد برلو: نشر ديفيد برلو نموذجه عن الاتصال الشخصي بين فردين عام 1960. وافترض في نموذجه أن الفرد يجب أن يفهم السلوك البشري حتى يستطيع أن يحلل عملية الاتصال، وتضمن نموذج برلو العناصر الرئيسة التالية: آ- مصدر: ويتوقف نجاح عملية الاتصال على بعض الشروط في المصدر، منها: 1- مهارات الاتصال عند المصدر: وتتضمن خمسة مهارات أساسية، تتعلق اثنتان منهم بفك الرموز، وهما القراءة والاستماع. والخامسة بالمقدرة على التفكير ووزن الأمور لتحديد الهدف من عملية الاتصال. إذ تؤثر مهارات الإنسان في قدرته على تحليل الأهداف، وعلى ما يقوم به من ردود فعل أثناء عملية الاتصال. وتؤثر على كيفية تحويل الرسائل إلى رموز تعبر عما يختزنه الذهن من معلومات وأفكار وخبرات. 2- اتجاه المصدر نحو نفسه: فإذا كان اتجاه الفرد نحو نفسه سلبياً، فيحتمل أن يؤثر ذلك على نوع الرسالة التي يضعها المصدر، وعلى تأثيرها. 3- اتجاه المصدر نحو الموضوع: عندما يقرأ الإنسان مقالاً أو كتاباً، أو يستمع إلى محاضراً...، يبقى لديه انطباع عن اتجاه الكاتب أو المتحدث نحو الموضوع ايجابياً كان أم سلبياً. 4- اتجاه المصدر نحو المتلقي: لأن اتجاهات المصدر نحو المتلقي هي من العوامل التي تحدد مدى نجاح أو فشل عملية الاتصال. ولأن القارئ أو المستمع لن يقتنع بكلام شخص لا يشعر في أعماقه أنه يهتم به ويحترمه، بصرف النظر عما إذا كان ما يقوله صحيحاً ومنطقياً. 5- مستوى المعرفة عند المصدر: لأن قدر المعرفة عن الموضوع يؤثر على الرسالة، فالإنسان لا يستطيع أن يقول ما لا يعرفه. ولا يمكن نقل مضمون رسالة غير مفهومة. ولهذا تستعين وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية بالمحررين المتخصصين لتبسيط المعلومات، وصياغتها بلغة مفهومة للجمهور الإعلامي كي يفهمها. ولا يكفي معرفة الموضوع من قبل المصدر بل يجب أن يكون المصدر قادر على نقله بشكل مفهوم ومبسط. 6- النظام الثقافي والاجتماعي: إذ يتأثر القائم بالاتصال بمركزه في النظام الاجتماعي والثقافي. وهذا يفرض علينا معرفة أنواع النظم الاجتماعية التي يعمل في إطارها القائم بالاتصال، ومكانته في النظام الاجتماعي، والأدوار التي يؤديها فيه، والمهام التي يجب أن يقوم بها، والوضع الذي سيراه فيه الجمهور الإعلامي. ب- رسالة: لكل رسالة عناصر وتكوين، فالأفكار هي عناصر، وطريقة تنظيم تلك العناصر هي التكوين. وهناك أمور ثلاثة على الأقل يجب أن نراعيها بالنسبة للرسالة الإعلامية، وهي: 1- رموز الرسالة: التي يجب أن توضع في ترتيب معين، وفي تكوين لغوي له معنى، ليصبح لها معنى عند المتلقي، وإلا ضاعت الرسالة وفقد معناها. 2- مضمون الرسالة: وهي المادة التي اختارها المصدر ليعبر عن أهدافه. ومضمون الرسالة هو العبارات التي تقال، والمعلومات التي تقدم، والاستنتاجات التي يمكن الخروج بها، والأحكام التي يمكن اقتراحها. ويجب أن تقدم المادة بترتيب ما لبناء المضمون. 3- معالجة الرسالة: وتتعلق بالقرارات التي يتخذها المصدر، وبالطريقة التي يقدم بها المصدر رسالته. فهو قد يختار معلومة معينة ويتجاهل أخرى، وقد يكرر الدليل أكثر من مرة في سياق الرسالة ليثبت رأيه، وقد يلخص رأيه في البداية أو النهاية. وقد يذك المصدر كل الحقائق في رسالته الإعلامية، أو أن يترك بعضها للمتلقي ليكمل بعض جوانبها التي لم تذكر في الرسالة صراحة (استنتاج). ج- وسيلة: وهي القناة التي ستحمل الرسالة الإعلامية من المصدر إلى المتلقي. ويتوقف اختيارها على قدرات كلاً من المصدر والمتلقي على حد سواء. د- متلقي: وما ينطبق على المصدر، ينطبق على المتلقي. لأن المصدر والمتلقي وفق نموذج برلو، متماثلان، وأحياناً هما شخصاً واحداً. وقد يتحول المصدر إلى متلقي أثناء عملية الاتصال، ويبقى المتلقي أهم حلقة في عملية الاتصال، وعلى المصدر أن يضع المتلقي في اعتباره دائماً عند اتخاذه لأي قرار يمس عوامل عملية الاتصال. ومن نقاط الضعف في نموذج برلو أنه لم يتناول موضوع التقييم، أو راجع الصدى، أو التأثير المرتد، إلا في سياق المناقشة فقط.

نموذج الاتصال في الإطار الشخصي (نموذج التعلم): التعلم هو التغيير الذي ينتج عن العلاقة الثابتة بين ما يدركه الفرد، والاستجابة التي يقوم بها، سواء أكانت هذه الاستجابة علنية أم خفية. ويحدث التعلم في حال استمرار الفرد القيام بنفس الاستجابات القديمة رداً على منبه جديد، أو قيامه باستجابة جديدة على منبه قديم. وهناك علاقة بين التعلم وعملية الاتصال، لأن هدف القائم بالاتصال أساساً تغيير سلوك المتلقي ليتعلم خبرات جديدة. ولنفرض أن شخصاً ما يسعى لينتخبه الناس لمنصب هام للمرة الأولى. والناخبون لا يعرفونه من قبل، ويريد جعلهم ينتخبونه. ويعرف أن الناخبين قد انتخبوا غيره في السابق أي مروا بتجربة الانتخاب، أي لديهم استجابة قديمة. فيسعى إلى تغيير الاستجابة القديمة إلى منبه جديد يدخل ضمن عناصره، وهذه العملية بحد ذاتها هي عملية اتصال وتكمن فيها أهداف التعلم. أو أن أحد المنتجين يريد الإعلان عن سلعة معينة، معروضة للبيع منذ فترة دون إقبال المستهلكين على شرائها. وعلى ضوء نظرية التعلم نستخلص أن السلعة (منبه) قديم، استجاب إليها المستهلك بعدم الشراء، وأصبح الهدف الآن جعل المستهلكين يغيرون استجاباتهم للمنبه القديم ويقدمون على شراء السلعة القديمة. وهذه العملية بدورها حالة اتصالية تنطوي على مهارات التعلم.

وعملية التعلم تعتمد على استجابة الإنسان للمنبه من خلال إدراكه وحواسه. وتتضمن عملية التعلم: وجود المنبه، الذي يستطيع الفرد إدراكه بحواسه، وأن يدرك الفرد هذا المنبه، وأن يفسر الفرد المنبه الذي أدركه. ليكون استجابة معينة للمنبه. ومن ملاحظة الاستجابة نرى أن الفرد يحافظ على الاستجابة التجريبية إذا أدرك أن نتائجها مفيدة له، ويترك الاستجابة التجريبية إذا أدرك أنها غير مفيدة. ومن ذلك نستنتج أن مكونات عملية التعلم هي: تقديم منبه، وإدراك هذا المنبه، وتفسير هذا المنبه، والإقدام على استجابة تجريبية، وتقييم نتائج الاستجابة التجريبية، والقيام باستجابات أخرى، وتطوير العلاقة الثابتة بين المنبه والاستجابة. أي تطوير ما تعود عليه الفرد. وقوة العادة لدى الإنسان تنشأ عادة عن: 1- التكرار: عندما نتعلم مهارات جديدة، تؤدي الممارسة وتكرار الحدوث للوصول إلى الكمال. 2- العزل: يتعرض الإنسان لوسائل إعلام جماهيرية مختلفة، ولكن إن استطاع مصدر الإتصال أن يعزل المتلقي، أو يقلل من الرسائل المتوافرة له، أصبح في إمكانه زيادة فرص تعرض ذلك المتلقي لرسالة المصدر هذا فقط، وليس للرسائل الأخرى المنافسة. واعتمدت بعض الدول كالإتحاد السوفييتي السابق ودول المنظومة الاشتراكية إلى السيطرة التامة على وسائل الإعلام الجماهيرية، ولم تسمح بنقل رسائل إعلامية تنافس الرسائل الإعلامية للحكومة، وفرضت على الجمهور الإعلامي وجهة نظر واحدة فقط. ويرى البعض في تركيز ملكية وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية، في أيدي قلة من المالكين أمراً يدعو للقلق. فقد ازداد عدد المدن الأمريكية التي لا يوجد فيها صحفاً منافسة، ويعزو البعض ذلك إلى أسباب اقتصادية بحتة، وليس لأسباب سياسية. 3- مستوى الفائدة: فكلما زاد مستوى الفائدة من المنبه الجديد، كلما زاد مستوى الاستجابة له من قبل المتلقي. 4- تأخير الفائدة: ويؤثر على قوة الاستجابة، لأن الفائدة المباشرة تزيد من احتمال استبقاء تلك الاستجابة أكثر. ومنه يمكن أن نخرج بحقيقتين هامتين، هما: أن المادة الإعلامية التي توفر الفائدة المباشرة والسريعة، يحتمل أن يستجيب لها كل شخص، بينما المواد التي توفر فائدة آجلة، فقد يقرؤها من كان له حظاً أوفر من التعليم فقط. 5- الجهد المطلوب للاستجابة: فإذا تساوت الظروف، يلجأ الفرد إلى استجابات تحتاج إلى مجهود بسيط، ويعرض عن الاستجابات التي تحتاج لمجهود كبير. ولهذا يجب التقليل من المجهود المطلوب من المتلقي لتحقيق الاستجابة المطلوبة.

وعندما نقوم بإعداد الرسائل الإعلامية، أو عندما نتلقى رسائل إعلامية، أو نحلل عملية الاتصال علينا أن نأخذ بعين الاعتبار: 1- الاستمرار في تقديم الرسالة الإعلامية، مع أو دون تحقيق فائدة للمتلقي. 2- وجود أو عدم وجود منافسة بين المنبه أو الاستجابة، ومنبه واستجابة أخرى. 3- قدر الفائدة التي يشعر المتلقي أنه حصل عليها نتيجة للاستجابة. 4- الفترة الزمنية بين القيام بالاستجابة والفائدة التي حصل عليها المتلقي. 5- المجهود المطلوب من المتلقي للقيام بالاستجابة المطلوبة. والتعلم والفائدة مرتبطتان ولهما دوراً أساسياً في تقوية العادات السلوكية لدي المتلقي، وجعل عملية الاتصال أكثر فاعلية. وللفائدة دوراً أساسياً في تقوية العادة وتحقيق أهداف عملية الاتصال. فنحن كمصدر للاتصال أو متلقين للاتصال، نريد إشباع حاجاتنا، وتحقيق أهدافنا. والهدف الرئيسي هو التأثير، فنحن نحاول التأثير على أنفسنا وعلى الآخرين وعلى الظروف المادية المحيطة بنا. فالإنسان يسعى دائماً إلى التقليل من إحساسه بالتوتر، ويسعى للحصول على الحقائق التي تساعده على زيادة يقينه بما يحدث فعلاً. وهذه العلاقة بين الحقيقة، والتوتر، وتكمن في نظرية هوميوستيز في التعلم، والتي تدخل في نظرية أسجود وتانينباوم عن مبدأ الاتفاق في الاتصال، ونظرية فستنجر عن تنافر وتآلف المعرفة في السلوك البشري. وكلها متصلة بمفهوم الفائدة. وفي أي ظرف اتصالي، علينا أن نختار موضوعات على ضوء النتيجة التي نتوقع أن يحصل عليها المتلقي، وكقائمين بالاتصال علينا أن نتذكر أن الاستجابة التي نريدها من المتلقي تكمن في الفائدة التي يحصل عليها، وإلا فإنه لن يكررها ولن يتعلمها. وأن الاتصال الفعال يجب أن يؤكد الجوانب الإيجابية ويقلل من الجوانب السلبية، ولو أن التعلم يتطلب خلق توتر، وتقليل اليقين الفردي، ولكن هذا التوتر يجب أن يكون خلاقاً ليصبح ذو فائدة.

نموذج بارنلند، للاتصال بين فردين: أشرنا عند استعراضنا لنموذج بارنلند للاتصال الذاتي عن أن عملية الاتصال من وجهة نظره هي عملية دائرية، وأنه لا يهتم بالعناصر البنائية للاتصال بقدر اهتمامه بالعلاقات الوظيفية التي تحكم الجوانب التكوينية والقالب الاجتماعي الذي يحدث فيه التفاعل. وتناولنا مدى اهتمام بارنلد بالدلالات المتنوعة التي تصنع التأثيرات الداخلية والخارجية. أما في نموذجه عن الاتصال الشخصي بين فردين، فعملية الاتصال تزداد تعقيداً. وتتضمن ثلاثة إطارات من الدلالات متصلة كلها بالظروف المحيطة، والظروف السلوكية، والظروف اللفظية، يجب مراجعتها لإضفاء معان عليها، ومقارنتها حتى يقدم كلاُ من الفردين على الاستجابة المناسبة، وهي: دلالات خاصة، ودلالات سلوكية غير لفظية، ودلالات سلوكية لفظية. وبما أن الهدف من عملية الاتصال هو تقليل عدم اليقين، فإن لكل دلالة قيمة معينة في تحقيق هدف الاتصال. ويتطلب من الإنسان أن يبقى دائماً مستعداً لتلقي الدلالات المتوفرة، وتعديل معانيها حتى تتكون لديه صورة متكاملة عن الظرف الاتصالي. ولهذا يصبح التكيف مع الظروف هو معيار الاتصال الوظيفي الذي يتضمن الاتجاه للتفكير وفقاً لدرجات متنوعة ونسب متغيرة، واعتياد العمل أو التصرف مؤقت مع إدراك واع للتأثير المقيد أو المشروط بالزمن والمكان والأفراد والظروف والتطلعات والتوقعات، والتقدير العاطفي للمشاعر المتنوعة وما تبقيه تلك المشاعر من خلال عملية الاتصال. وما تعتبره بعض الدراسات الأكاديمية خطأ في الحكم، أو انهيار لعملية الاتصال، أو اضطراب الشخصية، ما هو إلا نوع من الإهمال الاتصالي، عرف بقانون الظرف الكلي، أي الدرجة التي يستطيع أو لا يستطيع الفرد بمقتضاها الاستجابة للظرف الكلي. فالفرد قد لا يرى الدلالات الهامة الموجودة في الظروف المحيطة، وقد يحرف الدلالات اللفظية وغير اللفظية التي تعرض لها، وقد يعجز عن مراجعة الافتراضات غير الملائمة عن المكان والزمان، فإذا حدث ذلك سيكون صعباً أو مستحيلاً على الفرد إدراك المعاني التي ستسمح له المشاركة بالعمل بشكل فعال. وأخذ قانون الظرف الكلي في الاعتبار أو إهماله، أمر يمكن إثباته من خلال عمليات الاتصال البشري بكل مستوياتها، وإن كانت بين شخصين، أو أكثر. وهذا الإهمال الاتصالي موجود ويحدث في كل مكان وزمان ومع كل إنسان.

نموذج وستلي وماكلين: يعتبر نموذج وستلي وماكلين ملائماً للاتصال الشخصي بين فردين، والاتصال الجماهيري. وينقسم هذا النموذج إلى أربعة مستويات، هي: 1- التركيز على وضع الفرد نفسه بين الأحداث والأشياء من حوله. وقد يكون الفرد هذا مراسلاً صحفياً، يختار ويكتب عن أحداث وأشياء لا حصر لها. ومن الطبيعي أنه لن يستطيع التأثر بكل المعلومات، ولا يستطيع استيعاب كل الأحداث التي تدور من حوله، لأن قدراته كفرد محدودة. لهذا فإنه سيلجأ إلى التجريد وتحديد المعلومات التي سيأخذها. فتنتقل هذه المعلومات إليه عن طريق حواسه كالسمع والبصر بشكل مباشر، ويختار منها المعلومات التي يعتبرها صحيحة وتدرب على سماعها ورؤيتها وسماعها، وتناسبه وتلبي حاجاته وتساعده على حل مشاكله. 2- ويركز على المصدر الذي قد يكون فرد أو جماعة أو نظام اجتماعي، والمتلقي الذي يتأثر بوجود المصدر والأحداث والأشياء. فينقل المصدر للمتلقي معلومات إضافية بحكم وجوده، ويوفر المتلقي للمصدر رجع صدى، (تأثير مرتد)، يحيطه علماً بتأثير رسالته الإعلامية، ووجهة نظر المتلقي الأصلية من موضوع الرسالة. 3- ويتعلق باختيار المصدر لمعلومات غير المتوفرة لدى المتلقي وتشبع احتياجاته. وينقله عبر وسيلة اتصال مناسبة، وإلا أعرض المتلقي عن المصدر. والصحفي الناجح الذي يعرف كيف يشبع رغبات الجمهور الإعلامي ويجذب اهتمامهم. بينما تحتاج الدولة لشبكة معقدة من المراسلين، وهم طبعاً رجال السلك الدبلوماسي، لنقل المعلومات اللازمة التي تساعد على تخطيط السياسة الخارجية للدولة. 4- ويركز على الرسالة الإعلامية التي يعتبرها النموذج هادفة: والتي تسعى إلى تعديل إدراك المتلقي والتأثير عليه. وغير هادفة: لا يسعى القائم بالاتصال من خلالها التأثير على المتلقي. وهذا أمر هام جداً لتفسير عمل وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، على ضوء راجع الصدى المقصود ، وغير المقصود الذي تحدثه الرسالة الإعلامية، أو الوسيلة الإعلامية، أو القائم بالاتصال.

نماذج الاتصال الجماهيري: عندما يزداد عدد متلقي الرسالة الإعلامية بشكل كبير، تحدث تغييرات جذرية في عملية الاتصال، ولابد للقائم بعملية الاتصال في هذه الحالة من التكيف معها ومواجهتها، ومن أهم هذه المتغيرات: نقص التفاعل بين المرسل والمتلقي، والمتغيرات التي تطرأ على طبيعة راجع الصدى من الجمهور الإعلامي. ونتيجة لثورة وسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة (نقل ترددات البث الإذاعي المسموع والمرئي عبر الأقمار الصناعية، وشبكات الانترنيت العالمية) زاد استخدام الاتصال الجماهيري، وأصبحنا جميعاً نستخدم وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، مما فرض علينا أن نعرف خصائصها وطبيعتها وكيف تؤثر علينا. ومن النماذج الهامة للاتصال الجماهيري: نموذج ولبر شرام: واستخدم ولبر شرام في نموذجه الذي قام بتقديمه عام 1954، وطوره عام 1971 نفس العناصر الأساسية لنموذج شانون وويفر لرجع الصدى والتشويش. وأضاف إلى النظام التركيبي الذي أشار إليه شانون النظام الوظيفي، أي تأثير التعلم على السلوك والجوانب الدلالية وتأثيرها، وقدم في نموذجه مفاهيم هامة عن الإطار الدلالي للمرسل والمستقبل، وأهمية الخبرة المشتركة بينهما في تسهيل عملية الاتصال وتوصيل المعاني. وقام شرام بتطوير نموذجه الأول عن الاتصال الجماهيري، بعد أن مهد لذلك بسلسلة من النماذج. احتوت على: مصدر، وأداة لوضع الفكرة في رموز، وإشارة، وأداة لفك الرموز، وهدف. واعتبر المصدر وأداة ترميز الفكرة، جزآن منفصلان موجودان في شخص واحد، وأداة فك الترميز والهدف هما جزآن منفصلان موجودان في شخص آخر. وهذا النموذج يبدو إلى حد ما مماثل لنموذج شانون وويفر ولكنه لا يتضمن عنصر التشويش. أما في نموذجه الثاني، فقد قدم شرام فردين متصلين ضمن حالة تداخل بين خبراتهما، فالرسالة مكونة من إشارات تعني شيئاً لكل منهما. وكلما تشابه إطارهما الدلالي زاد احتمال تطابق معنى الرسالة الإعلامية عندهما. وهنا لابد من الإشارة إلى أن معنى كل كلمة في أي لغة له عدة أبعاد، وهذا المعنى يختلف بين فرد وفرد، ومن ثقافة إلى أخرى. والرسالة الإعلامية في نموذجه الثالث ليست سهلة وبسيطة كما يبدو للوهلة الأولى، فالكثير من المعاني التي تتضمنها تكمن خارج إطار الكلمات المنطوقة التي نسمعها، وطريقة نطق الكلمات والحركات الإيمائية التي يقوم بها المتحدث تعطي مدلولات ومعاني قد تختلف وتتناقض مع ما ينطق به من كلمات. ويحدث نفس الشيء للرسائل الإعلامية التي تنقلها وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، فالصفحة التي تنشر المادة الإعلامية، ومكان هذه المادة على الصفحة، والمؤثرات المحيطة بها على الصفحة ذاتها، ونوع الحروف المستخدمة، كلها عناصر تشترك في نقل معان تؤكد ما جاء في المادة الإعلامية، أو تسهم في إضعاف تأثير مضمونها، لأن المادة الإعلامية تتضمن عدداً كبيراً من الدلالات غير اللفظية، تسهم في تكوين المعنى الذي يخرج به القارئ.

واختيار أي مادة إعلامية يتوقف على مدى صواب الاختيار، الذي يجب أن يعتمد على مدى الفائدة، ومدى الضرر التي ستقدمه تلك المادة للجمهور الإعلامي. وأشار ولبر شرام إلى حقيقة هامة، وهي: أن التعرض للرسائل الإعلامية والأحداث كثيراً ما يحدث بالصدفة، لمجرد مصادفة وجود الفرد في مكان الحدث، أو مكان تواجد الرسالة الإعلامية. بينما نرى في حالات أخرى أن الإنسان يسعى دائماً نحو المواد الإعلامية المفيدة التي سبق وتعرض لها في الماضي، فهو يختار القنال الإذاعية أو التلفزيونية المفضلة، والبرنامج الإذاعي أو التلفزيوني المفضل. ويقرأ للكاتب الذي يفضله، والمفكر الذي يثق برأبه. وكلها تدخل ضمن عادات الاستماع والمشاهدة وتوقعات الفائدة التي سيجنيها من التعرض للرسائل الإعلامية وفهمه لدلالاتها المختلفة. ويؤكد في نموذجه الرابع، على حقيقة مفادها أن اشتراك كل فرد في عملية الاتصال لا يقتصر على كونه مرسلاً فقط أو متلقياً دائماً. فالفرد سواء أكان مرسلاً أم متلقياً يقوم بترميز المنبهات، ويقوم بتفسيرها انطلاقاً من خبراته الخاصة. ومهما كانت النتائج من عملية الاتصال فالإنسان يقوم بشكل دائم بفك رموز الرسائل الإعلامية التي يتلقاها وعلامات الظروف المحيطة به، ويفسر تلك الرموز والعلامات على ضوء ما يدور في ذهنه من رموز وعلامات. ومن الخطأ القول بأن عملية الاتصال تبدأ من نقطة، وتنتهي في نقطة، لأن عملية الاتصال هي عملية دائمة لانهاية لها تؤثر وتغير في تفسيراتنا وعاداتنا وقدراتنا المعرفية. ويقوم النموذج الخامس لشرام على نظامين للاتصال الذاتي، يرتبطان بالتأثير المرتد لراجع الصدى الذي يمر باتجاهين. فيعدل القائم بالاتصال بموجبه من رسائله الإعلامية ويحاول التقليل من التشويش الحاصل خلال عملية الاتصال، للتقليل من التحريف في مضمون الرسالة الإعلامية أثناء عملية نقلها.

والاتصال الجماهيري بطبيعته هو: السعي للوصول إلى جمهور إعلامي كبير، لا تعرف المؤسسات الإعلامية عنهم سوى القليل. وتساعد البحوث الإعلامية التقليل من هذه المشكلة عن طريق توفير معلومات أكثر عن الجمهور الإعلامي للمؤسسات الإعلامية، تساعد على الاستخدام الأمثل لإمكانيات وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، وفي اختيار رسائل إعلامية أكثر فائدة، وأكثر فاعلية وتأثيراً. بمضمون يرضي أكبر قدر ممكن من الجمهور الإعلامي. مع مراعاة المتغيرات الحاصلة بشكل دائم. وإلا فشلت المؤسسة الإعلامية في أداء الدور المطلوب منها ضمن النظام الاجتماعي. والمؤسسة الإعلامية بحد ذاتها هي عبارة عن نظام معقد، له إضافة لمشاكله الخارجية مع الجمهور الإعلامي، مشاكله الداخلية المتعلقة بالاتصال داخل المؤسسة، والتعامل مع الأحداث ومصادر المعلومات، وسياسات العمل واتخاذ القرارات وتنفيذها، وأقلمة العاملين الجدد مع الجو العام للعمل... الخ. وعملية الاتصال الجماهيري تتم بين: مؤسسة إعلامية تحصل على أخبار من مصادر متنوعة، تقوم بفك رموزها، وتفسيرها، ومن ثم تعبر عن آرائها عن طريق إعادة ترميزها وإعدادها في مواد إعلامية كثيرة، توجه إلى جماهير غفيرة، مؤلفة من أفراد في جماعات صغيرة أو كبيرة، يقوم كل متلقي منهم بتفسير مضمون المادة الإعلامية وفهمها بطريقته الخاصة، ويتم التفسير على ضوء اتفاق أو عدم اتفاق الفرد مع أنماط تلك الجماعة، أو الجماعات. وتحصل المؤسسة الإعلامية على راجع صدى، هو أقل بكثير في عملية الاتصال الجماهيري من راجع الصدى في الاتصال الشخصي. وتمتلك وسائل الإعلام الجماهيرية قدرات هائلة لتوسيع أفق الجمهور الإعلامي الكبير ومد سمعه وبصره إلى مسافات بعيدة بلا نهاية أو حدود، ومضاعفة أصواتنا وكلماتنا المكتوبة لتصل إلى أماكن بعيدة جداً حيث ينتظرها الجمهور الإعلامي، وتراقب الأحداث نيابة عنا وتخبرنا عما يجري من حولنا، ومع ذلك نجدها تواجه صعوبات كبيرة عندما تتنبأ بمدى التأثير على الجمهور الإعلامي بشكل عام. وأخيراً فإن نظرة ولبر شرام إلى الاتصال الجماهيري تقوم على أنها عملية دائرية واحدة تربط بين المرسل والمتلقي وبالعكس عن طريق راجع الصدى.

نموذج تشارلس رايت التحليل الوظيفي والاتصال الجماهيري: ويركز التحليل الوظيفي على توضيح المهام التي يسعى القائم بالاتصال إلى الوظائف التي يريد تحقيقها، والنتائج التي تحدث من دون أن يهدف لها. ولمعرفة الأساليب التي يمكن بموجبها دراسة تأثير وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية على النظم الاجتماعية، والثقافية، وعلى الأفراد. ونلجأ إلى التحليل الوظيفي الذي قال عنه الباحث الأمريكي الشهير البروفيسور تشارلس رايت: بأنه يهتم بدراسة الوظائف التي تؤديها أي ظاهرة من ظواهر النظام الاجتماعي. وفي هذه الحالة، فإن وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية تعتبر من الظواهر التي تؤثر دون أدنى شك في النظام الاجتماعي وأدائه لوظائفه. وقد ناقش رايت بعض النقاط النظرية والمنهاجية المتصلة بتطور النظريات الوظيفية للاتصال الجماهيري، وأشار إلى أن الأسلوب أو المنهاج الوظيفي أستخدم في دراسات كثيرة، لمعرفة جوانب الاتصال الجماهيري المختلفة. واستعان بتلك الدراسات لإيضاح المشكلة التي عالجها، دون التعرض لتلك الدراسات. والاتصال الجماهيري وفق مفهوم رايت هو: نوع خاص من الاتصال يتضمن ظروفاً معينة للعمل تأخذ في اعتبارها: 1- طبيعة الجمهور الإعلامي، الكبير والمتنوع والمجهول للقائم بالاتصال. 2- طبيعة عملية الاتصال، التي تنقل رسائل إعلامية علنية، وتراعي الوقت الذي يمكن من خلاله الوصول لغالبية الجمهور الإعلامي بسرعة وفي نفس الوقت. 3- طبيعة القائم بالاتصال، الذي يعمل عادة في مؤسسة إعلامية ضخمة ومعقدة تحتاج لتكاليف باهظة.

ويستخدم التحليل الوظيفي لدراسة نظم معينة، سواء أكانت أفراداً أم جماعات أم نظماً اجتماعية أو ثقافية، لمعرفة نتائج الظواهر الاجتماعية التي تؤثر على الدور الطبيعي لأي نظام. والخطوة الأولى لاستخدام التحليل الوظيفي في دراسة وسائل الاتصال والإعلام الجماهيري، تنحصر في تحديد نوع المادة القياسية، اللازمة للتحليل. فالاتصال الجماهيري هو عملية اجتماعية متكررة وفقاً لنمط معين، في المجتمعات الحديثة، ويلاءم التحليل الوظيفي لمعرفة نتائج عملية الاتصال الجماهيري، وتأثير المادة الإعلامية اجتماعيا، لاسيما وأن بعض الباحثين في مجال وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية يعتبرون أن التأثير الاجتماعي لوسائل الإعلام الجماهيرية مبالغ به. ومعروف أن وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية تصل إلى جمهور واسع، يشمل قطاعات كبيرة من المجتمع المحلي والعالمي بعد التطور الهائل الذي شهدته وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية خلال الربع الأخير من القرن العشرين. ولكن الأعداد الضخمة من الناس الذين يتعرضون يومياً لما تنقله وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، ليست سوى أرقام تحدد الجانب الاستهلاكي لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيري. ولا تعكس البتة مدى تأثر هذه الأعداد الضخمة بما تنقله تلك الوسائل على مدار الساعة. ومعرفتنا بعدد ساعات البث اليومية، وعدد نسخ المطبوعة ومدى انتشارها في الأوساط الاجتماعية لا يوفر لنا حقائق عن تأثير تلك المواد الإعلامية التي نقلت عبر تلك الوسائل وتلقاها الجمهور الإعلامي فعلاً. ولا بد من دراسات دائمة تطلعنا نتائجها على التأثير الفعلي لتلك المواد الإعلامية على الجمهور الإعلامي. وبغض النظر عن مبررات القلق الدائم من تأثير وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، فالتحليل الوظيفي يحاول قياس تأثيرات عملية الاتصال الجماهيري بشكل عام كعملية اجتماعية تشارك فيها وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الجمهور الإعلامي. ويعتمد التحليل الوظيفي على القياس والتخيل والتنبؤ والتصور والحدس وما يقدمه من نتائج يخدم بصورة مباشرة عملية تطوير نظرية الاتصال الجماهيري، بناءً على تجارب يمكن إثبات نتائجها.

وهناك نوعاً آخر من التحليل الوظيفي يهتم بدراسة وسيلة أو أكثر من وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية كمادة للتحليل. لتحديد الوظائف التي تقوم بها تلك الوسيلة أو الوسائل ومدى تلبيتها للاحتياجات الإعلامية للمجتمع والأفراد، والعلاقة بين الوسيلة أو الوسائل والجمهور الإعلامي، من خلال تأثيرها الفعلي على عملية الاتصال بشكل عام. كما ويستخدم التحليل الوظيفي لدراسة مؤسسات الاتصال الجماهيري ودراسة أسلوب العمل الذي يتكرر دائماً وبشكل معين داخل تلك المؤسسة، وفي هذه الحالة يمكن الحصول على مادة علمية أساسية تثبت الافتراضات من خلال دراسة حالة معينة، كما ويمكن إجراء مقارنة بين وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية المختلفة، وتحليل تأثير المواد الإعلامية التي تقدمها تلك الوسائل عن طريق التجربة المباشرة. ومن الاستخدامات الفعالة للتحليل الوظيفي، دراسة أوجه النشاطات الإعلامية الأساسية التي تتم من خلال وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية. من خلال ثلاثة أهداف للاتصال الجماهيري حددها لازويل، وهي: أ- مراقبة البيئة المحيطة، والتعريف بالظروف العامة (الأخبار). ب- التعليق على الأخبار والظروف المحيطة (مقالات). ج- نقل التراث الاجتماعي من جيل إلى جيل. إضافة لهدف الترفيه والتسلية التي تقوم به وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية.

ولا يقتصر التحليل الوظيفي على دراسة النتائج المطلوبة فقط، بل يتعداها من أجل القيام بدراسة متكاملة، ولابد هنا من التمييز بين نتائج العملية الإعلامية وأهدافها فليس بالضرورة أن تتفق الأهداف مع نتائج العملية الإعلامية. وتسمى النتائج التي يهدف إليها القائم بالاتصال بالمهام الظاهرة، والنتائج التي تحققت دون أن يهدف إليها القائم بالاتصال بالمهام الخفية. ولمعرفة النتائج المرغوبة وغير المرغوبة للمواد الإعلامية (أخبار، مقالات، مواد ثقافية وترفيهية) عبر وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، حددت الباحثة المصرية د. جهان أحمد رشتي أثنى عشرة عنصراً من الافتراضات لاستخدامها بشكل مبدئي استكشافي بالأساليب التجريبية، وتتضمن: المهام: الظاهرة، والكامنة، والمطلوبة، وغير المطلوبة. والاتصال الجماهيري، الذي يقوم: بالتعريف بالظروف المحيطة (أخبار)، وبنشر المقالات التوجيهية، وبنقل التراث الثقافي، وبالترفيه. للتأثير على: المجتمع، والجماعات الفرعية، والأفراد، والنظم الثقافية.

النتائج المطلوبة وغير المطلوبة من نشر المواد الإعلامية على الفرد والمجتمع:

النتائج المطلوبة للمجتمع: تقوية الشعور بالمساواة بين أعضاء المجتمع الواحد، وتعبئتهم لمواجهة الأخطار الداخلية والخارجية. وتأمين الخدمات الإعلامية لمؤسسات المجتمع المختلفة، وأخبار المال والأعمال، ونشرات الملاحة الجوية والبحرية، والنقل .... إلخ. النتائج المطلوبة للفرد: التعريف والتنبيه بالظروف المحيطة، وتوفير الأخبار المحلية والدولية، وأخبار المجتمع، ونشرات الإذاعتين المسموعة والمرئية، والإعلانات التجارية.. وغيرها. وهناك وظائف أخرى لنقل المعلومات عن طريق وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، منها إضفاء هالة من الهيبة والمكانة تزيد من تأثير الأفراد المضطلعين على الأحداث المحلية والعالمية داخل الجماعة، وتعزز من دورهم كقادة للرأي داخل الجماعة. ويضيف لازرفيلد ومرتون وظيفة تعزيز مكانة وسطوة ونفوذ الأنظمة التي تركز عليها وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، وتسلط الأضواء عليها، داخل المجتمعات المستهدفة. ضمن المقولة الشائعة: "إذا كان لك شأن في المجتمع، ستصبح محوراً لاهتمام الجماهير وإذا أصبحت محوراً للاهتمام في المجتمع، فلا شك بأن لك شأناً". وهنا لابد من الإشارة إلى تأثير الحملات الإعلامية الكبير على أنماط التفكير الاجتماعية عندما تتصدى للفساد، وتعمل على تعزيز العادات السلوكية الصحيحة في المجتمع، كنمط للحياة الاجتماعية بشكل عام.

نتائج نشر المعلومات غير المطلوبة اجتماعياً: تهديد كيان المجتمع وإثارة المشاكل والحسد والكراهية والبلبلة، نتيجة لنشر معلومات عن العالم دون سياسة إعلامية واضحة، ودون أي نوع من الرقابة أو التوجيه السليم. وأصبحت هذه المشكلة اليوم تهدد مجتمعات بأكملها بعد الثورة المعلوماتية التي شملت العالم بأسره مع نهاية القرن العشرين بفضل تطور تقنيات الاتصال ودخولها عصر عولمة وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية. وإثارة الخوف والذعر في صفوف الجماهير، من تكرار التحذير من الأخطار المحيطة التي تهدد حياة الإنسان والمبالغة فيها.

نتائج نشر المعلومات غير المطلوبة فردياً: زيادة التوتر والخوف من وطأة حرب الأعصاب من المعلومات التي تحذر من الأخطار المحيطة. مما يؤدي إلى أثار وخيمة لا يحمد عقباها. وقد يؤدي تكرار التنبيه بالخطر لخلق شعور من العجز والإحباط لدى الفرد، تخلق عنده شعوراً من الإخفاق يمنعه عن مواجهة الأخطار بروية وهدوء، فيقع فريسة سهلة لتلك الأخطار. والتأثير التخديري لكثرة نشر المعلومات غير المرغوبة على الأفراد، وما ينتج عنها من اللامبالاة السياسية لديهم. وتعتبر الباحثة المصرية جهان أحمد رشتي أن "وسائل الإعلام الجماهيرية من أكثر وسائل التخدير فاعلية وأن تأثيرها كبير إلى درجة أنه يجعل الفرد الذي يدمنها غير مدرك بأنه مريض". والتأثير الثقافي الذي أتاحته عولمة وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، والذي أصبح من الصعب السيطرة عليه أو توجيهه. فهو من ناحية يوفر نوعاً من الحوار الثقافي بين الشعوب، ومن ناحية أخرى يؤدي إلى سيطرة ثقافة الأقوى، ويهدد بغزو ثقافي حقيقي قد يؤدي إلى طمس الملامح الثقافية الأصيلة للشعوب الأضعف. كما وتقوم وظائف وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية بوظائف أخرى، كتحليل وتفسير والتعليق على الأحداث. ونقل الثقافة من جيل إلى جيل وتعزيز الأفضل من الخبرات الثقافية المتوارثة، والترفيه والتسلية، وكلها يجب أن يتناولها التحليل الوظيفي بالدراسة والتمحيص.

نموذج ملفن دوفلور وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية كأنظمة اجتماعية
يعتمد نموذج ملفن دوفلور على الفكرة التي أضافها عن المضمون منخفض التذوق لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، وهو مصدر النقد اللاذع من قبل البعض. واعتبره دوفلور العنصر الأساسي الذي حافظ على التوازن المالي للنظام الإعلامي. لأن المضمون منخفض التذوق للمادة الإعلامية يرضي أذواق القطاع الأكبر في السوق الإعلامية، وهذا يوفر لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الاستقرار رغم المضمون الهابط والهجوم المتواصل من قبل النقاد. وأشار دوفلور إلى مواضيع أخرى هامة غير تأثير المادة الإعلامية، ويجب أن تحظى باهتمام الخبراء والباحثين. منها حقيقة أن وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية في المجتمعات المتقدمة، مستمرة في العمل والانتعاش رغم ما تقدمه من مضمون أدانته دائماً الصفوة من قادة المجتمع ورجال السياسة والتربية والتعليم. وطالب دوفلور في نموذجه بدراسة وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، كأنظمة اجتماعية تعمل في ظل نظام محدد، من الظروف الاجتماعية والثقافية التي يتألف منها المجتمع. بشكل تؤدي نتائج تلك الدراسات إلى تحقيق استقرار أكثر للنظام الاجتماعي والإعلامي بشكل عام.

والنظام الاجتماعي هو تجميع للأنماط الثقافية المتوقعة، والتصرفات التي تحقق الاستقرار الاجتماعي، وتتكرر وفق نمط معين وهذا التكرار هو انعكاس للثقافة التي يشترك فيها أعضاء المجتمع من خلال دور كل منهم. ويعكس هذا النظام جوانب التكيف السيكولوجي، وبدره يعتبر مصدراً للثقافة، ويمكن تحليله وظيفياً.

التحليل الوظيفي: والتحليل الوظيفي يركز على ظاهرة معينة تحدث في إطار نظام اجتماعي معين. ويحاول إظهار النتائج التي تسهم في استقرار النظام ككل. وقد وصف كارل همبل منطق التحليل الوظيفي، بالتالي: "أن موضوع التحليل هو مادة ما، تتسم بالاستمرار النسبي، وتحدث في نظام معين ويهدف التحليل إلى إظهار هذا النظام. ويحوي هذا النظام على ظروف داخلية، وخارجية، وعند اشتراك الظروف الداخلية والخارجية، ينتج الاستعداد للتأثيرات التي تشبع احتياجاً وظيفياً ضرورياً للنظام، كشرط لاستمرار النظام في العمل بشكل ملائم وفعال". ويطبق هذا النوع من التحليل على وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، من أجل تحديد المضمون المنخفض ثقافياً لما تنقله وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية إرضاء لرغبات الجماهير العريضة وتحديد أنواع تلك المواد الإعلامية، وتصنيفها ضمن التصنيف التالي: 1- مضمون متسم بانخفاض الذوق الذي توزعه وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية على نطاق واسع، وتتعرض له قطاعات واسعة من الجمهور الإعلامي ويثير حفيظة وغضب النقاد، لما يسببه من تدهور الذوق العام والآداب والأخلاق عن طريق إثارة العادات السيئة اجتماعيا. 2- مضمون لا تختلف حوله وجهات النظر وتوزعه وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية على نطاق واسع، ولا يثير أية ردود فعل لدى النقاد. ولا يؤدي إلى رفع أو خفض الذوق العام، ولا يهدد المستوى الأخلاقي في المجتمع. 3- مضمون يتسم بالذوق الرفيع وتوزعه وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية على نطاق واسع، ولكن بنسبة تعرض أقل من قبل الجمهور الإعلامي، ويعتقد النقاد أنه يسهم في رفع مستوى الذوق العام، والمستوى الأخلاقي في المجتمع، ويسهم في تعليم أفراد المجتمع ويرفع من سويتهم الثقافية. وافترض دوفلور وجود تضاد في المضمون الإعلامي على شكل ثقافة عليا، وثقافة هابطة المستوى. متصل بخصائص الجمهور الإعلامي الذي يعتبر العنصر الأساسي لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية. وينتقل المضمون الإعلامي في النظام الذي يعتمد على الربح والخسارة عن طريق موزع إلى الجمهور الإعلامي، تربط بينهما هيئة للبحث. وكنظام متشابك يرتبط فيه منتج المادة الإعلامية مع ممولها وموزعها، ولكل منهم أهدافه الخاصة به. وتقوم وكالات الإعلان بالربط بين الممول والموزع والمنتج وهيئة البحث، عن طريق تقديم الأفكار والخدمات. وتسيطر عليها كلها أنظمة فرعية متمثلة بالهيئات التشريعية التي تسن القوانين الناظمة لعمل وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، وتصبح بذلك عنصراً هاماً في النظام الإعلامي كله.

النماذج التفسيرية: لاشك أن إعداد افتراضات تجريبية يمكن التثبت من صحتها أو خطئها، من الأمور الهامة جداً للباحثين عند جمع المادة العلمية للدراسة والتحليل. وتأكيد النظريات التي اعتمدوها عن الاتصال واعتماد نظريات تنظر إلى الاتصال كعملية. وسنستعرض هنا العديد من النماذج التفسيرية، مع التركيز على نظريات مختلفة تحاول تفسير الطريقة التي يؤثر من خلالها السلوك الإنساني على الاتصال وتغيير الاتجاه. وحاجات الإنسان لخلق توازن بين مشاعره وأفعاله من خلال نظريات هيدر، ونيو كومب، واسجود، وتاننباوم، وفستنجر، مع التركيز على الاتجاهات التي تجعل الفرد أكثر تقبلاً للتغيير، وقياس مدى القبول والرفض وعدم الالتزام لديه، ونظرية التحصين التي تحصن المتلقي ضد الدعاية المضادة.

نموذج التوازن في الاتصال: تركز نماذج التوازن والاتفاق والموازنة على الأساليب التي تؤثر على حالة الفرد السيكولوجية المتوازنة أو غير المتوازنة عند الاستجابة. والمقصود هنا التوازن والتآلف التي تكون فيه المعتقدات والأفكار والاتجاهات السلوكية والعلاقات الاجتماعية قادرة على مقاومة التأثير الخارجي، بينما تتسم حالات عدم التوازن بوجود تناقض بين المشاعر والأعمال والتصرفات بحيث يصبح المرء معرضاً للتأثير الخارجي. ومفهوم الاتفاق يفترض بأن الإنسان منطقي، وتفترض هذه النظرية أن عدم الاتفاق هي حالة غير طبيعية تؤدي إلى حدوث ضغوط تقلل من عدم الاتفاق أو تنهيه رغم أن الطرق التي تحقق الاتفاق بين السلوك والاتجاهات عند الإنسان تكون غير منطقية عادة. وتعتبر نظريات التوازن أن طريقة تحقيق الاتفاق تكشف عن الطبيعة المنطقية، والطبيعة غير المنطقية عند الإنسان. ويشير ليون فستنجر في مثاله عن الرجل الذي حفر حفرة في أرضية حجرة الجلوس في بيته، حتى يوفق بين وجود الحفرة وما تعود عليه من القفز فوق جزء معين من الغرفة. وهو مثال غير طبيعي إلا أنه يظهر إلى أي مدى يكون الإنسان غير منطقي ليحقق الاتفاق أو التوازن لسلوكه. بينما قدم إلبورت ج. الحوار التالي كمثال آخر عن الأسلوب غير المنطقي الذي يتحقق من خلاله الاتفاق السلوكي: أ: مشكلة اليهود أنهم يهتمون بجماعاتهم فقط. ب: نعم، ولكن تقارير التبرعات للجمعيات الخيرية تشير إلى أنهم يتبرعون بسخاء أكثر من غير اليهود. أ: هذا يظهر أنهم يحاولون دائماً أن يكون لهم أفضال، كي يتدخلوا في الشؤون المسيحية، فهم لا يفكرون إلا بالمال، ولهذا نجد الكثيرين من رجال البنوك من اليهود. ب: نعم، ولكن آخر دراسة أظهرت أن النسبة المئوية للعاملين في المصارف من اليهود هي أقل بكثير من النسبة المئوية لغير اليهود. أ: هذه هي المشكلة، فهم لا يحاولون شغل الأعمال المحترمة، بل على العكس يفضلون أعمالاً أخرى غير محترمة كإدارة الملاهي الليلية. وبالرغم من أن أقوال ( أ ) كانت منطقية وتعبر عن اتجاهاته المتحيزة رغم اتسامها بالاتفاق، إلا أن الحجج التي استخدمها ليحافظ على الاتفاق كانت غير منطقية بشكل واضح. لأن الإنسان يعمل على فهم وتبرير التجارب المؤلمة بطريقة تجعلها معقولة ومنطقية. وقد اتفق كل العلماء الذين درسوا الاتفاق ونتائجه على السلوك والاتجاهات، على أن عدم الاتفاق هو حالة مؤلمة وغير مريحة سيكولوجياً واختلفوا في النواحي التطبيقية.

وأكثر مفاهيم الاتفاق تقييداً وتحديداً، مبدأ الاتفاق الذي يقتصر على مشاكل تأثير المعلومات عن أشياء وأحداث معينة، على الاتجاهات الفردية من مصدر المعلومات. وأكثر النظريات عمومية هي فكرة التنافر أو التعارض في إدراك المعلومات وتهتم بالاتفاق بين المعارف المختلفة لدى الفرد. وبين هاتين النظريتين نكتشف أفكار التوازن، والتناظر، التي تهتم بالاتجاهات نحو الناس والأشياء، وعلاقاتها ببعضها البعض، سواء داخل الأسس المعرفية عند الفرد الواحد، كما في نظرية التوازن عند هيدر، أو بين مجموعة من الأفراد، كما في حالة الضغط لتحقيق التناظر عند نيوكومب. فما يعرفه الفرد يعني تصوره للعالم الذي يعيش فيه. وتشكل استجابة الفرد للأشياء والأحداث والأفراد المحيطين به جزئياً من خلال الطريقة التي يراهم بها. ومعارف ومدركات الفرد ويتم تنظيمها بشكل انتقائي أثناء أداء الفرد لأعماله ومهامه اليومية بعد إدماج تلك المعارف في نظام له معنى عند الفرد الذي يتسم بالاستقرار بحيث تتصل ردود فعله بمعارفه التي تقوم على أساس الإدراك والتفكير والتخيل والتبرير، وتعكس الجهود التي يبذلها الفرد أثناء بحثه عن المعنى وهو يعمل على إيجاد علاقات تتسم بالتآلف مع بعضها البعض، وبين مكونات معرفته من أفكار ومعتقدات وقيم وسلوك، أو مجموعة من الأحداث. ولهذا فإن التعارض أو عدم الاتفاق سيؤدي إلى حدوث معاناة للفرد من التوتر السيكولوجي، يدفعه للتصرف بطريقة تقلل من حالة عدم الاتفاق وتعيد له التآلف. وتسعى عملية اكتساب المعرفة دائماً لتحقيق التوازن بين معارف الفرد.

نموذج التوازن عند فريتز هيدر: يعتبر النموذج الذي قدمه هيدر من نماذج الاتفاق، وتركز على علاقة ثلاثية بين: ش - شخص، ف - وشخص آخر، آ - وشيء آخر، أو شخص ثالث. واهتم هيدر بمدركات الشخص (ش)، وما يعرفه عن الشخص الآخر (ف)، والشيء الآخر أو الشخص الثالث (آ). ويرى هيدر أنه هناك نوعان من العلاقات بين الناس والأحداث: 1- علاقات تتصل بالمشاعر، وتتعلق بالاتجاهات، وتنتج عن الطريقة التي نشعر من خلالها ونقيم شيئاً ما. ويدخل ضمنها مشاعر الحب، والإعجاب، والقبول، ونقيض تلك المشاعر. وبذلك تكون المشاعر إما سلبية أو إيجابية، حسب اتجاه الفرد. وتعبر عن مشاعرنا نحو اتجاهاتنا الآخرين، ونحو الأشياء المحيطة بنا، وهي أقرب للاتفاق الذاتي. أو حسب تعبير هيدر: "نحن نميل إلى حب أو كره فرداً معيناً بشكل كامل ولكننا عندما نميز بين المشاعر، نجد أن تلك المشاعر تتماثل في علاماتها. كأن يتواجد الحب والإعجاب في آن واحد، ولكن إذا أحب الفرد شخصاً لا يحترمه فسوف تتسم هذه الحالة بعدم التوازن". 2- وعلاقات تتصل بالوحدة، وهي كيانات تشكل وحدة متكاملة، أساسها التماثل: الهداف في فريق كرة القدم، والاتصال: الكاتب وما كتبه، أو الملكية: الرجل وكلبه. وتسمح لنا هذه العلاقات بالتعبير عن الحالة، إما أنها حالة متوازنة ينتج عنها اتفاق، أو أنها حالة غير متوازنة تسبب توتراً يؤدي إلى الشعور بالحاجة لتحقيق التوازن. وبالرغم من أن نظرية هيدر تفسر السلوك البشري، وعملية الإدراك الاجتماعي، إلا أن فيها عيوب كثيرة، وهي غير واضحة. ولا تحدد الوقت الذي تتواجد أو لا تتواجد فيه العلاقات بين الوحدات. ولا الأسلوب الذي يختار الفرد بموجبه من الطرق الكثيرة المتوافرة، الطريقة التي تقلل من إحساسه بالتوتر، وتحقق له التوازن في أي ظرف من الظروف. ولا تذكر شيئاً عن درجات التوازن.

عملية الاتصال في نموذج تيودور نيو كومب: قام تيودور نيو كومب في عام 1953 بتطوير نموذج التوازن الذي وضعه هيدر، إلى نموذج للاتصال بين فردين. مطبقاً فكرة التوازن داخل الفرد، على عملية الاتصال بين الناس. ونظرية نيو كومب في الحقيقة ليست نظرية توازن بالمعنى الكامل، بل هي نظرية للتفاعل بين فردين. وأشار نيو كومب إلى أن السلوك الاجتماعي في الكثير من الحالات يعتبر تفاعلاً متبادلاً يمكن دراسته كعملية اتصالية. فعندما يرسل شخصاً ما (آ) معلومات إلى شخص آخر (ب) حول شيء معين أو عمل معين (ع)، يفترض نيو كومب أن الفردين يتصلان بهدف التفاعل مع بعضهما البعض في نفس الوقت كقائمين بالاتصال لهما نفس الموضوعات التي تتحول إلى محور لاتصالهما. والإضافة الرئيسية كانت التوجه، الذي يعتبر الطريقة التي ينظم بموجبها فردين عمليات سلوكية معينة، واتجاهات وتفاعل يؤثر على سلوكهما من أشياء موجودة في الظروف المحيطة بهما. ويصنف تحديد المواقف حيال الأشياء بالتالي: 1- تحديد المواقف نحو موضوعات الاتصال (أشياء أفكار، أفراد)، وتسمى اتجاهات. 2- وتحديد المواقف من القائمين بالاتصال الآخرين، وتسمى تفاعلات. وكمثال على الموقف المشترك بين (آ) و (ب) حيال (ع)، موقف اثنان من الطلبة يتناقشان حول نظام تخصيص الدرجات المستخدم في علم من علوم الاتصال. فالطالب (آ) يريد تغيير النظام وجعل التحصيل العلمي بلا تقدير درجات وهو (ع)، والطالب (ب) يوافقه على رأيه ويزيد عليه بقوله أنه لا مبرر لتخصيص درجات لأوجه النشاطات التعليمية. وفي هذه الحالة دعم كل منهما موقف الآخر، وكانت هناك مشاركة وتماثل نتج عنه موقف مشترك. وهذه المواقف يمكن أن تتوازن عندما لا تكون هناك ضغوطاً أو قوى تعمل لإحداث تغيير في المواقف أو لا تتوازن عندما لا تتفق الاتجاهات مع بعضها البعض، وتتسم بالصراع حول (ع). كما هي الحال في أنظمة هيدر.

ويعتبر الاتفاق أو المواقف المشتركة من ضروريات الحياة الإنسانية. ويتم الاتفاق عن طريق: 1- اتجاه الشخص (أ) نحو الشخص (ب)، إذا كانا قادران على الاتصال اللفظي. ولا يخلو الاتصال بين شخص وآخر طبعاً من إشارة للظروف المحيطة، والتأثر بتلك الظروف. 2- اتجاه الشخص (أ) نحو الشيء (ع)، ويتم من خلال موقف معين من الأشياء الموجودة في الظروف المحيطة، ونحو الأشخاص الآخرين الذين يملكون مواقف محددة نحو المواضيع والأشياء نفسها.

نموذج الاتفاق عند أسجود وتاننباوم: قام أسجود وتاننباوم عام 1955 بتطوير نموذج الاتفاق (التوافق)، الذي يعتبر حالة من حالات التوازن، وخاصة في الاتجاه نحو التغيير. وكلاهما اعتبرا أن المتغيرات الأساسية في هذه الحالة هي: 1- وجود اتجاه نحو مصدر الرسالة؛ 2- وجود اتجاه نحو المفهوم الذي يقيِّمه المصدر؛ 3- طبيعة العبارة أو الرسالة التي تنطوي على تقييم، والتي تربط المصدر بالمفهوم.

ويتناول نموذج تغيير الاتجاه النواحي التالية: 1- اتجاه التغيير المتوقع، سواء أكان ينطوي على تأييد أو عدمه؛ 2- قدر التغيير المتوقع، في المصطلحات كحد أدنى كـ "أكثر من" أو "أقل من"، 3- محور التغيير أو التغييرات المتوقعة، حيث يتم ربط الموضوعات التي نصدر أحكاماً عليها في رسالة إعلامية. واعتبر الباحثان أن الإطارات الدلالية التي يصدر الناس على أساسها أحكامهم، تتسم بأقصى قدر من البساطة كالأحكام المتطرفة، مثل: كل شيء أو لاشيء، أبيض وأسود التي تأتي أبسط من الأحكام الدقيقة المتميزة، وتحتاج لضغوط للوصول إليها، والأحكام المتطرفة هي من صفات البشر الأقل ذكاء، والأقل نضجاً وتعليماً، وتسيطر العاطفة على أحكامهم أكثر من المنطق العقلاني. ولهذا لابد من ضغوط مستمرة للتخلص من الاختلافات بين المفاهيم وتحقيق الائتلاف. وينظر نموذج الائتلاف إلى التفكير الإنساني بشكل محدد، من خلال التغييرات التي تطرأ على التقييم من ناحية اتجاهه نحو التآلف بين ما يعرفه الشخص، وما يصادفه من دلالات.

موضوع الائتلاف (التوافق): لكل فرد اتجاهات نحو العديد من الأشياء. فقد يكون لديه: - اتجاهات إيجابية نحو الوطن، والتفكير المنطقي، والديمقراطية، والصحة؛ - واتجاهات محايدة نحو الرياضة، والتدخين، والأجانب؛ - واتجاهات سلبية نحو السرقة، والاغتصاب، والعدوان، والتخلف الحضاري. ومن الممكن أن يكون لدينا اتجاهات متنوعة نحو أشياء مختلفة، دون أن نشعر بأي نوع من عدم التآلف، أو الضغوط لتغيير الاتجاه، طالما لم يتم الربط بين الموضوعات التي لدينا اتجاهات متناقضة حولها. كما يعرفها علماء الأنثروبولوجيا، بأنه قد يكون لدى الأفراد الذين ينتمون لأي ثقافة من الثقافات اتجاهات لا تتفق مع بعضها نحو المواقف المتصلة بثقافاتهم، دون أن يتولد عن ذلك أي ضغوط طالما لا يتم الربط بين المواقف التي لا تتفق مع بعضها، لأن حالة عدم التآلف تتولد عن الموقف الذي يتعرض فيه الإنسان لرسالة إعلامية تربط بين موضوعين أو أكثر ولديه اتجاهات معينة نحوها.

مسار التغيير الذي يحقق أو لا يحقق التآلف (الاتفاق): للتنبؤ بالناحية التي سيتغير الاتجاه نحوها، لابد من أن نأخذ بعين الاعتبار الاتجاهات الموجودة فعلاً نحو المواضيع قبل تلقي الرسالة الإعلامية، وطبيعة المادة التي تتضمنها تلك الرسالة. فالمادة أو الاتجاهات التي تتضمنها الرسالة الإعلامية قد تكون إيجابية (+)، أو محايدة (0)، أو سلبية (-). ولتحديد العلاقات التي تتسم بالتآلف نستطيع إتباع الأسلوب التالي: - إذا كان لدى الإنسان اتجاهات معينة نحو موقفين، فستؤدي المادة أو الرسالة الإعلامية التي تربط بين الاتجاهات إلى إيجاد: - علاقة متآلفة؛ - أو غير متآلفة. و عندما يعبر المصدر عن رأي نحو موقف أو أي مفهوم من المفاهيم: يكون الاتجاه نحو: المصدر + + - - والمفهوم + - + - فتكون النتيجة: مادة متفقة + - - + ومادة غير متفقة - + + - ويعمل المتلقي وفقاً لنموذج الائتلاف على تقليل الاختلافات بين ما يقوله الناس، وبين وجهة نظره، بتحويل أو تغيير اتجاهاته، أو إعادة تقييم المصادر التي صدرت عنها المعلومات، أو كلاهما. والمبدأ الأساسي هو أن تقييم الفرد للمواقف يتغير دائماً إلى الناحية أو الاتجاه الذي يزيد من الائتلاف (التوازن) على ضوء الإطار الدلالي الموجود لدى المتلقي. والتآلف يحدث عندما تكون الاتجاهات نحو المصدر والموضوع متماثلة، وتكون المادة التي تربط بينهما سلبية، وحينما تختلف الاتجاهات نحو المصدر والموضوع، وتكون العبارة التي تربط بينهما إيجابية، وبالمقارنة يمكن تعريف الحالات غير المتوازنة بأنها واحدة من العلاقات السلبية.

وعندما تكون الاتجاهات متآلفة مع مضمون المادة الإعلامية، تنتج حالة مستقرة، ولكن عندما لا تكون هناك علاقات متآلفة بين الاتجاهات نحو الشخص وبين مضمون المادة الإعلامية التي تربط بينهما، فسينتج عن ذلك ميل نحو تغيير الاتجاه نحو الفرد أو نحو المادة الإعلامية، لتحقيق زيادة في الائتلاف، وعندما تكون واحدة من الاتجاهات محايدة، والاتجاه الآخر متطرفاً، فيجب في هذه الحالة التنبؤ باتجاه التغيير والضغط الذي سيحدث من أجل تحقيق التآلف، وتكوين الاتجاه الإيجابي. وللوصول إلى التنبؤ: إذا كان الاتجاه نحو المصدر أو المفهوم هو: + + - تكون المادة الإعلامية: + - + ويمكن أن يتسم الظرف أو الحالة بالتآلف، إذا كان ما نصدر عليه الحكم، مصدراً أم مفهوماً، وعندما يتم ربط موضوع ما بآخر بواسطة مادة إعلامية، فالوضع المتآلف طيلة التقييم سيكون مساوياً لدرجة التضاد بينه وبين الموضوع الآخر في نفس الاتجاه (مادة إعلامية إيجابية)، أو اتجاه مضاد (مادة إعلامية سلبية).

ونتيجة لبحث أجراه تاننباوم على 405 من طلبة الجامعة، وشمل: - معلوماتهم واتجاهاتهم نحو المصادر التالية: - القادة العماليون؛ - صحيفة شيكاغو تربيون؛ - السيناتور روبرت تافت. - ونحو المواضيع التالية: - القمار المشروع؛ - الفن التجريدي؛ - برامج الدراسة الجامعية السريعة. قام بعد فترة وجيزة من حصوله على المعلومات عن اتجاهاتهم، بتوزيع قصاصات صحف على العينة، تتضمن مواد إعلامية، ومفاهيم متعددة المصادر. فكانت النتيجة أنه: - حين كانت الاتجاهات الأصلية من المصدر والمفهوم إيجابية، وكانت المادة الإعلامية إيجابية، لم يحدث تغيير كبير في الاتجاهات؛ - وحين كانت الاتجاهات الأصلية من المصدر والمفهوم سلبية، وكانت المادة الإعلامية سلبية لم يحدث أي تغيير؛ ولكن الذي حصل وكما كان يتوقعه تاننباوم، حين يأتي تصريح إيجابي من مصدر إيجابي عن مفهوم سلبي، فإن النتيجة تضعف من تأييد الفرد للمصدر، ويعوض عنه بتأييده المفهوم، وعلى العكس من ذلك، فعندما يأتي تصريح إيجابي من مصدر سلبي عن مفهوم إيجابي، فإن النتيجة تحسن الاتجاه نحو المصدر ويضعف من تأييد المفهوم.

مدى الضغط اللازم لتحقيق التآلف: يتناسب الاستعداد لتغيير الاتجاه عكسياً مع مدى وقوة الضغط الموجود. ولا يأخذ هذا المبدأ في الاعتبار نوعية العلاقات بين المواضيع التي نحكم عليها، لأنه عاجز عن التفرقة بين التحركات في اتجاه يزيد التضاد، والتحركات التي تقلل التضاد، حتى ولو افترضنا أن المتلقي يصدق تماماً الرسالة الإعلامية. لأن نواحي القصور في مبدأ التآلف تشمل: 1- مبدأ مقيد بموضوع لأنه يدور دائماً حول مادة إعلامية تربط بين متغيرين مما يجعل التنبؤ صعباً. 2- لا يشير المبدأ إلى أهمية متغيرات معينة متصلة بالمتلقي. 3- يتجاهل المبدأ التأثير الذي تحدثه عملية اتصال الفرد بذاته وبالمصدر والموضوع، خاصة وأن اهتمام الفرد بالموضوع له دور هام في تحديد مدى استجابة كل العناصر في الظرف الاتصالي.

نموذج التعارض في المعرفة: قدم ليون فستنجر نموذج يعتمد على مفهوم الاتفاق السيكولوجي، ويفترض أن الإنسان يعمل على جعل اتجاهاته تتفق مع بعضها البعض ومع سلوكه الشخصي، وأن العلاقة بين ما يعرفه الفرد والطريقة التي يتصرف بمقتضاها، ليست بسيطة لأن الناس بشكل عام يتصرفون بطرق تتفق مع ما يعرفونه، فإذا أحس الفرد بأن هناك خطراً يتهدده، فإنه سيلتزم الحذر دون شك، وكذلك إذا علم بوجود مدرسة أفضل من غيرها فسيرسل ابنه إلى المدرسة الأفضل. ولكن كثيراً ما يحدث تعارض وتنافر بين تصرفات الفرد وما يعرفه وفي هذه الحالة فسوف تبدأ عمليات سيكولوجية هدفها تقليل هذا التعارض والتنافر. ومن الملاحظ دائماً أن بعض الأفراد يحاولون بين الحين والآخر تبرير السلوك الذي أقدموا عليه، كأن يقول الطالب الذي حضر لأجل الامتحان كثيراً أن هذا الامتحان هام جداً، مبرراً الجهد الإضافي الذي حمله لنفسه دون مبرر. وأن يسهب الوالد الذي ألحق ابنه بمدرسة معينة، بمدح مزايا المدرسة التي اختارها لابنه، مبرراً النفقات التي حملها نفسه دون مبرر، بما معناه أن الفرد يعمل على التقليل من التعارض بين الحقيقة والسلوك الذي أقدم عليه بتضخيم الجوانب التي تتفق مع سلوكه هذا. وهنا نستطيع القول بأن الإنسان لو أخذ بعين الاعتبار المعلومات المتوفرة لديه والتي تمنعه من القيام بسلوك معين، لامتنع عنه. ولكنه عندما يقدم على تصرف يتناقض وتلك المعلومات، فسيحدث نوع من التنافر والتناقض بين ما يعرفه وبين سلوكه، وفي هذه الحالة فسوف يعمل على التقليل من هذا التناقض عن طريق تغيير سلوكه أو معتقداته وآرائه أي أن يبرر أفعاله.

وتوصل فستنجر إلى جملة من النتائج الهامة نلخصها في: 1- أن التنبؤ بأية عملية تنطوي على اتخاذ قرار أو أي اختيار بين بدائل، ستؤدي إلى حدوث حالة من التناقض، خاصة إذا تضمن البديل الذي لم يتم اختياره خصائص إيجابية تجعله مرغوباً به. أو تضمن البديل الذي تم اختياره خصائص سلبية كانت يمكن أن تؤدي لرفضه. لهذا يلجأ الإنسان عادة بعد اختيار البديل للبحث عن أدلة تدعم القرار الذي اتخذه، بهدف التقليل من حالة التناقض والتنافر التي وقع فيها. 2- وأن حالة التنافر والتناقض التي تنشأ بعد اتخاذ القرار تجعل مزايا البديل الذي تم اختياره تزيد، ومزايا البديل الذي لم يتم اختياره تقل. مما يدفع الفرد إلى تضخيم مبررات قراره، ويجد من يساند مبرراته. وحدد فستنجر ثلاثة أنواع من العلاقات بين عناصر المعرفة لدى الإنسان، وهي: 1- قد لا تكون هناك علاقة بين عناصر معرفة الإنسان؛ 2- قد تكون هناك علاقة اتفاق بين عناصر معرفة الإنسان؛ 3- قد تكون هناك علاقة تعارض وتنافر بين المواضيع التي يعرفها.

ورأى فستنجر أن التعارض ينشأ عن أحد الأسباب التالية: 1- وجود تعارض أو عدم اتفاق منطقي: ويحدث عندما تبرز معلومة أخرى بشكل منطقي، كالفناء والحياة. 2- الأنماط الثقافية الشعبية التي يقبلها الناس دون نقاش: لأنها تعكس وجهات النظر الأخلاقية الأساسية للجماعة. 3- شمولية الرأي: عندما يتواجد اختلاف بين معرفة محددة لدى الإنسان، ومعرفة أكثر شمولية. 4- التجربة السابقة. ويتم التقليل من التنافر والتناقض، عن طريق: 1- تغيير السلوك؛ 2- التأثير على الجانب المتصل بالظروف المحيطة؛ 3- إضافة عناصر معرفة جديدة. ويحدث التعارض والتنافر في المعرفة من خلال أربعة ظروف اتصالية، هي: 1- ظرف اتخاذ القرار: وينشأ التنافر والتناقض نتيجة لاتخاذ قرار معين، استجابة لثلاثة عوامل، وهي: 1- زيادة التنافر والتناقض مع ازدياد أهمية القرار المتخذ. 2- زيادة التنافر والتناقض كلما قلت جاذبية البديل الذي تم اختياره، وكلما زادت جاذبية البديل الذي لم يتم اختياره. 3- ويقل التنافر والتناقض كلما تماثلت عناصر المعرفة عن الموضوع.

ظرف فرض الخضوع: وهو الظرف الذي يضطر فيه الفرد للقيام بسلوك معين لا يقدم عليه بإرادته، ويضمن قيام الفرد بهذا السلوك التعرض عادة لضغط يكون على شكل عقاب عن عدم الخضوع وكذلك بغية الحصول على جزاء الخضوع. وكلما قل الضغط الذي يفرض علينا السلوك الذي لا نريده كلما زادت حالة التنافر التناقض. وحينما يضطر الفرد إلى التعبير علانية عن رأي مخالف ومتناقض مع رأيه الخاص تحدث حالة من التنافر والتناقض يتوقع معها حدوث ضغوط معينة للتقليل منها. وقد يضطر شخصاً ما لسبب أو لآخر بغرض كسب تأييد من نوع معين أو لتجنب خطر ما إلى التصريح برأي علني مخالف لآرائه المعتادة. آخذاً بعين الاعتبار: 1- قدر الجزاء الذي سيحصل عليه من سلوكه العلني المخالف. 2- قدر المضايقة التي يجنيها من سلوكه العلني المخالف. وباختصار، فإن إغراء الإنسان بأن يسلك سلوكاً مخالفاً لاعتقاده الخاص، لقاء جزاء موعود، ومضايقة بسيطة، فإن ذلك سيؤدي إلى حدوث اتفاق بين رأيه الخاص وما صرح به علانية.

ظرف التعرض الانتقائي للمعلومات: من خلال بحث الإنسان عن المعلومات ومن أجل التقليل من حالة التنافر والتعارض عنده، فإنه يلجأ لتغيير عنصر المعرفة المتصل بالظروف المحيطة به. وهو ما يسمى التعرض الانتقائي للمعلومات، الذي ينظر إليه من خلال وجهتي نظر أساسيتين، هما: 1- التعرض غير الاختياري الذي يظهر من خلال تناقض المعلومات الجديدة مع المعرفة المختزنة لديه ليعبر خلالها عن عدم الارتياح والتنافر من خلال: آ- إدراك المعلومات بشكل سيء أو محرف؛ ب- تجنب المعلومات الجديدة أو نسيان ما كان يعرفه عنها؛ ج- تغيير آراءه من خلال الاقتناع بالمعلومات الجديدة. 2- التعرض الاختياري عن طريق البحث المتعمد عن المعلومات الجديدة، مما يدفع بالمرء لاتخاذ قرار بطرق عقلانية.

ظرف التأييد الاجتماعي: حينما يتفق الآخرون معنا بالرأي نشعر بالراحة الداخلية، وعندما يختلفون معنا، فإننا نشعر بحالة من القلق وعدم الراحة. ويتوقف مدى التنافر والتناقض أو نقص التأييد الاجتماعي على عدة عوامل، نلخصها بالتالي: 1- توافر طريقة معينة لاختيار الموضوع الذي تختلف حوله وجهات النظر. 2- عدد الناس الذين يتفقون أو يختلفون معنا في الرأي. 3- أهمية الموضوع. 4- مدى رغبة الفرد في الاختلاف مع فرد أو جماعة. 5- درجة الثقة بالشخص الذي نختلف معه بالرأي، فمن لايهمنا أمرهم التنافر معهم يكون أقل من الذين نهتم بهم. وإذا كان مسبب حالة التنافر والتناقض مشكلة عدم الاتفاق الاجتماعي فإن التقليل منه يمكن بواحدة من ثلاث طرق، هي: 1- إما تغيير الرأي حتى يتفق مع رأي أولئك الذين يستمد منهم التأييد الاجتماعي؛ 2- أو مواصلة تقديم الحجج والحقائق للذين نختلف معهم بالرأي على أمل أن يغيروا رأيهم؛ 3- أو محاولة إظهار الآخرين وكأنهم مختلفون عنا تماماً. مثال العبارات التالية: "إنهم لا يفهمون شيئاً"، "إنهم مختلفون عني"، إنك لا تتفق معي لأنك تنتمي لمجتمع آخر". ومن ذلك كله نستنتج أن نموذج التنافر والتعارض الذي قدمه ليون فستنجر هو نموذج عام للسلوك البشري، ويغطي مجال الاتصال الإنساني بشكل عام. ويهتم بالتغييرات السيكولوجية التي تحدث داخل الإنسان، وعلاقته الاتصالية بالآخرين. واتجاه التغيير والسلوك الذي يحدث عندما تتواجد علاقات لا تتسم بالاتفاق.

الإقناع في نموذج كرونكيت: ركز كرونكيت في نموذجه على الجوانب السيكولوجية التي تلعب دوراً عندما يحاول القائم بالاتصال التأثير من خلاله على اتجاهات فرد آخر. كما وركز كرونكيت في نموذجه أساساً على تغيير الاتجاه، بحيث يحاول من يقوم بالإقناع تغيير سلوك المتلقي عن طريق جعل سلوك المتلقي يتوازن مع المنبهات التي يقدمها المصدر. أي أن يصبح بذلك الإقناع موجهاً نحو تغيير السلوك بدلاً من تغيير الاتجاهات. والمفروض أن الاتجاهات التي لا يمكن رؤيتها تفسر السلوك لهذا اهتم كرونكيت بالعلاقة بين المنبهات المستخدمة، وسلوك الإنسان الذي يتلقى المنبهات. وافترض أن الإنسان سوف يحاول تحقيق التوازن في العلاقات بين المنبه الذي يحصل عليه المتلقي واستجابته لهذا المنبه. وهو ما أسماه كرونكيت موضوع المفهوم أو المنبه الذي يحاول القائم بالاتصال تغييره. ولتحقيق هذا الهدف يلجأ القائم بالاتصال إلى منبه يؤثر على الدوافع أو مفهوم يؤثر على الدوافع. ويشترط هنا أن يقيِّم الإنسان هذا المنبه تقييماً إيجابياً وأن يقبل به. وعلى القائم بالاتصال أن يجعل المتلقي يرى علاقة إيجابية بين موضوع المنبه والمنبه الذي يؤثر على الدوافع. وذكر كرونكيت عمليتين هامتين تدخلان ضمن عملية الإقناع: 1- أن يقوم القائم بالاتصال، وهو القائم بالإقناع، باختيار المؤثرات التي تؤثر على الدوافع، والمفاهيم التي يعرف أنها سوف تؤدي إلى استجابة قوية وايجابية عند المتلقي، وتقنعه لتغيير سلوكه. 2- أن يبين القائم بالاتصال المفاهيم التي تهدف التأثير على الدوافع المتصلة بشكل واضح بموضوع المفهوم، بحيث يستجيب المتلقي لموضوع المفهوم باستمرار وقوة كما يفعل حيال المفهوم الذي يؤثر على دوافعه. لأن المتلقي يقبل أو يرفض الاقتراح الذي يشير بأن أي مفهوم من المفاهيم متصل أو غير متصل بمفهوم آخر. وقد لا يربط بين مفهومين يعرفهما. لذلك على القائم بالاتصال أن يعرف الحجج التي سيقدمها ويقبلها المتلقي كحقائق.

نموذج شريف وهوفلاند عن الحكم الاجتماعي: لا يهتم نموذج الحكم الاجتماعي الذي ابتكره مظفر شريف وكارل هوفلاند، بشكل مباشر بمفهوم التوازن، خلافاً للنماذج الأخرى. بل أن الهدف الأساسي منه دراسة مكونات الاتجاه وكيف نغيره، والمتغيرات التي تؤثر على بنائه. ويهدف هذا النموذج اكتشاف الظروف التي سوف تجعل الفرد أكثر أو أقل استعداداً للتغيير. ويؤكد نموذج الحكم الاجتماعي، على أن الاتجاه هو جزء من العمليات السيكولوجية المعقدة التي تحدث داخل الفرد، ولا يمكن ملاحظتها بشكل مباشر. فالاتجاهات يمكن استنتاجها فقط من خلال سلوك الفرد الخارجي الظاهر. وتعتبر الأنماط الثابتة للسلوك الإنساني الأساس الذي يساعد على تفسير الاتجاه والمعروف أن الإنسان لا يولد ولديه اتجاهات، بل يكتسب هذه الاتجاهات من خلال تفاعله مع الظروف المحيطة به. ويكونها من خلال تفاعله مع الأفراد والجماعات والأشياء المحيطة به. وتتحول هذه الاتجاهات بالتالي وبمجرد تكونها وتدعمها إلى حالات سيكولوجية ثابتة تصبح عملية تغييرها صعبة ومعقدة كثيراً. والاتجاهات وفقاً لمفهوم مظفر شريف وكارل هوفلاند هي: مجموعة من المهارات التي يتعلمها الإنسان ويستخدمها في تقييم المنبهات الجديدة بشكل إيجابي أو سلبي. وأن الإنسان يصنف الرسائل التي يتلقاها ضمن ثلاثة مجالات، هي: 1- مجال القبول: ويتضمن الرسائل الإعلامية والمواقف التي تحظى برضاه وقبوله أكثر من غيرها من الرسائل الإعلامية والمواقف الأخرى التي يعترض عليها، كم وتتضمن الرسائل الإعلامية والمواقف الأخرى التي تتفق نسبياً مع اتجاهاته. 2- مجال الرفض: ويتضمن الرسائل الإعلامية والمواقف التي يعترض عليها بشكل واضح. ويتضمن كذلك المواقف الأخرى التي يعترض عليها نسبياً بالمقارنة مع اتجاهاته. 3- مجال عدم الالتزام: ويتضمن الرسائل الإعلامية والمواقف التي لا يقبلها أو يرفضها، والرسائل الإعلامية التي لا يوجد لديه معلومات عنها أو التي لاتهمه لا من قريب ولا من بعيد.

وتغيير الاتجاه وفقاً لنموذج الحكم الاجتماعي ينطوي على تغيير المجالات التي كونها الإنسان عن موضوع أو اتجاه معين، ولما كانت الاتجاهات حالات سيكولوجية تتسم نسبياً بالثبات، فإننا إذا قسنا اتجاه فرد من الأفراد في أوقات مختلفة، فإننا سوف نجد أن بناء مجال اتجاهه سيكون تقريباً واحداً في تلك الأوقات المختلفة. ولكن إذا قدمنا للفرد سلسلة من الرسائل الإعلامية عن موضوع ما لديه اتجاه نحوه، فإنه سوف يصنف تلك الرسائل الإعلامية في مجالات القبول، أو الرفض، أو عدم الالتزام المتوفرة لديه. وحينما يحاول شخص ما إقناعه فإنه سيتلقى العديد من الرسائل الإعلامية والمواقف المصنفة في مجالات محددة تضاف إلى المجالات المتوفرة لديه أو تعدل في تركيب تلك المجالات.

وإضافة معلومة جديدة أو موقف جديد إلى مجالات الفرد ليس بالضرورة أن يحدث تغييراً في اتجاهاته. لأن البشر غير مستعدين جميعاً بنفس القدر لتغيير اتجاهاتهم واتصال الموضوع بذات الفرد أو أهميته بالنسبة له هو عنصر هام من عناصر استعداد المتلقي للتغيير. فالاتجاهات قد تكون هامة أو غير هامة، لأن البشر مختلفين في الاتجاهات نحو الأشياء الموجودة في الظروف المحيطة بهم. وكلما كان الموضوع مهماً بالنسبة لهم، كلما زاد اتصالهم بذاتهم، وكلما قلت أهميته بالنسبة لهم كلما قل اتصالهم بذاتهم. وكلما زاد اتصال الموضوع بذات الفرد كلما كان تغيير الاتجاه نحوه صعباً لأنه في هذه الحالة تكون مجالات القبول وعدم الالتزام محدودة، ومجالات الرفض كبيرة مثال المواقف التالية: 1- إذا كنا نؤيد مرشح معين بشدة (الأفراد الذين يتصل الموضوع بذاتهم)، فالرسائل الإعلامية الوحيدة التي سنضعها في مجال القبول، هي تلك التي تؤيده. وسوف نرفض العبارات التي تهاجمه. وهنا استعداد الفرد للتغيير ضئيلة جداً. 2- الأفراد الذين لا يتصل الموضوع بذاتهم إلا اتصالاً بسيطاً أو معتدلاً، هم أكثر استعداداً للاقتناع لأن مجالات القبول وعدم الالتزام عندهم كبيرة بعض الشيء، ومجال الرفض عندهم أقل. وإذا كان اتجاه الأفراد نحو المرشح المعين معتدلاً، فسيقبلون الرسائل الإعلامية التي تعنيه أكثر. وفي هذه الحالة ستزيد نسبة العبارات التي لا تلزمهم بشيء نحوه، وستقل نسبة ما يرفضونه. أما الأفراد الذين لا يهمهم الموضوع، فإن مجالات القبول وعدم الالتزام عندهم كبيرة، ومجال الرفض ضئيل، وهم أكثر استعداداً لتغيير اتجاهاتهم. 3- الأفراد الذين يهمهم الموضوع ويتصل بذاتهم لا يرون إلا الجانب الذي يعتقدون بصحته، ويرفضون كل التفسيرات والبدائل الأخرى. وكلما قلت لديهم أهمية الموضوع كلما زاد استعدادهم لتلقي أفكار مختلفة عنه. وبمجرد أن يصبح الفرد مستعداً لتلقي البدائل فإن تغيير اتجاهاته تصبح أكثر احتمالاً، ومما يزيد الاستعداد للاقتناع، أن يؤمن المتلقي بصدق مصدر المعلومات، وصدق القائم بالاتصال ناقل الرسالة الإعلامية.

نموذج تحصين المتلقي ضد الإعلام المضاد: عرفنا مما سبق أسباب وطرق تغيير الاتجاهات والسلوك لدى الجمهور، ولكنا لم نتعرف على أساليب وطرق غرس مقاومة التغيير عند المتلقي. وهناك طرقاً عدة تجعل المتلقي يتصدى للتغيير في ظروف معينة. ومن الأساليب الفعالة لتحصين المتلقي ضد الإعلام المضاد: 1- استخدام أسلوب الالتزام السلوكي الذي يدفع المتلقي من خلال إيمانه برأي معين للتعبير عنه علناً. وهذه العلنية تفرض عليه التزاماً بما صرح به، وعدم محاولة التراجع كي لا يفقد مصداقيته بين مستمعيه. وبهذا يصبح المتلقي ملتزماً اجتماعياً بتأييد رأي معين، وهي طريقة فعالة للتأكد من مقاومته للإقناع المضاد. 2- ربط معتقداته بأشياء أخرى يعرفها. وبالقيم المشتركة المقبولة التي تجعل من المتلقي أكثر مقاومة للآراء التي تستهدف تغيير اتجاهاته. ولضمان مقاومته للإقناع المضاد، لابد من ربط الاعتقاد بجماعات مرجعية تحظى بتقدير واحترام كبير لديه. 3- إثارة الخوف عند المتلقي والقلق وزيادة التوتر من نتائج غير مرغوبة لديه، مما يجعله يقاوم الرسائل الإعلامية المضادة. ومن المعروف أن تحصين الإنسان ضد مرض معين يتم من خلال إعطائه جرعة بسيطة من ميكروب المرض لتحقيق هدف التحصين ضد هذا المرض. وهو ما يمكن أن ينطبق على عملية الاتصال، عندما نزيد من مقاومته عن طريق إعطائه جرعات بسيطة من الحجج التي قد يستخدمها الإعلام المضاد بهدف تحويله عن رأي الإعلام المضاد. وهذا أفضل من إعطائه الحجج المساندة للرأي الذي نريده فقط. وقد أثبتت بعض التجارب أن الجمع بين تأثير الدفاع بالحجج المؤيدة، وتأثير الدفاع بالحجج التي تفند الإعلام المضاد، يعطي فاعلية أكثر من استخدام أي من الأسلوبين منعزلاً عن الآخر. وقد وجد كلاً من ماجواير، وباباجيورجيس، أن وجود الإنذار أو التحذير المسبق سيجعل من كل أساليب الدفاع، سواء أكانت بالتأييد أو التفنيد، أكثر فاعلية. فبمجرد معرفة أن هناك تهديداً بخطر محدق يدفع المتلقي للتيقن من استخدام جميع أساليب الدفاع المتوفرة لديه أفضل استخدام، كما أنه سيدرب نفسه على تقديم الحجج المضادة الجيدة، بل وقد يذهب إلى أبعد من ذلك إلى فيبتكر بعض الحجج الإضافية.

مقارنة نماذج الإدراك المعرفي: تقوم كل نماذج الإدراك المعرفي على افتراضات تقول أن الفرد: 1- يسعى لتطوير وإبقاء التوازن بين عناصر معرفته وحالاتها. ويتم إدراك عناصر المعرفة من خلال اتفاقها أو عدم اتفاقها مما يعرفه هذا الفرد. 2- حين يدرك منبه مختلف عما يعرفه، يشعر بتوتر مؤلم وغير سار. 3- وأن التوتر السيكولوجي لدى الفرد يؤدي إلى بذل جهود للتقليل من الاختلاف بين عناصر المعرفة. 4- وأن تقليل الاختلافات في إدراك الفرد تقلل بدورها من حالة التوتر لديه. وبهذا يتم إعادة التوازن بين مكونات أو عناصر المعرفة وتبقى درجة التقليل من الاختلافات مرتبطة بضخامة التوتر. وعلى أساس هذه الافتراضات، تفرز نماذج المعرفة نظريات تنطبق على مختلف الظروف والأحوال بالرغم من أن النتائج المستمدة من نماذج المعرفة هذه، تبدو للوهلة الأولى مختلفة ومتناقضة، إلا أن هذه الاختلافات يمكن تجنبها عن طريق تجديد شروط وظروف الأساليب المختلفة لمعالجة النظرية. فإذا كان الاتجاه الأصلي نحو المصدر إيجابي وجاءت مادة إعلامية إيجابية عن موضوع الاتجاه نحوه: كان التغير في الاتجاه نحو المصدر إيجابياً. وإذا جاءت مادة إعلامية سلبية عن موضوع الاتجاه نحوه: كان سلبياً. وإذا كان الاتجاه الأصلي نحو المصدر سلباً، كان التغيير في الاتجاه نحو الموضوع سلبياً، وإذا كانت المادة الإعلامية سلبية عن موضوع الاتجاه نحوه: كان التغيير سلبياً أقل وإيجابياً أكثر.

ومنه نستنتج أن: 1- نماذج الاتصال الذاتي أو الاتصال بين فردين تختلف. وأن نموذج هيدر، ومبدأ أسجود، ونظرية فستنجر، تركز على البناء السيكولوجي، وبناء المعرفة داخل الفرد. بينما يركز نموذج نيوكومب على توجيه المشارك في عملية الاتصال. ولهذا يعتبر نموذجه مثالاً للاتصال بين فردين. 2- تختلف عناصر المعرفة في النماذج. فنموذج هيدر، ونموذج نيوكومب، ومبدأ أسجود، أخذت في اعتبارها اتجاه الفرد نحو فرد آخر، واتجاهه نحو شيء آخر. بينما اهتم نموذج فستنجر بتقييم الفرد لشيئين أو لموضوعين. 3- اعتمدت النماذج الأربعة على وجود مادة تربط بين عناصر الإدراك. وهي في نموذج هيدر المصدر الإعلامي وله اتجاه إيجابي أو سلبي، نحو المتلقي أو شيء معين. وتضمن نموذج نيوكومب عبارة تختلف في درجتها وتسير في اتجاهات متعددة. بينما افترض مبدأ التآلف عند أسجود بعض الإلزام إما بالربط بين المصدر والفكرة، أو الفصل بين المصدر والفكرة. ولم يفترض نموذج فستنجر وجود رابطة محددة بين عناصر الإدراك. 4- إستراتيجية تخفيض التوتر تختلف في جميع النماذج. والإستراتيجية عند هيدر، ونيوكومب، واسجود، تقول بوجود اختلاف في الاتجاهات، يحدث تغيير معين في الاتجاه. أما فستنجر فالإستراتيجية عنده هي الاختلاف بين الاتجاه المبدئي والسلوك، الذي يحدث تغيير معين في الاتجاه. ولكن هذا التغيير في الاتجاه يحدث فقط عندما تسد أو تبعد قنوات التهرب. ومبدأ سد المنافذ الأخرى يستخدم في النماذج الأربعة. 5- يختلف أسلوب تخفيض التوتر من نموذج لآخر. فعند هيدر ينتج التغيير عن عملية الاختيار عند الفرد بين اتجاهات عديدة. وبذلك قد يغير الفرد اتجاه واحد أو عدة اتجاهات، وقد يتغير الإدراك عند الفرد أو قد يشوه إدراكه، بهدف إعادة حالة التوازن. أما نيو كومب فقد اتبع الأسلوب الذي اقترحه هيدر. وافترض نيوكومب أن الفرد قد يتهرب من تشكيل الاتجاه، سعياً لتحقيق التناظر. بينما أكد مبدأ التآلف عند أسجود أن كل الاتجاهات ستتعرض للتغيير، وتتجه نحو الوضع الذي يشكل حلاً وسطاً. بينما قدمت نظرية التنافر تبريراً لعنصر اختلاف المعرفة الذي يعتمد السلوك أساساً له، لأن الفرد سيغير اتجاهه ليحقق اتفاق أكثر مع سلوكه. والتغيير ينتج وفق هذا الاتجاه عن الجهود التي تبذل من أجل تبرير السلوك الذي اتبعه، أو القرار الذي أتخذه الفرد. 6- وتعتبر معادلات التآلف التي قدمها أسجود الأكثر دقة في القياس. وتوفر هذه المعادلات قياس دقيق لقدرة النموذج على التنبؤ. كما ويعتبر نموذج نيوكومب والتعديلات التي أدخلها عليه كلاً من كارتريت عام 1956 وهراري عام 1970 دقيقة القياس أيضاً. 7- وكلما زادت مرونة النموذج، كلما قلت الدقة فيه. ولهذا يعتبر مبدأ التآلف مبدأً غير مرن، بسبب جمود قدراته على التنبؤ الذي يتراوح فيه بين التدعيم أو عدمه. وتعدد البدائل في نماذج هيدر ونيوكومب. بينما تعتبر نظرية التنافر أكثر النماذج مرونة لأنها تفسر عملية تغيير الاتجاه.

القائم بالاتصال: في ظروف العولمة التي أحاطت بالعالم مع نهاية القرن العشرين أصبحت المؤسسات الإعلامية عبارة عن شبكات عالمية ضخمة، تتصارع داخلها المصالح الحيوية للدول الغنية المهيمنة من خلال إمكانياتها الاقتصادية والتقنية والتكنولوجية. وتحولت كل مؤسسة إعلامية إلى نظام شديد التعقيد. فشبكات الإنترنيت التي تجمع وتوزع معلومات مكثفة من جميع أنحاء العالم، رغم المسافات الشاسعة التي تفصل بينها، وتضعها في متناول الراغبين أينما كانوا، تعاني من محدودية الطلب على موادها الإعلامية مقارنة بالعرض الذي يتزايد كل دقيقة. وقد لا ينطبق هذا الوضع على الولايات المتحدة الأمريكية والدول الصناعية المتقدمة. لأن التقدم التكنولوجي المتلاحق في هذه الدول قد غير مسار الإنتاج ونشر المواد الإعلامية من خلال استخدام أجهزة الحاسب الإلكتروني "الكمبيوتر"، والأقمار الصناعية، ووسائل الاتصال المتطورة لجمع ونشر المعلومات التي تطالعنا بها الأخبار اليوم بالحرف والصوت والصورة. وأصبح تدفق المعلومات في وضع يصعب مقاومته مهما بلغت قوة الدولة التي تسعى لاحتواء هذه المعلومات أو مصادرتها.

ولكن هذا الكم الهائل من المعلومات لا يجعلنا نصدق أن كل سكان العالم يستقبلون المعلومات من خلال الشبكات الاتصال العالمية. مثال شبكة التلفزيون العالمية CNN، التي تستوعب عمل 35 مراسلاً أجنبياً في 23 وكالة أجنبية، مقابل 500 مراسل لـ 100 وكالة أنباء مدعمة بالمحطات السلكية الرئيسية. وتصل أخبارها إلى 3% من سكان العالم فقط، لأن أربعة أخماس سكان العالم لا يملكون أجهزة استقبال للإذاعة المرئية. ورغم النبوءة بزيادة عدد الذين يستخدمون شبكة المعلومات الإلكترونية الانترنيت من خلال أجهزة الكمبيوتر إلى ستة ملايين نسمة حتى مطلع القرن الحادي والعشرين. إلا أن التقرير السنوي للأخبار السلكية سجل نقصاً في عدد المراسلين والصحفيين في وكالات الأنباء المحلية والعالمية، وحتى في أكبر الشبكات الإخبارية العالمية كرويترز، و CNN، و AFP لتغطية أنباء جميع أنحاء العالم. ومن الملاحظ أيضاً أن ظهور الإعلام المرئي قد أدى إلى هبوط الطلب على الإعلام المطبوع. فقد ظل عدد نسخ الصحف في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً من عام 1965 وحتى عام 1995 على حاله 59 مليون نسخة، رغم زيادة عدد السكان من 185 مليون نسمة إلى 260 مليون نسمة. أما بالنسبة للمادة الإخبارية ومحتوياتها، فإن التحول من الكلمة المطبوعة إلى الكلمة المرئية قد أصبح ظاهرة أكبر من كونها مجرد تغيير في وسيلة الاتصال الجماهيرية. والكل يعلم بأن جهاز استقبال الإذاعة المرئية قد احدث تغييراً جذرياً في طريقة تفاعل الجمهور الإعلامي مع الأحداث. وأن السياسيين والدبلوماسيين فهموا أن الإذاعة المرئية أكثر ملامسة للمشاعر والأحاسيس من غيرها. وأن لها تأثير فعال على صناعة السياسة الخارجية أكثر من أي وسيلة اتصال وإعلام جماهيرية أخرى. وعلى سبيل المثال حذر السياسيون عبر القنوات الإذاعة المرئية السياسة الخارجية الأمريكية من التورط بأي تدخل عسكري خارجي بعد التدخل العسكري الأمريكي في حرب فيتنام، والهجوم الشرس الذي شنه الرأي العام داخل الولايات المتحدة الأمريكية، على الإدارة الأمريكية. وهي الأسباب نفسها التي دفعت بالرئيس جورج بوش الأب لوقف العمليات العسكرية الناجحة ضد العراق عام 1991 خشية تصاعد سخط الشعب الأمريكي إذا ما تورط أكثر من اللازم في حرب الخليج، وهو الموقف الذي اعتمد عليه الرئيس كلينتون في الامتناع عن ما أقدم علية الرئيس جورج بوش الابن عام 2003 بعد التعاطف الذي حصل عليه نتيجة للأحداث الإرهابية التي حدثت في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2001 وصدمت الشعب الأمريكي ليؤيد بمعظمه اجتياح القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي بموافقة الشرعية الدولية لأفغانستان في نفس العام والعراق رغم اعتراضات الشرعية الدولية عام 2003 وما رافقها حتى من مخالفات صريحة لمبادئ الحقوق الدولية التي تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية نفسها المدافع الأول عنها.

والصورة الإعلامية اليوم تختلف كثيراً عنها بالأمس، بعد انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفييتي السابق. والتي تعتبر نقطة التحول في تحول الاستهلاك الإعلامي الأجنبي حتى في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. فقد كانت وسائل اتصالها الإعلامية الجماهيرية تركز في السابق على قطبي الحرب الباردة، وكان الجانب الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية يعتبر الجانب الطيب في مضمونها، بينما مثل الإتحاد السوفييتي السابق الجانب الشرير في مضمونها. وكانت الصورة في مضمون المادة الإعلامية تمثل أن الولايات المتحدة الأمريكية تدعو إلى الحرية والديمقراطية وزيادة الثروة والرخاء، وأن التحالف معها إيجابي. بينما انعكست صور الإتحاد السوفييتي السابق في مضمون تلك المادة الإعلامية كمثال لمساوئ النظم الشمولية والقمع والحرمان. وأن التحالف معه سيء.

وأنهى انهيار الإتحاد السوفييتي السابق قضية التحيز في مضمون المادة الإعلامية لوسائل الإعلام الجماهيرية الأمريكية. وفتر حماس الجمهور الإعلامي داخل الولايات المتحدة الأمريكية نحو أخبار وأحداث الشعوب الأخرى، مع زوال التهديد النووي السوفييتي ضد الولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما أثبتته الدراسات العلمية التي نفذتها المنظمات المهنية والعلمية، وتناولت تأثير انتهاء الحرب الباردة على شبكات التلفزيون العالمية، وأظهرت انخفاض كمية المواضيع والأخبار الأجنبية من 35% إلى 23%. بينما كانت هذه الشبكات تخصص خلال سبعينات القرن العشرين 40% من الوقت المتاح لتغطية الأنباء الأجنبية. وانخفض هذا الوقت عام 1995 إلى 13,5%، كما وتراجعت بعض الشبكات الإخبارية الرئيسية في الولايات المتحدة كـ NBC، و CBS، و ABC عن تسجيل وتغطية الأخبار والأحداث الجارية في الدول الأجنبية، بينما استمرت شبكة CNN في محاولتها تغطية الأنباء العالمية. رغم تزايد عدد الأقمار الصناعية ووسائل الاتصال المتطورة تكنولوجياً. وعندما ندرس ما يحدث داخل المؤسسات الإعلامية نشعر بمدى تعقد وتشابك أعمالها. ففي داخل تلك المؤسسات الإعلامية تتخذ كل دقيقة قرارات هامة وخطيرة. ونظراً لأهمية تلك القرارات فلابد أن نعرف الأسلوب الذي يتم من خلاله اتخاذ تلك القرارات، ومن يتخذها فعلاً، وطبيعة القائم بالاتصال في تلك المؤسسات، والعوامل التي تؤثر على اختياره للمواد الإعلامية.

ومن تحليل وسائل الإعلام الجماهيرية كمؤسسات لها وظيفة اجتماعية، ودراسة دور ومركز القائم بالاتصال، والظروف والعوامل التي تؤثر على اختيار مضمون المادة الإعلامية. وكيف يصنع الصحفيون الأخبار، والجوانب الأخلاقية والمهنية التي يتمسكون بها، وطبيعة السيطرة البيروقراطية المفروضة عليه. نرى أن دراسة "مراسلي واشنطن" التي نفذها ليو روستن Leo Rosten عام 1937 كانت أول دراسة كلاسيكية عن سيكولوجية المراسل الصحفي، وتناولت بالشرح والتحليل القائمين بالاتصال في الولايات المتحدة الأمريكية. وتتالت الدراسات إلى أن نشر الباحث الأمريكي ديفيد مانج وايت D.M.White دراسته "حارس البوابة وانتقاء الأخبار" أعطت دفعة قوية لبحوث القائمين بالاتصال. والفضل الأكبر بتطوير ما عرف بعد ذلك بنظرية "حارس البوابة" يعود لعالم النفس الأمريكي والنمساوي الأصل كورت لوين Kurt Lewin. وذكر لوين أن "المادة الإعلامية عبر رحلتها الطويلة حتى تصل للجمهور الإعلامي، تمر في نقاط أو بوابات يتم فيها اتخاذ قرارات تتعلق بما يدخل وما يخرج. وأنه كلما طالت المراحل التي تقطعها الأخبار حتى ظهورها في وسيلة الاتصال والإعلام الجماهيرية، كلما ازدادت المواقع التي يصبح فيها من سلطة فرد أو عدة أفراد تقرير ما إذا كانت المادة الإعلامية ستنقل بنفس الشكل التي هي عليه، أو بعد إدخال بعض التغييرات عليها. لهذا يصبح نفوذ من يديرون هذه البوابات والقواعد التي تطبق عليها، والشخصيات التي تملك بحكم عملها سلطة اتخاذ القرار ذات أهمية كبيرة بالنسبة لانتقال المعلومات". أي أن دراسات "حارس البوابة" هي دراسات تجريبية ومنتظمة لسلوك أولئك الذين يسيطرون في نقاط مختلفة على مصير المادة الإعلامية.

نظرية حارس البوابة الإعلامية: تمر المادة الإعلامية بمراحل عديدة وهي تتنقل من المصدر الإعلامي حتى وصولها للمتلقي "الجمهور الإعلامي"، وتشبه هذه المراحل السلسلة المكونة من عدة حلقات. ومن أبسط أنواع السلاسل الإعلامية، سلسلة الاتصال المباشر بين فرد وآخر. بينما تدخل سلسلة الاتصال الجماهيري شبكة اتصال معقدة تمر عبر العديد من حلقات وأنظمة الاتصال. وعادة ما تخرج المواد الإعلامية من تلك الحلقات والأنظمة أكثر مما دخل منها، مما سمح لشانون بأن يطلق عليها تسمية (أجهزة تقوية) لأنها تضاعف وتزيد من كميات المواد الإعلامية التي تدخل إليها وتوصلها بالتالي للجمهور الإعلامي. ووسائل الإعلام الجماهيرية بحد ذاتها هي شبكات من الأنظمة داخل أنظمة متصلة ببعضها بطرق معقدة، يقوم من خلالها القائمون بالاتصال باستقبال وإعداد وإرسال المادة الإعلامية، التي يستقبلها المتلقي الذي هو جزء من شبكة علاقات قائمة داخل الجماعة التي ينتمي إليها. ومن دراسة أسلوب عمل هذه الشبكة نستطيع التنبؤ باستجابة المستقبل للمادة الإعلامية. ولنتعرف على الطريقة التي تعمل فيها سلاسل الاتصال التي تنقل المواد الإعلامية لجميع أنحاء المجتمع، نذكر الحقائق الأساسية التي أشار إليها كرت لوين: بأنه في كل حلقة من السلسلة، فرداً معيناً يتمتع بحق تقرير ما إذا كان سينقل أو لا ينقل المادة الإعلامية التي تلقاها، وما إذا كانت المادة الإعلامية التي تلقاها ستصل إلى الحلقة التالية تماماً بنفس الشكل الذي وصلت به، أم سيدخل عليها بعض التغييرات والتعديلات. وحارس البوابة تعني السيطرة على مكان استراتيجي معين في سلسلة الإتصال، بحيث يتمتع فيها حارس البوابة بسلطة اتخاذ القرار والتحكم فيما يمر عبر بوابته، يمر أو لا يمر، وكيف يمر، حتى نهاية السلسلة إلى الوسيلة الإعلامية ومنها إلى الجمهور الإعلامي. وذكر لوين أن المواد الإعلامية تمر بمراحل مختلفة حتى ظهورها على صفحات الصحف والمجلات، أو عبر وسائل الإعلام الجماهيرية المسموعة والمرئية والإليكترونية، وأطلق على هذه المراحل تسمية بوابات. وذكر أن هذه البوابات تقوم بتنظيم كمية وقدر المواد الإعلامية التي تمر من خلالها. وأشار إلى أن فهم وظيفة البوابة، يعني فهم المؤثرات والعوامل التي تتحكم في القرارات التي يتخذها حارس البوابة. بما معناه بأنه هناك مجموعة من حراس البوابات، يقفون في جميع مراحل سلسلة الإتصال التي تتنقل المواد الإعلامية عبرها. ويتمتع كل منهم بحق فتح أو إغلاق بوابته أمام المادة الإعلامية التي تصله، وأن من حق كل منهم إجراء تعديلات على المادة الإعلامية التي ستمر عبر بوابته. ومن نظرة في سلسلة الإتصال التي تنقل الأخبار، نرى أن المحرر في وكالة الأنباء، أو في الصحيفة، أو في البرامج الإذاعية المسموعة أو المرئية. يتلقى كمية كبيرة من المواد الإخبارية التي تحتاج لاتخاذ قراراته كحارس للبوابة. ويتوقف ذلك على مدى مستوى وموضوعية هذا المحرر، لأن له الدور الهام في توجيه الرأي العام وتحديد آرائه عن الأحداث الجارية في أنحاء العالم المختلفة.

دراسات القائم بالاتصال: تنقسم دراسات السيطرة الاجتماعية، أو حراس البوابة إلى أربعة أقسام رئيسية، وهي:

1- دراسات تأثير الظروف المحيطة على القائمين بالاتصال: وتهتم بالظروف التي تؤثر على اختيار الوسيلة الإعلامية لمادتها الإعلامية، وكيفية تأثير اهتمام وسيلة إعلامية معينة بموضوع إعلامي معين على اهتمام وسائل إعلامية أخرى بنفس الموضوع. والطريقة التي يتم فيها نقل أو توصيل السياسة إلى حجرة الأخبار والمحررين، ومدى قبول أو رفض الصحفيين لهذه السياسة، ونتائج هذا الرفض أو القبول عليهم. والموضوعات التي تهملها الوسيلة الإعلامية، وتتعمد عدم نشرها، وأهمية هذا الحذف على القيم الثقافية واستمرارها. وبشكل عام أفكار الصحفيين والضغوط التي تفرض عليهم.

2- دراسات تأثير النواحي المهنية على القائمين بالاتصال: وتهتم بالطريقة التي يؤثر بها نظام إخراج المادة الإعلامية على المحرر الذي يتلقى المادة الإعلامية، الأمر الذي يحد من مجالات اختياره، وتأثير التدريب المهني للصحفي على إدراكه للأخبار. وتأثير الجوانب المهنية على المادة الإعلامية. وأداء القائم بالاتصال لعمله تحت تأثير الضغوط النفسية المختلفة.

3- دراسات الجوانب الفنية والمادية لعمل القائمين بالاتصال: وتتناول أسلوب صياغة الأخبار، وانتقالها والميكانيكية التي تتحكم بنشرها.

4- دراسات اختبار وقياس القائمين بالاتصال: وتتناول خصائص الصحفيين وتوافقهم مع العمل المسند إليهم.

نموذج تصور القوى الاجتماعية والسيكولوجية المؤثرة على اختيار القائم بالاتصال للمادة الإعلامية:

يتعرض القائم بالاتصال لضغوط مختلفة، تتنوع بين مجتمع وآخر. ومن هذه الضغوط:

1- المحافظة على قيم وتقاليد المجتمع: لأن النظام الاجتماعي الذي تعمل في إطاره وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، يعتبر من القوى الأساسية التي تؤثر على القائمين بالاتصال. ومن المعروف أن لكل نظام اجتماعي جملة من القيم والمبادئ التي يعتز بها ويعمل على ترسيخها بين أفراده. وهو ما اصطلح على تسميته بهدف التنشئة الاجتماعية والمحافظة على القيم والثقافية والاجتماعية، سواء في الدول المتقدمة أم في الدول النامية.

2- تحقيق الاتفاق على الأساسيات في المجتمع: بهدف الحفاظ على الوحدة الوطنية وتماسك المجتمع داخلياً. ومن أجل ذلك يختار القائمون بالاتصال في وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية المواد الإعلامية التي تحقق هذا الهدف، عن طريق اختيار الأنباء والإغفال المتعمد لبعضها. ويتحقق هذا الهدف أيضاً عن طريق المصادر الإعلامية المؤثرة على القائمين بالاتصال، لأن الصحفي يسعى دائماً لاستقاء المعلومات من مصادرها الهامة. فيتجهون لمن يشغلون المناصب القيادية، الذين بدورهم يعطون المعلومات التي تخدم أهدافهم. وكثيراً مايلجأ القائمون بالاتصال بتقديم تلك المعلومات منسوبة لمصادرها، أو تأجيل التعليق عليها رغبة في الظهور بمظهر الحياد، وتحقيق هدف الإجماع والاتفاق في المجتمع.

3- تأثير المؤسسات الإعلامية الكبيرة، على الصغيرة: فهناك مؤسسات إعلامية جماهيرية تتحكم بتدفق المعلومات من خلال إمكانياتها التقنية والمادية، وبالتالي تسيطر من خلال ما تقدمه من مواد إعلامية على المؤسسات الإعلامية الأصغر حجماً والأقل إمكانية. وتؤثر على القائمين بالإتصال من خلال ذلك.

4- دور وكالات الأنباء، والوكالات المتخصصة في زيادة التماثل في مواد مختلف الوسائل الإعلامية الجماهيرية: فهي تقدم موادها الإعلامية لكل أنواع وأشكال وسائل الإعلام الجماهيرية في نفس الوقت، مما يؤدي إلى تشابه المواد المنشورة عن نفس الموضوع فيما لو نشرته أكثر من وسيلة إعلامية جماهيرية.

5- تأثير الاعتبارات الذاتية والضغوط المهنية على القائم بالإتصال: ويتضمن: أ- الضغوط التي يتعرض لها القائم بالإتصال حجرة الأخبار. ب- تأثير سياسة الناشر. ج- طموح القائم بالإتصال ورغبته في تحسين أوضاعه الوظيفية بسرعة، وتطوير نفسه. د- اعتبارات آلية العمل، وضرورة تقديم المعلومات في موعد محدد ليتم نشره في الوقت المناسب دون تأخير.

6- الجمهور الإعلامي: من خلال تأثيره على القائم بالإتصال عند مراعاته لرغبات الجمهور الإعلامي في اختيار المادة الإعلامية المناسبة للنشر وإعدادها.

دور وسائل الإعلام الجماهيرية في المحافظة على القيم الاجتماعية، وتحقيق الانصهار الثقافي والاجتماعي في المجتمع: ذكر وارين بريد Waren Breed في دراسته التي نشرها عام 1964، أن كل نظام في شبكة الإتصال الجماهيرية مهما كان نوعه، مقيد بجملة من الظروف والأحداث المتصلة ببعضها البعض. ويتوجب أن ندرس مدى اعتماد كل نظام على الأنظمة الأخرى المتصلة به، والأحداث التي تدور من حوله. وأن القائم بالإتصال يعمد في بعض الأحيان إلى عدم تغطية الأحداث التي تقع من حوله كاملة، منطلقاً من ضميره وشعوره بالمسؤولية حيال المجتمع. وحتى أن وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية تضحي بالسبق الصحفي، من أجل تدعيم تقاليد القيم الاجتماعية، وخلق الاتفاق والإجماع والاندماج في المجتمع، وتجنب ما يضر بمؤسساته. وتعمل وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية على تحقيق الاستقرار والإجماع الثقافي في المجتمعات المعقدة متعددة الأنماط الثقافية وأساليب الحياة، بتأكيدها على كل تلك الأنماط. انطلاقاً من فرضية أن المادة الإعلامية: آ- تعكس صورة المجتمع؛ ب- وتشكل المجتمع؛ ج- وتحافظ على المجتمع وتجعله أكثر استقراراً. ووسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية تخدم أهدافاً اجتماعية وثقافية محددة، وتقرب بين الناس وتوثق علاقاتهم، وتساعد على تنشئتهم اجتماعياً، وتعودهم على أنماط من السلوك المقبولة اجتماعياً. وقد كان الاعتقاد السائد أن وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية تعمل على تحقيق الاستقرار والاجتماع الثقافي في المجتمع عن طريق التأكيد على الأنماط والأساليب المثالية السائدة داخل المجتمع. وهو ما أثبتته دراسات تحليل مضمون المواد الإعلامية المنشورة. وكان وارين أول من ساهم في تغيير اتجاه دراسات تحليل مضمون المادة الإعلامية عندما قام في دراساته بتحليل المواد الإعلامية غير المنشورة، أي المحذوفة، مستعيناً بآراء الصحفيين. فتوصل بذلك إلى افتراض جديد، يقول: أن وسائل الإعلام الجماهيرية تعمل على تحقيق الاتفاق الثقافي والاجتماعي عن طريق الحذف وإبعاد المواد الإعلامية التي تهدد البناء الاجتماعي والثقافي، وتهدد ما يؤمن الفرد به. وقد أظهرت الدراسات التي قام بها وارين أن ثلث المواد الإعلامية المحذوفة تتعلق بالموضوعات السياسية والاجتماعية، وأن خمس المواد الإعلامية المحذوفة تتعلق بالأمور الدينية، بينما تناولت بقية المواد الإعلامية المحذوفة قضايا الأسرة، والبطولة الفردية، والصحة، والقضاء، وكرامة الفرد. ونستنتج من ذلك أن وسائل الإعلام الجماهيرية تقوم بحماية الأنماط الثقافية والقيم الاجتماعية منطلقة من موقفها ومن وجهة نظرها الخاصة. وأن ما لا تقدمه وسائل الإعلام الجماهيرية من مواد إعلامية لا يقل أهمية عن المواد الإعلامية التي تقدمها. وفي هذا تبرير لاستخدام الكذب الأبيض من قبل وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، وتجنب ذكر الحقائق التي تجرح الشعور العام.

القائمون بالإتصال والمصادر الإعلامية: ومن العوامل المؤثرة على القائمين بالإتصال في النموذج التصوري، العلاقة بين القائمين بالإتصال والمصادر الإعلامية التي تعمل على تحقيق مبدأ الاتفاق الإجماعي. وهي: آ) أن يبقى المراسلون مستقلين عن مصادر الأنباء؛ ب) أن يجد المراسلون والمصادر الإعلامية مجالات يتعاونون فيها من أجل تحقيق مصالحهم المشتركة؛ ج) أن تسيطر المصادر الإعلامية على المراسلين، وبالعكس. وقد وجد ولتر جيبر Walter Gieber الذي درس العلاقات بين المراسلين والمصادر الإعلامية، أن كلاً من القائم بالإتصال والمصدر الإعلامي يعتبرون وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية حارساً للديمقراطية. وأنهما يؤيدان إبقاء قنوات الإتصال الجماهيرية مفتوحة انطلاقاً من اهتمامهما المشترك بالمصلحة العامة. وأدرك الفوارق بينهما والتي تتلخص في: 1- أن المصدر الإعلامي يعتبر نفسه حارساً لرفاهية المجتمع؛ 2- وأن القائم بالإتصال يعتبر نفسه حامياً للجمهور الإعلامي؛ 3- وأن لكل منهما فكرة مهزوزة وإدراك نمطي عن الجمهور الإعلامي؛ 4- وأن كلاً منهما قد طور إدراكاً خاصاً لدوره العام، وإطار دلالي خاص به يحدد من خلاله الإتصال بينهما؛ 5- وأن كلاً منهما يدعي لنفسه الدور الأساسي في الإتصال بالجمهور الإعلامي؛ 6- وأنهما معاً مسؤولان عن انهيار عملية الإتصال.

فبالنسبة للمصدر الإعلامي: يجب تطهير المواد الإعلامية من المعلومات التي تهدد اتفاق الرأي العام، وأن تلك المواد الإعلامية يجب أن تساعد على تحقيق الاتفاق في المجتمع. وبما أن وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية هي الشريان الرئيسي للاتصال بالجمهور الإعلامي، فيجب أن يكون الهدف الأساسي للمصدر الإعلامي استخدامها لتحقيق الأهداف عن طريق الإقناع، واستغلال العلاقة التي تربط بينه وبين القائم بالإتصال.

أما بالنسبة للقائم بالإتصال: فهو ينظر إلى نفسه كموزع مستقل للمواد الإعلامية، وأن وظيفته مراقبة وحراسة أعمال الحكومة، والتعاون مع المصادر الإعلامية.

بينما يتوقع الجمهور الإعلامي من وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية أن تغطي الأخبار بشكل موضوعي ونقدي، وبتقييم مستقل. وهذا يتطلب أن تبقى وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية حرة بعيدة عن ضغوط المصادر الإعلامية، ومتحررة من القيود البيروقراطية.

قادة الرأي من وسائل الإعلام الجماهيرية: ومن العوامل المؤثرة على القائمين بالإتصال في النموذج التصوري وهو تأثير وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الضخمة، على وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الأصغر منها. لأن الأخيرة وكما هو معروف تقلد الأولى في أسلوب اختيار المضمون الإعلامي. وقد توصل وارين بريد نتيجة للأبحاث التي درس فيها صحف النخبة التي تعتبر قادة رأي، إلى فرضية تقول أنه هناك عملية شريانية Arterial Process من التأثير تزيد من التشابه والتماثل بين الصحف الصادرة في الولايات المتحدة الأمريكية، سببه تقليد الصحف الصغيرة لأسلوب اختيار الأخبار في الصحف الكبيرة. ووجد المخرج من هذا الوضع بتعيين مراسلين ومحررين أفضل وبمستويات مهنية أرقى للعمل في الصحف الصغيرة. وهي نفس النتائج التي أكدتها البحوث اللاحقة، ووجدت أن: آ) وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية تتضمن نفس المواد الإعلامية أو مواد إعلامية مشابهة لها؛ ب) هناك تماثل في طرق صياغة وأساليب ترتيب تلك المواد الإعلامية. ومن العوامل الكثيرة المسببة لهذا التماثل في المضمون الإعلامي وطرق معالجة المواد الإعلامية: 1- اعتماد مختلف الوسائل الإعلامية الجماهيرية على خدمات نفس وكالات الأنباء التي تزودها بنفس المواد الإعلامية، مما يسبب ظهورها في تلك الوسائل الإعلامية في وقت واحد؛ 2- توزيع المواد الإعلانية والدعاية المتشابهة على نطاق واسع في وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية المختلفة؛ 3- تركز ملكية وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية في أيدي قلة من الأفراد، أو تبعيتها لإشراف إدارة مركزية واحدة؛ 4- تشابه السياسات التحريرية المحافظة سياسياً في مختلف وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية. رغم استقلال المحررين في اختيارهم للمواد الإعلامية بناءً على اعتباراتهم الذاتية Inner-directed.

ومن الأدلة التي تثبت التأثير الشرياني بين وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، متابعة الصحفيين لما تنشره وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، للحصول على معلومات جديدة والاستفادة منها في عملهم. ومن الدوافع الكثيرة التي تدفع الصحفي لمتابعة ما تنشره وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية المختلفة، الحاجة لمعرفة آخر التطورات في أساليب تقديم المواد الإعلامية، بهدف رفع سوية عمله وزيادة فاعليته من خلال متابعة الأحداث الجارية، ومقارنة عمل الغير بالعمل الذي يقوم به، والبحث والتنقيب عن الجديد الذي هو من مميزات الصحفي، فالصحفي يبحث دائماً عن شيء لا يستطيع تحديده بشكل مسبق لأنه يبحث عن الحدث الجديد والمادة الجديدة التي تهم الجمهور الإعلامي. وقد يجد ضالته في ما تنشره وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الكبرى من مواد إعلامية، وهذا حافز يدفعه إلى التقليد.

تأثير الضغوط المهنية على القائم بالاتصال: والعامل المؤثر الآخر على القائم بالإتصال في النموذج التصوري، هو: الضغوط المهنية التي يتأثر بها القائم بالإتصال أثناء عمله وتجعله يقبل بسياسة وسيلة الاتصال والإعلام الجماهيرية التي يعمل فيها. ومن هذه الضغوط: 1- ظروف العمل في القسم الإعلامي، التي يفرضها البناء البيروقراطي للعمل الصحفي. ومنها السياسة الإعلامية للوسيلة الإعلامية التي يتبعها القسم، وخاصة عند حدوث تناقض في تلك السياسة. 2- التعارض بين سياسات الناشر وتطلعات القائم بالإتصال: فلكل وسيلة اتصال وإعلام جماهيرية سياسة معينة، سواء اعترفت بتلك السياسة أم لا. وتظهر هذه السياسة بوضوح من خلال صياغة المواد الإعلامية وطرق عرضها أو نشرها، ومن خلال إهمالها المتعمد لبعض المواد الإعلامية الأخرى التي تتناول موضوعاً معيناً أو حدثاً معيناً يتعارض وسياستها الإعلامية. ودراسة السياسة الإعلامية لأي وسيلة إعلامية، هام جداً لأن المجتمع الديمقراطي يحتاج إعلام حر ومسؤول يحيط الجمهور الإعلامي بما يحدث من حوله في هذا العالم سريع التطور والتغيير، دراسة تتناول أسباب ودوافع تحيز السياسة الإعلامية التي تتبعها الوسيلة الإعلامية أثناء أدائها لعملها. وكذلك أسباب ودوافع تقيد القائم بالإتصال بتلك السياسة الإعلامية غير المعلنة في أكثر الحالات.

تأثير الجمهور الإعلامي: ويأتي الجمهور الإعلامي كأحد العوامل المؤثرة على القائم بالإتصال في النموذج التصوري. وقد توصل أثيل دوسولا بول Ithiel de Sola Pool، وشولمان إلى نتيجة مفادها أن الجمهور الإعلامي يؤثر على القائم بالإتصال، وأن القائم بالإتصال يؤثر في الجمهور الإعلامي. فالمواد الإعلامية التي يقدمها القائم بالإتصال للجمهور الإعلامي تتحكم بها توقعاته لردود الفعل المحتملة من قبل الجمهور الإعلامي، وتصور القائم بالإتصال للجمهور الإعلامي يؤثر كثيراً في نوعية المادة الإعلامية التي يعدها أو يقدمها. وأظهرت الدراسات التجريبية التي قام بها ريموند باور Raymond Bauer أن نوعية الجمهور الإعلامي الذي يعتقد أن القائم بالاتصال يقدم له المادة الإعلامية يؤثر كثيراً على الطريقة التي يتم بمقتضاها اختيار وإعداد المادة الإعلامية. لأن للجمهور الإعلامي خصائصه واحتياجاته، ولأن ظروف السوق تفرض على وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية أن تشبع حاجات الجمهور الإعلامي وتلبي رغباته. بنفس الطريقة التي يؤثر فيها العرض والطلب على الإنتاج في الاقتصاد، ويؤثر الناخبون على رجال السياسة في النظام الديمقراطي. فوسائل الإعلام يجب أن ترضي أذواق جمهورها، ولهذا عليها التعرف على الجمهور الذي تتوجه إليه كأحد الجوانب الرئيسية في عملية الإتصال. ولأن الإتصال لا يمكن أن يتم في مجتمعات متفككة لا تعاون فيها ولا اهتمامات مشتركة تجمعها. ولابد من توافر العلاقات الاجتماعية، واللغة المشتركة، والأفكار المشتركة، والعلاقات المحددة اللازمة لتتم من خلالها عملية الإتصال. ولهذا يتحتم على القائم بالإتصال تكوين فكرة وتصور عن الجمهور الذي يريد أن يوصل إليه مادته الإعلامية.

وقد يعاني القائم بالإتصال العامل في أي وسيلة اتصال وإعلام جماهيرية اليوم من صعوبة التعرف على الجمهور الإعلامي الذي يتوجه إليه، بعد التطور الهائل الذي حدث في عالم تقنيات الإتصال الحديثة، التي ضيقت المسافات واخترقت الحدود اللغوية والجغرافية. وارتفعت بدور وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية لتصبح من الأدوات الهامة والأساسية التي يتم من خلالها تحقيق الحوار الثقافي والاجتماعي بين مختلف الشعوب والأمم.

وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية: أوجدت وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الجديدة " قنبلة معلومات ... تنفجر بيننا وتمطرنا بشظايا من الصور وتغير بشكل مؤثر جداً الطريقة التي يدرك بها كل منا عالمه الخاص وتصرفنا تجاهه ... إننا نغير تكويننا النفسي". وتعتبر الإذاعة المرئية أساس الانفجار الاتصالي. لأنه خلال الحرب العالمية الثانية، لم يكن هناك سوى ست محطات لبث الإذاعة المرئية في كل الولايات المتحدة الأمريكية، تبث يومياً لمدة ساعة أو ساعتين لقلة من أجهزة استقبال بث الإذاعة المرئية المتوافرة آنذاك. وخلال فترة لم تتجاوز الخمسة عشرة عاماً أصبحت 90% من العائلات الأمريكية تملك أجهزة استقبال بث الإذاعة المرئية. وفي التسعينات من القرن العشرين أصبح المشاهد يستطيع استقبال مابين 30 و 100 قناة بث الإذاعة المرئية عبر الأطباق المنزلية المعدة لاستقبال بث الإذاعة المرئية من الأقمار الصناعية مباشرة، أو عبر أنظمة نقل بث الإذاعة المرئية بالكابلات. ومع هذا لم تتراجع الطباعة كوسيلة إعلامية جماهيرية. إذ يصدر في الوقت الحاضر أكثر من 10,000 دورية، وحوالي 40,000 كتاب جديد في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها. ولا أحد يستطيع أن ينكر حقيقة أن انتشار وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية بشك واسع، قد أحدث تغييرات جذرية على تصورات الإنسان في جميع أنحاء العالم، اتسع من خلاله إطارهم الدلالي بشكل لم يسبق له نظير بحيث لم يعد بالإمكان عزل الناس عن بعضهم البعض بأي شكل من الأشكال. لأن ما يحدث في أي نقطة من العالم لابد أن يترك أثاره على جميع أجزاء المعمورة. وببساطة تحول عالم اليوم إلى قرية الأمس من حيث شمولية المعرفة. واتسعت تصورات الفرد وأصبحت تلزمه باستيعاب وفهم سيل هائل من المعلومات تغمره بها وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الحديثة عما يجري في جميع أنحاء العالم، وعن مختلف الثقافات والعادات والشعوب.

وظائف وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية: من الأمور الهامة التي تميز البشر عن غيرهم من المخلوقات الحية قدرتهم على خلق نظم معقدة للاتصال بينهم. فالإنسان كان ولم يزل يحتاج دائماً لوسائل تساعده على مراقبة الظروف المحيطة به، تنذره بالأخطار التي تنتظره، أو الفرص المتاحة للاستفادة منها. ووسائل تساعد على نشر المعلومات والقرارات والآراء والحقائق بين أفراد الجماعة الواحدة من البشر، أو بين الجماعات المتقاربة والمتباعدة. ووسائل تحفظ وتنقل تراث الأجيال السابقة إلى الأجيال الناشئة، ووسائل ترفه عن الإنسان وتشد عضده أمام صعاب الحياة اليومية. وكانت وظائف الاتصال من مهام بعض الأفراد في القبائل البدائية، عندما كان بعضهم يقوم بوظيفة الحراسة وتنبيه القبيلة كجهاز للإنذار المبكر عن الأخطار المحدقة بها عند اقتراب عدو ما، أو فرصة متاحة للصيد عند اقتراب قطيع من الحيوانات. وكان مجلس القبيلة يتمتع بسلطة اتخاذ القرارات والتأكد من تنفيذها. وكان من بين أفراد القبيلة من ينقل الأخبار والرسائل لأفراد القبيلة والقبائل المجاورة. وكان الشيوخ ينقلون للأجيال الصاعدة في القبيلة تراثها الديني والثقافي وعاداتها وتقاليدها. وكانت الأمهات يعلمن بناتهن أصول تحضير الطعام وتجهيز الملابس. وكان الآباء يعلمون أبنائهم أصول الصيد والقنص وفنون محاربة الأعداء. بينما تولى الرواة نقل القصص الشفهية المثيرة، والمغنون الأغاني المحببة لأفراد القبيلة، والراقصون الرقصات الدينية في المناسبات المختلفة. وقد بقيت وظائف الإتصال التي كانت موجودة في المجتمعات البدائية، وانتقلت إلى المجتمعات الحديثة. بفارق تطور الوسائل والتقنيات الحديثة للاتصال التي أصبحت متشابكة ومعقدة وأكثر اتساعاً وشمولية مقارنة بتلك الوسائل التي كانت متاحة للإنسان في الماضي. وأصبحت وسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية اليوم، نظاماً مفتوحاً أمام قوى التغيير. وأصبحت تصل إلى جمهور كبير يشمل كل سكان العالم تقريباً. وأصبحت تؤثر على آراء الناس وتصرفاتهم واتجاهاتهم وأسلوب حياتهم. والمادة المطبوعة التي كان يقرؤها في الماضي عدد محدود من البشر، أصبحت اليوم بمتناول ملايين البشر. واتسع نطاق شبكات البث الإذاعي منذ أن بدأت أولى الشبكات الإذاعية عملها عندما بدأب هيئة الإذاعة البريطانية بثها المنتظم عام 1922، لتجد الصحافة المطبوعة نفسها مضطرة للتكيف مع المنافس الجديد (الإذاعة)، وحينما ظهر بث الإذاعة المرئية بعد الحرب العالمية الثانية، كيفت الصحافة المطبوعة نفسها مرة أخرى، ولم تستطع هذه الوسيلة الحديثة للاتصال من إلغاء دور الصحافتين المطبوعة والمسموعة، وكل ما حدث أنها ساعدت على تطويرهما شكلاً ومضموناً. الأمر الذي جعل الكثيرين يؤمنون بقدرة وسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية على التأثير في المجتمع وتغييره جذرياً. خاصة بعد أن دخلت تكنولوجيا الحاسب الإلكتروني عالم الاتصال الجماهيري وتمكن خبراء الحاسوب الخارق super computer من زيادة سرعته إلى أربعمائة مليار عملية حسابية في الثانية في منتصف العام 1996. ومن المقدر أن تبلغ هذه السرعة ألف مليار عملية حسابية في الثانية قبل نهاية العام 1998 مما يفتح آفاقاً واسعة أمام شبكات الكمبيوتر لنقل وتخزين المعلومات بسرعة خارقة.

تفاوت القدرة الإقناعية لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية: دلت الأبحاث العلمية في مجال وسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية، على أن لكل وسيلة من وسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية، قوة إقناع تميزها عن غيرها من الوسائل. تتفاوت تبعاً لنوعية الجمهور الإعلامي الذي تتوجه إليه، والموضوع الذي تتناوله. وأثبتت أن الإتصال المباشر هو أكثر قدرة على الإقناع من الإعلام المسموع، وأن الإعلام المسموع أكثر قدرة على الإقناع من الإعلام المقروء، وأن الإعلام المرئي أكثر قدرة على الإقناع من الإعلاميين المقروء والمسموع. وأن القدرة على الإقناع تزيد كلما ازداد الطابع الشخصي للوسيلة الإعلامية المستخدمة في الاتصال. كما وأظهرت التجارب أن الإنسان الذي يتعرض لعدة وسائل إعلامية مهيأ للاقتناع أكثر من غيره. تبعاً لظروف التعرض للوسيلة والمادة الإعلامية. وقد توصل الباحث الأمريكي صمويل ستوفر Samuel Stouffer عام 1940 إلى نتيجة هامة، وهي: أن المادة المطبوعة تصل إلى جمهور مستوى تعليمه أعلى من مستوى جمهور المادة الإعلامية المسموعة، لأن الإنسان الذي كان نصيبه من التعليم ضئيلاً، أقل قدرة على الانتقاء، وأكثر استعداداً لتقبل الإيحاء. وجاءت الإذاعة المرئية بعد ذلك كوسيلة إعلامية أكثر كمالاً، تجمع بين الصوت والصورة والحركة، ولتكون أكثر فاعلية وقدرة على الإقناع من أية وسيلة إعلامية أخرى. والاختلافات في التأثير بين وسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية في الطريقة التي يتم بها نقل المضمون الإعلامي. وكلما كانت الوسيلة المستخدمة في الإتصال أكثر قدرة على جعل عملية الإتصال أكثر حيوية وواقعية، كلما كان تأثيرها أكبر وأكثر فاعلية على الفرد والعلاقات الاجتماعية.

الخصائص المميزة لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية:

1- الإعلام المقروء: يعد الإعلام المطبوع من أقدم وسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية. وسبق الإعلام الجماهيري المسموع والمرئي بأكثر من قرنين ونيف. وللصحف خصائص وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الأخرى، ولكنها لا تستطيع تقديم الخبر بنفس السرعة التي تقدمها بها الإذاعة المسموعة، ولا تستطيع الاحتفاظ بالمعلومات كالكتاب، ولا تستطيع تقديم وجهات النظر بنفس الحجم الذي تقدمه بها المجلات، ولا تستطيع تقريب الواقع من المشاهد كما فعلته الإذاعة المرئية، ولكنها تفعل كل ذلك بصورة قد تكون أفضل من كل الوسائل الأخرى. ولهذا أصبحت الصحف جزءأً لا يتجزأ من حياة الإنسان في كل المجتمعات. ويرجع الإتصال المطبوع إلى عام 1454 عندما اخترعت الطباعة بواسطة الحروف المتحركة، بعد أن تمكن الإنسان من اختراع آلة قادرة على إعطاء صوراً كثيرة مطابقة للأصل يمكن تبادلها بين القراء. وخدم هذا الاختراع الجديد في وقته مركز السلطة آنذاك، والمتمثل بسلطة الكنيسة. وسرعان ما انتشر استخدام المطابع على نطاق واسع. لتخدم عصر الإصلاح الديني خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، من خلال تمكينها من نشر الحوار وتبادل الأفكار في أمور الدين والدنيا. ونشرت المطابع كتب أرسطو التي بقيت حبيسة المكتبات في القرون الوسطى، ونشرت روائع أدب عصر النهضة. ونقلت الأخبار التجارية للتجار في إنجلترا وألمانيا وغيرها من الدول. وساعدت المطابع في طباعة المنشورات مجهولة الهوية والمصدر والتي كان لها دور المحرض الأساسي إبان الثورتين الفرنسية والأمريكية. حتى قيل أنه دون الصحافة كان من المحتمل أن يحدث عصر النهضة، ولكن كان من غير المحتمل حدوث الثورة الفرنسية أو الثورة الأمريكية من دون الصحافة. وسرعان ما تحولت الصحف إلى حارس للديمقراطية، وأصبحت من القوى الكامنة وراء التربية والتعليم. وأصبح بفضلها سكان المدن يتصلون ببعضهم البعض، وتوفر فرص العمل للباحثين عنها، واليد العاملة اللازمة لتحقيق الثورة الصناعية. وساعدت الإعلانات التي نشرت على صفحات الصحف على تصريف السلع وخلق مبررات إنتاجها على نطاق كبير. ومع مطلع القرن العشرين وفرت الثورة الصناعية للصحف المطبعة البخارية أولاً، ثم المطبعة الكهربائية. التي مكنت من تخفيض تكاليف الطباعة وساعدت على خفض قيمة النسخة الواحدة، وعلى زيادة الأرباح لأصحاب الصحف. وأدى زيادة عدد النسخ الموزعة وانتشار الصحف على نطاق واسع إلى جذب المعلنين الذين راحوا يشترون المساحات الكبيرة من صفحات الصحف لنشر الدعاية والإعلان عن سلعهم وخدماتهم.

وكل هذه الظروف خلقت الإتصال الجماهيري الذي وفر: 1- وسيلة إعلام جماهيرية رخيصة الثمن يستطيع الإنسان العادي دفعه؛ 2- توزيع ضخم واسع الانتشار؛ 3- إعلانات مربحة؛ 4- قيام مؤسسات نشر ضخمة. ومن الخصائص المميزة للصحف أو المواد المطبوعة بشكل عام. أنها الوسيلة الاتصال والإعلام الجماهيرية الوحيدة التي تسمح للقارئ بالسيطرة على ظروف التعرض الإعلامي. وتتيح الفرصة له بإعادة القراءة مرات ومرات. كما أن المادة المطبوعة تسمح أكثر من غيرها من وسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية بتطوير المواضيع بأي حجم تتطلبه الحاجة. وهو ما أشارت إليه التجارب من أنه من الأفضل تقديم المواضيع المعقدة مطبوعة من تقديمها شفهياً، رغم أن هذه الميزة لا تشمل المواضيع البسيطة والسهلة. كما ويعتبر استخدام المادة المطبوعة للوصول للقارئ المتخصص وللجماعات الصغير أفضل من غيرها من الوسائل لرخص تكاليفها ومرونتها.

2- الإعلام المسموع: وتعتبر الإذاعة المسموعة من وسائل الإتصال القومية التي يمكنها الوصول لجميع السكان بيسر وسهولة، متخطية كافة الحواجز الجغرافية والسياسية والحضارية. شاملة الجميع صغاراً وكباراً، متعلمين وأميين وأنصاف متعلمين، وجماعات يصعب الوصول إليها عبر وسائل اتصال أخرى. ولا تحتاج الإذاعة إلى أي مجهود من قبل المستمعين، خاصة أنها لا تتطلب أوقات فراغ ولا أوضاع معينة للاستماع. لهذا اعتبرت الوسيلة السهلة التي تبقي المستمعين على اتصال دائم مع الأحداث والمتغيرات الجارية من حولهم. والمادة الإعلامية المسموعة قد تكون أكثر فاعلية وتأثيراً من المادة الإعلامية المنقولة بالإتصال الشخصي، لأنه يمكن تقويتها بالمؤثرات الصوتية (موسيقى) التي تترك انطباعاً أقوى لدي المستقبل. وهو ما أثبتته التجارب العلمية، من أن المواد الإعلامية البسيطة التي تقدم عن طريق الإذاعة المسموعة يسهل تذكرها أكثر من المادة التي تقدم مطبوعة، خاصة بين الأفراد الأقل تعليماً والأقل ذكاءً. كما يؤمن البعض بأن الإذاعة المسموعة من وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية القادرة على جعل المستمعين يشعرون بالمساهمة والاقتراب الشخصي والواقعية، التي تشبه الإتصال الشخصي، وربما كانت الإذاعة المسموعة من أسهل وسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية استخداماً على الإطلاق. رغم أنه في بعض المجتمعات المتقدمة أصبحت الإذاعة المسموعة من الوسائل الإعلامية التي يعرض الإنسان نفسه لها دون اهتمام أو اكتراث أو تركيز، أي أنه يستخدمها أساساً كمصدر للترفيه لا يحتاج لا للتركيز ولا للاهتمام. ومن الخصائص الأخرى التي تميز الإذاعة المسموعة، أن المتلقي يكيف المضمون بطريقة تجعله يتفق مع توقعاته الخاصة. وظاهرة الإسقاط معروفة في علم النفس، وهي من الخصائص المألوفة في حياة الإنسان اليومية. ويلعب الإسقاط دوراً هاماً في الاستجابة التي بقوم بها الناس على الفنون الشعبية الجماهيرية. التي يفسرونها ويدركون مضمونها مع ما يتناسب ودوافعهم اللاشعورية وتوقعاتهم ورغباتهم. وهذا ينطبق على الإذاعة المسموعة أكثر من أية وسيلة إعلامية أخرى، لآن الإذاعة المسموعة تنشط الخيال إلى أقصى حد.

3- الإعلام المرئي (التلفزيون): هناك اعتقاد بأن الإعلام المرئي له فاعلية فريدة لأنه من وسائل الإتصال الجماهيرية التي تعتمد على حاستي السمع والبصر في آن معاً. وقد لوحظ أن هذه الوسيلة المرئية تستحوذ على اهتمام المشاهد الكامل، أكثر من أية وسيلة اتصال أخرى وخاصة بين الأطفال واليافعين. وأن الكثير من الكبار يقبلون دون أي تساؤل جميع المعلومات التي تعرضها عليهم الشاشة الصغيرة وكأنها واقعية. ويتذكرون المواد الإعلامية المعروضة عليهم عبر الشاشة الصغيرة بشكل أفضل. والفارق بين الإذاعتين المرئية والمسموعة، هو في اختلاف طبيعة الاهتمام والتركيز أثناء التعرض للمواد الإعلامية. فالإذاعة المرئية تحتاج انتباهاً أكثر يشمل حاستي السمع والبصر عكس الإذاعة المسموعة. ولا يستطيع المشاهد القيام بأي عمل آخر أثناء المشاهدة، بينما يستطيع المستمع السماع في أي ظرف كان. والمشاهد يندمج تماماً مع المواد الإعلامية المحددة المضمون التي يشاهدها عبر الشاشة الصغيرة، ولا يحتاج للتصور الذي يتحمل مشقته عند الاستماع فقط. إضافة لأن الإعلام المرئي يتطلب وقت تعرض أكبر، وتركيز أكبر، لدى المشاهدين عكس وسائل الإتصال الجماهيرية الأخرى. ومن المزايا الأساسية التي يتمتع بها الإعلام المرئي: 1- أنه أقرب وسيلة للاتصال الشخصي، فهو يجمع بين الرؤية والصوت والحركة واللون والتأثير. ويتفوق على الإتصال الشخصي بتكبير ألأشياء الصغيرة، وتحريك الأشياء الثابتة؛ 2- ينقل الحدث فور وقوعه من مكان الأحداث مباشرة؛ 3- يسمح بأساليب متعددة للدعاية والإعلان؛ 4- هو الوسيلة القوية التي تهم كل الجمهور الإعلامي في المجتمعات المتقدمة، التي أصبحت فيها وسائل الاتصال والإعلام الأخرى تتجه لجمهور إعلامي متخصص ومحدود.

تأثير وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية على المجتمع: نظريات مراحل انتقال المعلومات: كان الاعتقاد لوقت قريب بأن وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية تتعامل مع أفراد منعزلين عن بعضهم البعض، متصلين بوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية مباشرة. ولم يتنبه الباحثون في الإتصال الجماهيري إلى تأثير العلاقات الإنسانية بين أفراد المجتمع على النتائج التي يحققها مضمون المادة الإعلامية التي تحملها إليهم وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية. لكن الأبحاث العلمية التي أجريت خلال العقود الماضية وما رافقها من تطور هائل في وسائل وتقنيات الإتصال أثبتت أن العلاقات المباشرة القائمة بين الأفراد المتصلون في الأسرة أو العمل أو الشريحة الاجتماعية قد تساعد أو تعرقل الوصول لأهداف عملية الإتصال. وهو ما عرف بنظرية انتقال المعلومات على مرحلتين. وقد توصل مؤلفو كتاب "اختيار الشعب" The People's Choice، إلى نتيجة مفادها أن سريان مفعول مضمون المادة الإعلامية التي تحملها وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية قد لا يكون مباشراً كما كان مفترضاً من قبل، بل يصل أولاً إلى قادة الرأي في الشريحة الاجتماعية المعينة، ومن ثم ينتقل عن طريقهم إلى الآخرين. وأطلقوا على هذه العملية اسم "انتقال المعلومات على مرحلتين". وذلك أثناء تحليلهم لعملية اتخاذ القرار أثناء الحملات الانتخابية في المجتمع الديمقراطي، وتوصلوا إلى أن الأفراد مازالوا متأثرين بالجدال والأخذ والرد مع الآخرين، أكثر تأثرهم بوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية. مما سمح لهم بتكوين فكرة تقضي بأن الأفراد يشكلون شبكات متصلة فيما بينهم، ينتقل من خلالها مضمون المادة الإعلامية التي تحملها وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية. ومنذ عام 1957 حاول مركز الأبحاث الاجتماعية التطبيقية في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأمريكية أن يدرس هذه النتائج ويعمل على تطويرها. فظهرت نتائج دراسات مرتون عن التأثير الشخصي والسلوك الاتصالي في منطقة روفير، ودراسة ديكاتور عن اتخاذ القرار في مجال ترويج موضة الأزياء، وعادات التردد على صالات السينما، والشؤون العامة، التي قام بها كاتز ولزرزفيلد، ودراسة كولمان وكاتز ومينزل عن أسلوب تعميم الأدوية الجديدة بين الأطباء. وهي الدراسات التي اعتمد عليها كاتز ليعرض فرضيته عن انتقال المعلومات على مرحلتين.

عناصر انتقال المعلومات على مرحلتين وهي: 1- وقع التأثير الشخصي، 2- سريان التأثير الشخصي، 3- العلاقة بين قادة الرأي ووسائل الإعلام الجماهيرية. وحاولت دراسة روفير تحديد دور قائد الرأي وتأثيره على المحيط، ودراسة سلوكه الاتصالي، وتحديد طبيعة التفاعل بين القادة والتابعين الذين قاموا أصلاً بتحديد القادة. ودراسة ديكاتور: التي أجريت خلال الفترة 1945-1946 وجاءت خطوة بعد دراسة روفير، وشملت إضافة للتصويت في الانتخابات، القرارات في مجالات التسويق والتردد على صالات السينما، والشؤون العامة للأفراد. وتركز محور الدراسة على: 1- الأهمية النسبية للتأثير الشخصي، 2- دراسة واقع القائد والتابع. وحاولت الدراسة استخلاص ما إذا كان قادة الرأي يأتون من نفس الشريحة الاجتماعية للتابعين، وكيفية انتقال التأثير. إذ ذكر حوالي ثلثي الأشخاص الذين تأثروا بآراء الآخرين حقيقة أنه حدث حوار بينهم وبين شخص ذكروا أنه من المؤثرين حول الموضوع المطروح، وعلاوة عن ذلك أكد 80% منهم أنهم تلقوا نصيحة من الغير. بينما أكد قادة الرأي أنفسهم على أنهم قد تأثروا بالآخرين قبل اتخاذهم لقراراتهم. وأشارت الدراسات إلى أن واقع التأثير الشخصي: كان أكثر وقعاً من تأثير وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، وخاصة لدى أولئك الذين غيروا آراءهم خلال الحملة الانتخابية (ديكاتر). وتحكم به عنصران أساسيان هما: - الاتصال بين الأفراد، - التأييد الجماعي الذي تلعب به الشخصية المؤثرة دوراً أساسياً. - تآلف الرأي في الجماعات التحتية: العائلة، الأقارب، الأصدقاء، العمل .. الخ. - الأدوار المختلفة لتأثير وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية لأن: وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية تلعب دوراً تدعيمياً في تقوية الاتجاهات السابقة والقرارات التي تتخذ فعلاً. فلوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية دوراً إخبارياً وتضفي الشرعية على القرارات المتخذة (إسناد). وسريان التأثير الشخصي: لأن قادة الرأي موجودين في كل الشرائح الاجتماعية. ويتمتعون بـ: ا- بالقيم الشخصية الذاتية، ب - القدرة والكفاءة والمعرفة والخبرة، ج- الموقع الاجتماعي المتميز. وأن قادة الرأي يتعرضون لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية أكثر من أعضاء الجماعة. ويتراوح تأثرهم بوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية المحلية والقومية والعالمية.

والخلاصة: أن قادة الرأي مثلهم مثل أفراد الجماعة الآخرين يتعرضون لآراء الغير، إضافة لتأثرهم بمضمون المادة الإعلامية التي تحملها لهم وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية. ووسائل الإعلام الجماهيرية هي: 1- وسائل لنقل المعلومات، 2- مصادر للضغوط الاجتماعية، 3- مصادر للتأييد الاجتماعي.

مضمون المادة الإعلامية: اهتم علم البلاغة بفن الخطابة وفن الإقناع منذ القدم، وقد عرف أفلاطون علم البلاغة بأنه علم: كسب العقول بالكلمات. بينما عرفه أرسطو بأنه: القدرة على كشف جميع السبل الممكنة للإقناع في كل حالة على حدى. كما وأدرك كلاً من أفلاطون وأرسطو ارتباط فن الإقناع بعلم النفس (علم العقل) الذي كان يحبو خطواته الأولى في ذلك الزمان، وهو ما فسر اهتمام أرسطو بفن الإقناع ومحاولته دراسة الطريقة التي يعمل بها العقل، معتمداً على علم العقل كما كان معروفاً آنذاك، محاولاً القيام بتحليل موضوعي لتلك الطريقة مبتعداً عن المعرقلات والاعتبارات الأخلاقية التي كانت سائدة آنذاك أيضاً. ولم يختلف علم البلاغة الحديث عن سواه، إلا بتوفر الحقائق العلمية التي كان يفتقر لها علم البلاغة القديم. بعد أن وفرتها له العلوم الحديثة ومكنته من معرفة السلوك الإنساني الذي اهتم به علم النفس الحديث. واستطاع الإعلاميون توظيفها في رسائلهم الإعلامية لإقناع الجمهور الإعلامي المستهدف بتأثير أكبر. وقد شهد الربع الثاني من القرن العشرين العديد من التجارب والأبحاث التي استهدفت تغيير الاتجاهات السيكولوجية، وقام بقدر كبير منها البروفيسور كارل هوفلاند وزملائه وتلامذته بجامعة بيل في الولايات المتحدة الأمريكية، وساعدت على بناء أسس نظرية اتصال حديثة، وعلم بلاغة حديث يعتمد على أسس علمية واضحة. وحينما نتحدث عن الرسالة الإعلامية، فهذا يعني أننا نتحدث عن مضمونها. منطلقين من فرضية أنه على القائم بالإتصال أن يتخذ عدة قرارات هامة قبل تقديم مادة مقنعة. فعليه أن يحدد الأدلة التي سوف يستخدمها والأدلة التي سيصرف النظر عنها أو يستبعدها، والحجج التي سيعتمد عليها، أو يسهب في وصفها أو يأخذ باختصارها. وماهية الأساليب التي سيتبعها لاستمالة المستهدف من المادة الإعلامية. ومنه نفهم أن أية رسالة إعلامية يقصد منها الإقناع وهي ناتج لعدة قرارات مسبقة يتخذها القائم بالإتصال للوصول إلى الغرض المطلوب، تتعلق ليس بالشكل وحده بل وبالمضمون والأسلوب، تمليها كلها خصائص الجمهور الإعلامي ومهارات القائم بالاتصال.

والهدف من تقديم مضمون المادة الإعلامية بالأساس هو جعل المتلقي يقبل الآراء التي نقدمها له، أو أن يعدل من معتقداته واتجاهاته، منطلقين من فرضية أن بعض العوامل المتصلة بالدوافع الشخصية سوف تلعب دوراً بارزاً في هذه العملية. لأن التجارب الفردية تجعل من المستهدف يفضل الأشياء التي تشبع احتياجاته، ويبتعد عن الأشياء التي لا تشبع تلك الاحتياجات. مطوراً معتقداته السياسية والاجتماعية والأخلاقية مكتسباً الجديد منها، من خلال الإتصال الشخصي والاتصال الجماهيري الذي يحدث من خلال وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية. وبالرغم من أن علماء السياسة والاجتماع وعلم النفس يؤكدون وباستمرار على أهمية الدوافع في تكوين الرأي العام، وعلاقتها بالتغيير الاجتماعي، إلا أنه ليس هناك سوى قدر قليل من المعلومات الدقيقة عن الظروف التي يتم في إطارها تسهيل العوامل ذات الصلة بدوافع تغيير الرأي. ولا يتوفر سوى قدر ضئيل جداً من الدراسات التجريبية التي تتناول تأثير مضمون الرسالة الإعلامية بمختلف صورها على الدوافع الفردية المختلفة.

الإستمالات العاطفية، والإستمالات المنطقية: لا توجد قاعدة ثابتة نعمم على أساسها أي من الإستمالات أفضل في أغلب الأحيان، إذ تشير التجارب المختلفة إلى أن الإستمالات المنطقية أفضل في بعض الأحيان من الإستمالات العاطفية، رغم أن الإستمالات العاطفية قد تصلح أكثر في بعض الظروف. وقد قارنت التجربة التي قام بها هارتمان Hartmann بين نوعين من الإستمالات من خلال فاعليتهما في دفع الناخبين للإدلاء بأصواتهم لصالح الحزب الاشتراكي في انتخابات عام 1936. وقد استخدمت في بعض المنشورات التي وزعت في إطار الحملة الانتخابية استمالة عاطفية قوية أكدت أن الاشتراكية تساعد على التخلص من الحروب، والفاقة، والخوف، وأن لها تأثير إيجابي على مستقبل الوطن، والرفاهية، والدولة. بينما استخدم في منشور آخر استمالة منطقية تعتمد على حجج واضحة تؤيد الاشتراكية. وزعت كلها على مجموعة من الدوائر الانتخابية. وتم الاحتفاظ ببعض الدوائر كمجموعة ضابطة ولم توزع فيها أية منشورات على الإطلاق. وكانت النتيجة أن الدوائر التي وزعت فيها منشورات الاستمالة العاطفية قد أعطت زيادة قدرها 50% أكثر مقارنة بنتائج الانتخابات التي كانت قد جرت في العام السابق، في حين بلغت الزيادة في الدوائر التي وزعت فيها منشورات الإستمالات المنطقية 35% فقط، بينما أظهرت المجموعة الضابطة التي لم نوزع فيها أية منشورات زيادة بلغت 24% بالمقارنة مع انتخابات العام السابق. وهو الشيء نفسه الذي توصل إليه أيضاً مانيفي وجرينبرغ من دلائل تثبت أن الدعاية العاطفية تتفوق على الحجج المنطقية في أكثر الحالات. بينما فشلت الدراسات الأخرى في التوصل إلى مؤشرات قاطعة تثبت تفوق نوع معين من الإستمالات المستخدمة على غيره من الأنواع. بينما أثبتت الدراسات التي أجراها الباحث كنور أن الأسلوبين يتمتعان بنفس الفاعلية والتأثير تقريباً، في الدراسة التي أجراها على الحظر الذي كان مفروضاً آنذاك على الخمور في الولايات المتحدة الأمريكية. ومن الجوانب الهامة في هذا المجال أيضاً المقارنة بين الإستمالات الإيجابية والإستمالات السلبية، لأن الاستجابة الإيجابية أصلاً معدة للوصول إلى نتيجة معينة مرغوبة أصلاً، بينما أن الاستجابة السلبية معدة لتجنب نتيجة غير سارة.

إستمالات التخويف: من بين الأنواع المختلفة للرسائل الإعلامية التي يحتمل أن يكون لها تأثير على دوافع الجمهور، تلك الرسائل الإعلامية التي تدعو بشكل محدد أو بشكل ضمني إلى قبول توصيات القائم بالإتصال لأنها سوف تجنب الفرد عدم القبول اجتماعياً أو أن يتجنب خطراً محدداً، أو حرماناً من نوع محدد. وهو ما يطلق عليه اصطلاح "استمالة التهديد" للإشارة إلى مضمون الرسالة الإعلامية التي تتناول النتائج غير المرغوب بها التي قد تحدث فيما لو امتنع متلقي الرسالة الإعلامية عن قبول توصيات القائم بالإتصال، من خلال إثارة التوتر العاطفي لدى المتلقي وجعله أكثر عرضة للتعرض للاستجابة لمضمون الرسالة الإعلامية وتبنيه وفقاً لذلك المضمون. وكثيراً ما تلجأ وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية إلى هذا الأسلوب لإثارة المخاوف لدى الجمهور الإعلامي من أخطار الحرب لتبرير الزيادة في النفقات العسكرية المرصودة في موازنة الدولة، أو إثارة المخاوف من الأمراض الخبيثة كي تحث الجمهور الإعلامي على مراجعة الأطباء في الوقت الملائم. فما هي العوامل الأساسية التي تحدد نجاح أو فشل استعمال إستمالات التخويف للوصول إلى الهدف المحدد لمضمون الرسالة الإعلامية ؟ هناك قدر كبير من الأدلة التجريبية التي تؤيد الافتراض القائل بأن أية عاطفة قوية تسبب الاضطراب كالخوف، أو الإحساس بالإثم (عقدة الذنب) أو الخجل أو الغضب أو الاشمئزاز.... الخ، وكلها تتمتع بخصائص الحافز الوظيفي للفرد. ولكن ماذا يحدث عندما يتعرض الفرد لمضمون رسالة إعلامية تسبب لديه ردود فعل عاطفية لا تبعث لديه السرور؟ في هذا الظرف هناك مبررات تدفع الفرد بشدة لتجربة الاستجابات الرمزية والعلنية المختلفة حتى يقلل من وقع هذه الحالة العاطفية المرهقة. وستحدد الاستجابات المختلفة التي يجربها الفرد أساساً خبرات التعلم السابقة التي نجحت في تخليص الفرد من الحالات العاطفية المماثلة. أي استجابة تقلل من شدة الحالة العاطفية، أو تريح الفرد ويتم تدعيمها. وبهذا تصبح استجابة اعتيادية. بهذا يفترض أن الاستمالة التي تنطوي على تهديد يحتمل أن تجعل المتلقي يقبل نتائج القائم بالإتصال إذا كان: أ - التوتر العاطفي الذي أثير خلال الإيصال شديد بحيث يشكل حافزاً، ب - وإذا تضمنت الرسالة تأكيدات تخلق توقعات عند الفرد بأنه في الإمكان تجنب الأضرار وبالتالي تقلل التوتر العاطفي. ومن الأساليب الأساسية لإثارة الاطمئنان أن يتخيل الفرد نفسه مشتركاً في نوع من أنواع النشاط يجنبه الأخطار الناجمة عن التهديد، وبهذا يتخلص من التوتر.

وكثيراً ما تسبب الرسائل التي تنطوي على تخويف تأثيرات غير مرغوبة أو عكسية. فهناك من الدلائل التي تشير إلى أنه حينما يثير القائم بالإتصال الغضب برسائل هجومية، يشعر المتلقي بالكراهية ليس نحو القائم بالإتصال فقط،، بل أيضاً نحو الجماعات والمشروعات والأهداف المقترنة به.

العوامل التي تؤثر على إثارة التوتر العاطفي: مضمون الاستمالة التي تنطوي على تهديد يجب أن يكون له معنى عند المتلقي وإلا فإنه لن يستجب لها. فإذا لم يجرب الفرد أبدأً التهديد أو يسمع عنه فالتوقعات الناتجة عنه لن تثير توتراً عاطفياً. ويضاف إليها: 1- العوامل المتصلة بالمصدر ومدى وثوق المتلقي بقدرات القائم بالاتصال. 2- مدى تعرض المتلقي لرسائل سابقة، سبق وناقشت وتنبأت بنفس الموضوع. لأن الافتراض الأساسي أن يثار الخوف والمشاعر غير السارة بشدة، لدفع الفرد لتجنب الحالة العاطفية المؤلمة، أو الهرب منها، كأن "يتخيل نفسه مثلاً يقوم بعمل دفاعي ناجح أو بصرف انتباهه بأحلام اليقظة السارة". والأفراد يتأثرون بالخوف بطرق عاطفية متعددة منها: 1- زيادة يقظتهم واهتمامهم بالمعلومات عن الخطر، والتفكير بالتصرف المطلوب لمواجهة كل الاحتمالات. 2- البحث عن تأكيدات تبعث الطمأنينة وتخفف التوتر العاطفي. 3- زيادة احتمالات تكوين اتجاهات جديدة تعتبر حلاً وسطاً بين الحذر والميول الباعثة للطمأنينة.

ويجب أن نأخذ في الاعتبار نوع استجابة الجمهور المستهدف لتحقيق أقصى قدر من الفاعلية وإثارة درجة عالية من التوتر العاطفي، والتي تعتمد على: 1- درجة الخوف التي يستطيع الفرد تحملها، 2- وما إذا كان سيطبق التهديد على نفسه، 3- وقبوله للبدائل، 4- وخصائص شخصيته. وباختصار يجب أن نوازن استخدام استمالات التخويف القوية، بخطة محددة للعمل أو السلوك ذات فاعلية واضحة. ولا يجب أن يكون التهديد معتدلاً بحيث يجعل المتلقين يتهاونون، أو مبالغاً فيه بحيث يبدو مضحكاً.

يتبع الإعلام وتحليل المضمون الإعلامي 2


هناك 3 تعليقات: