الخميس، 1 مايو 2014

مقالة المفكر السوري برهان البخاري "تداعيات على شاطىء الموت"


تحت عنوان "تداعيات على شاطىء الموت" نشرت صفحة المفكر السوري برهان بخاري، نص مقالته التي سبق ونشرها في صحيفة تشرين الدمشقية بتاريخ 3/5/1998 بعد أسبوعين من إصابته بأول أزمة قلبية وأعيد نشرها تخليداً لذكراه في الذكرى الرابعة لوفاته رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.


يوم الأحد الماضي التقيت الصديق حميد مرعي في جنازة الراحل فيصل صائب، وكعادتنا حين نلتقي في مثل هذه المناسبات - من تبقى من ثمالة الأصدقاء وأنا - انطلقنا بالشكوى الروتينية من أننا لم نعد نلتقي إلا في الجنائز ومجالس التعزية والمآتم، ثم بدأت عملية تعداد القائمة الطويلة لأسماء الأصدقاء الراحلين بالطريقة التقليدية المعهودة "إيه ... الله يرحم فلان ... والله يرحم فلان ..."، لكن "حميد" نظر فجأة إلي وقال " آن الأوان يا برهان لأن نجهز أنفسنا بشكل جدي للانضمام إلى قائمة الراحلين ... لقد جاء دورنا".
وبعد أن تركني، وقفت لحظات وحيداً أستعرض الوجوه المبعثرة التي كانت تقف بانتظار خروج الجثمان من المسجد، ثم جال في داخلي تساؤل عن الوجه القادم الذي سيغيب، وفجأة جلجل في أعماقي سؤال... لماذا لا أكون أنا الراحل القادم؟ وأخذت أستعرض بعدها الوجوه التي ستكون حاضرة في مثل هذا المكان، وبدأت أستقرىء شيئاً من الكلام الذي يمكن أن يدور حولي. وحين اقترب مني الصديق عادل شموط، وبعد بضع عبارات تقليدية، سار بي ليعرفني على أحد أصدقائه، فتفرس صديقه في وجهي، وما إن ذكر أن اسمه "عبد الرحمن شبلي" وبدأ يذكرني بعلاقتنا القديمة حتى أخذت معالم وجهه تتضح، لكن ما كانت إلا ثوانٍ حتى أخذت ملامحه تتغير وتتعرض إلى تشوهات مرعبة، ثم التفتُ إلى عادل فاكتشفت أن وجهه قد بدأ هو الآخر يأخذ أشكالاً غريبة، ووضعت يدي على جبيني فأحسست بعرق بارد غزير، وقبل أن أهوي صحت بصوت خافت "اسندوني".
بعد أن وضعني عادل وعبد الرحمن على كرسي عند بائع العصير الذي كان على بعد بضعة أمتار، انضمت إلينا مجموعة أخرى من المشيعين كان بينها طبيب، ثم بدأت عملية الإسعافات الأولية من تدليك لليدين والقلب، ومسح للوجه بالماء، تلاه وضع حبة في الفم لتوسيع الشرايين، وبعدها كأس من عصير البرتقال، فأخذ لوني يتخلص تدريجياً من الشحوب الطارىء ليعود إلى طبيعته الأصلية، وحين سار موكب الجنازة كان بعض الأصدقاء ينسلخ عنها ليطمئن علي ثم يعود، لكن الوحيد الذي لم ينتبه إلي كان حميد مرعي، وكم كان بودي أن تلوح منه التفاتة لألوح له بيدي عن بعد قائلاً... وداعاً أيها الصديق ... يبدو أن القرعة قد وقعت علي.
وطوال الوقت الذي أمضاه عادل وهو يحاول إيقاف سيارة تاكسي مرت في رأسي عشرات القصص، وتساءلت: ترى ما الشعور الذي انتاب الذين رحلوا ؟ وهل كانوا يشعرون فعلاً بدنو أجلهم؟
أعرف أن الراحل عدنان بغجاتي كان مسكوناً بالموت في سنواته الأخيرة، وكنت أشعر أنه كان"يذوي" كما تذوي الزهرة، فأعياد ميلاده الأخيرة كانت تقتصر على أفراد أسرته فقط وعلي شخصياً وأحياناً تمتد لتشمل بعض أفراد عائلته، وحين أصررت على أن يحضر بعض الأصدقاء المقربين جداً عيد ميلاده وافق على مضض.
وبعد أن جرى قطع "التورتة" بشكل اعتباطي وقفنا: فاتح مدرس - ناظم كلاس - محمد محفل - عدنان بغجاتي وأنا لنلتقط صورة تذكارية لتلك المناسبة فصاح فاتح - الذي كان أكبرنا عمراً - هذه آخر صورة لي، فما كان من عدنان إلا أن صاح ... فاتح لا تخاف ... في خربطة بالدور... ولم يمض أسبوعان على تلك الجملة حتى رحل عدنان، وحين بدأت بكتابة مرثيتي إليه كان مفهوم عشوائية الموت هو المسيطر. 
" ... كلما اغتال الموت أحدنا اكتشفنا أن جذورنا في الفراغ وأن علينا أن ننصاع لنزوة الموت في ترتيب الطابور ومع الصباحات التي نستيقظ فيها على غيابات مليئة بالشجن لا بد أن يطلع صباح نترك فيه بقية من الشجن للأصدقاء ..." 
في طريق العودة من حماة وبعد أن وارينا الراحل ناظم كلاس - محمد محفل وأنا - كنت ألحف على محمد أن يخفف السرعة قدر الإمكان، وبعد أن أكد لي أن العداد لا يتجاوز الثمانين كيلومتراً سألني لماذا كل هذا الخوف الشديد؟ فأجبته كي لا نرحل نحن الأربعة الذين كنا في الصورة ويبقى فاتح وحيداً.
بعد أن ساعدني عادل شموط على دخول التاكسي مضى طوال الطريق من المسجد إلى بيتي وهو يهون الأمر ويخفف من شأنه قائلاً ... شو بنا؟ انسى الموضوع ... المسألة عرضية، وحين دخلنا إلى البيت كان ذعر الأولاد واضحاً رغم جميع الجمل المطمئنة التي رددناها عادل وأنا، وكان أمراً بدهياً أن أرفض استدعاء أي طبيب، لأن الأمر كان عرضياً وتافهاً.
تمددت في سريري وطلبت كأساً من الشاي ثم تناولت الكتاب الذي كان في السرير، وبعد بضعة أسطر فقط شعرت بالغثيان والتعرق الشديد وبأن الغرفة تدور وتهوي فصحت مذعوراً ... بدي دكتور فوراً.
تبعثر أولادي كمجموعة من الدجاجات التي انقض عليها ثعلب واستنفر الجيران، وبعد دقائق عاد ابني منتزعاً دكتوراً شاباً بالغ الود واللهفة عرفت في ما بعد أن اسمه عبد الرحمن أبو الشامات وأنه يقطن على بعد عشرات الأمتار من بيتنا، وبعد أن قام بتخطيط سريع للقلب أصر على أن أنقل إلى المستشفى فوراً وعن طريق الإسعاف السريع.
وحين نهضت لأنزل إلى سيارة الإسعاف رفض الطبيب وطلب المحفة، وحين خرجت من الباب شعرت بالخجل من الجيران المتجمهرين قائلاً "لا تواخذونا أزعجناكم" إذ لم أكن أصدق أنني مريض فعلاً، وأثناء إدخالي السيارة واريت نظري بخجل من عيون الجيران الذين تجمعوا على الشرفات.
كان معي في سيارة الإسعاف ابني وزوج ابنتي والطبيب الشهم، فقفزت إلى ذهني فوراً صورتي في سيارة الإسعاف حين رافقت الراحل عدنان بغجاتي مع بعض بناته إلى المستشفى، فرددت في داخلي ... الله يصلحني ويصلحك يا عادل شموط على هالمراجل الفاضية! 
حين صاحت أمل زوجة عدنان على الهاتف ...عدنان تعبان كتير ... اعتذرت من ضيوفي وهرعت إلى بيته مصطحباً أحد الأطباء وحين وصلنا إلى بيته كان ثمة طبيب آخر هناك، ولقد قام الطبيبان مع الأسف الشديد بعكس ما كان يجب القيام به، وظلا يقيمانه ويقعدانه ويفتلانه ويدورانه بطريقة تشبه الحركات السويدية إلى حد بعيد، الأمر الذي أدى بالنتيجة لأن تصل "الجلطة" التي لم يضعاها في حسبانهما إلى الحد القاتل.
وأثناء تأملي للقلق الذي كانت تتسع دائرته في عين الطبيب وهو يمسك يدي في سيارة الإسعاف قدرت أن حياة الإنسان جديرة بالقلق والاهتمام حتى لو كان احتمال الخطر واحداً من ألف، فبدأت أحمل الأمر على محمل الجد، وأخذت أتنازل عن فكرة أنني لا أصاب بالجلطة، وشعرت أننا ما زلنا أسارى لتقاليد بالية.
وفي مشفى دار الشفاء انهمك فريق العمل في غرفة العناية المشددة بترتيب الأمور بمهارة فائقة، ورغم أنني دخلت المستشفيات ما لا يحصى من المرات بصفة زائر، لكن كانت تلك المرة الأولى التي أدخل فيها مستشفى بصفة نزيل.
وأثناء وضع المجسات الكهربائية في مواضع مختلفة من جسمي سرت في داخلي قشعريرة حين تذكرت عمليات التحضير للإعدام بالكرسي الكهربائي، وحين أخذ الممرض يعتذر قائلاً بأن عملية "القسطرة" ستكون مؤلمة قليلاً قلت على الفور: هل تأكدتم أنني بحاجة إلى قسطرة؟ فأجابني أن المقصود هو إدخال إبرة في العرق من أجال "السيروم".
بعد بضع دقائق كان الأمر مريحاً بالنسبة لي وطبيعياً جداً، لكنني كنت أتمنى ألا يدخل أحد من أهلي وأصدقائي كي لا يتوهم من منظر الأشرطة الكهربائية والسيروم وجهاز الأوكسجين الذي في الأنف ومختلف الأجهزة التي تعرض نبضات القلب على شاشات فوق الرأس.
أثناء تجوالي في المستشفى أدهشني أمر غير عادي وذلك حين رأيت جزءاً من المستشفى بحدود ستين متراً مربعاً يحمل اسم "قسم الرنين المغناطيسي" يقع داخل حرم جامع الثناء المجاور للمستشفى، وحين سألت عن الموضوع عرفت أن ثمة تعاوناً بين إدارة الجامع والمستشفى، وشعرت بسعادة خاصة بأن ما حلمت به وطالبت به كتابة في بعض مقالاتي قد بدأ يتحقق شيء منه.
يعرف الجميع أن الصلاة جائزة وممكنة في أي مكان طاهر أما الاستطباب العصري والجراحي بخاصة فلم يعد متاحاً لقسم لا يستهان به من الفقراء، وفي الوقت الذي كنت أنوي أن أناقش في إحدى مقالاتي إمكانية إصدار فتوى بعدم السماح ببناء جامع إلا وبجانبه مستوصف أو عيادة، فإنني أقترح الآن دراسة إمكانية استغلال جزء من مساحات المساجد لتحويلها إلى مستوصفات وعيادات للأطباء الذين لا تتوفر لهم أماكن عمل شريطة أن تخصص للفقراء وبأجور رمزية، خاصة إذا تبرع "أهل الخير" بالمعدات وما شابه .
إن المسجد حين يرتبط بهموم الإنسان يكون مكاناً أقرب لتحقيق طاعة الله ومرضاته، وحين يسعى القائمون عليه لتأمين الاستطباب المجاني أو الرخيص فإن هذا الأمر سيبعد على الأقل الفقراء والمعدمين من الوقوع فريسة للمتاجرين بالدين من مشعوذين ومشعوذات من أصحاب الرقى والتعاويذ والحجابات والأمور التي ما أنزل الله بها من سلطان، وبدهي أن يلجأ الفقراء لمثل هؤلاء حين تنعدم عندهم الحيلة والوسيلة.
تبقى ثمة مسألة إنسانية تتعلق بالتفاعل الكيمياوي الناتج عن مصافحة الموت والتفرس في عيونه وجهاً لوجه، فكثيراً ما يتحول مثل هذا الموقف إلى عتلة رافعة، كما حدث مع الراحل سعد الله ونوس الذي كتب بغزارة لا توصف وهو يتمشى على شاطىء الموت، أما بالنسبة لي فلقد أخذ الأمر شكلاً معكوساً تماماً، فكما أنني لست خجلاً من أن مشروعي لمحو الأمية من الوطن العربي قد أخفق، كذلك لست خجلاً من أن موسوعاتي العشر قد تشتت.
فحين يتعثر تنفيذ موسوعة الشعر التي تضم خمسة ملايين بيت لأربعين ألف شاعر بسبب بعض الشكليات بين جهة عربية وبيني أشعر أن الأمر أكبر من طاقتي، وحين أسمع بعضهم يقول أين موسوعاته العشر؟ أتساءل بحزن هل أقوم أنا بإعداد عشر سندويشات حتى أواجه بمثل هذا السؤال؟
ما يجعلني راضياً في آخر المطاف هو أنني تأكدت أن التخلف هو أخطر من إسرائيل بما لا يقاس، فلولا وجوده لما قامت إسرائيل أصلاً، وأن هذا التخلف ليس إرثي الشخصي بل إرث عشرات الملايين، وإنه لأمر يدعو إلى الأسى أن تستمر القوة الضاربة لهذه الملايين في زيادة حجم التخلف بنسبة تصاعدية.

مقال نشره الراحل بتاريخ 3/5/1998 في جريدة تشرين الدمشقية بعد أسبوعين من إصابته بأول أزمة قلبية ونعيد نشره في ذكرى وفاته الرابعة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق