دراسات مخطوطات
علوم اللغة العربية في أوزبكستان
كتبها أ.د. محمد البخاري،
مستشار رئيس جامعة طشقند الحكومية للدراسات الشرقية، بالاشتراك مع مليكه أنور
ناصيروفا: مدرسة في قسم اللغة العربية، كلية الآداب بجامعة طشقند الحكومية
للدراسات الشرقية. في طشقند بتاريخ 25/ 7/2001. ونشرت بمجلة الفيصل، الرياض العدد
303، نوفمبر/ديسمبر 2001. ص 27-32.
للأوساط العلمية في جمهورية أوزبكستان
شجون تحملها الكثير من الصفحات المشرقة في تاريخ ما وراء النهر، وذكريات مع
الاضطهاد الذي تعرضت له الثقافة الأصيلة لشعوب المنطقة خلال سنوات الاحتلالين
الروسي والسوفييتي، وآمال المستقبل للواقع المشرق الذي باتت تعمل من أجله تلك
الأوساط بعد الاستقلال.
إذ من المعروف للجميع أنه مع انتشار
الدين الإسلامي الحنيف فيما وراء النهر، الذي حمله معهم الفاتحون العرب في القرن
السابع الميلادي، انتشرت اللغة العربية لغة القرآن الكريم في تلك الأصقاع من الأرض
حتى غدت لغة العلم والتعليم والتجارة والدواوين. ولم يتأثر موقعها الهام هذا رغم
تبدل الأسر الحاكمة، والدول التي أقاموها على أرض ما وراء النهر، حتى جاء الاحتلال
والضم والاستيطان الروسي خلال الجزء الأخير من القرن الثامن عشر، الذي أخذ يقضم
ويضم تدريجياً الإمارات الإسلامية في تركستان الواحدة تلو الأخرى، إلى
الإمبراطورية الروسية مترامية الأطراف آنذاك، مستفيداً من القسمة والخصومة
المحتدمة بين الأمراء المسلمين في المنطقة حينها، وانشغال العالم الإسلامي بأسره
بالدفاع عن ذاته أمام الهجمات المتعاظمة لقوى الاستعمار الأوروبي الذي أحاط به
وأخذ بالتشبث في أرجاء مختلفة منه.
وجاء الاحتلال الروسي لتركستان بثقافة
غريبة، ولغة غريبة، ومفاهيم غريبة عن أبناء المنطقة التي حملت منذ الاحتلال اسم
تركستان الروسية. وازدادت وطأة الاحتلال بعد استيلاء البلاشفة على السلطة في روسيا
وقيام السلطة السوفييتية التي قسمت تركستان الروسية إلى الجمهوريات الإسلامية
الخمس التي نعرفها اليوم وهي: أوزبكستان، وقازاقستان، وتركمانستان، وقرغيزستان
وطاجكستان. فقامت السلطات البلشفية بإغلاق المساجد، ومصادرة وإتلاف كل ما كتب
باللغة العربية أو حتى بالحرف العربي بعد أن عمدت إلى إلغاء استعماله واستبداله
بالحرف اللاتيني أولاً، ومن ثم بالحرف الروسي (الكيريلي). وتم إغلاق المدارس
الإسلامية ومنع تعليم وتداول اللغة العربية تماماً.[1]
ورغم تبدل الظروف تحت وطأة الحرب
العالمية الثانية، واضطرار السلطات السوفييتية للتخفيف من ضغوطها، فتح متنفس ضعيف
للمسلمين في تركستان الروسية، بتأسيس الإدارة الدينية لمسمي آسيا الوسطى
وقازاقستان السوفييتية، والسماح بتعليم اللغة العربية في عدد من المدارس الرسمية في
أوزبكستان، وتأسيس كلية اللغات الشرقية في جامعة طشقند الحكومية، إلا أن الصورة لم
تتبدل من ناحية الجوهر، حيث فرض تعليم اللغة العربية من خلال كتب كتبها مؤلفون روس
اعتمدوا في موادهم الدرسية على قواعد اللغة الروسية، فأصبح على الأوزبكي تعلم
العربية من خلال لغة أجنبية أخرى (الروسية).[2] وجاءت
أهدافها لتلبي احتياجات الحكومية المركزية في موسكو وخططها، من المترجمين بعد
ازدياد الطلب عليهم مع توسع المشاريع السوفييتية في بعض الدول العربية.
وتبدلت الصورة بعد الاستقلال تماماً،
وأصبحت دراسة اللغة العربية كلغة أجنبية تدرس في المدارس الرسمية إلى جانب اللغات
الأجنبية الأخرى، وأصبحت تدرس في الجامعات والمعاهد وازداد الطلب عليها بعد تأسيس
الجامعة الحكومية الإسلامية بمبادرة من رئيس الجمهورية إسلام كريموف في عام
1999، وافتتاح عدد كبير من الثانويات والمعاهد المتوسطة المتخصصة بتعليم اللغة
العربية. وازداد الاهتمام بدراسة المخطوطات المحفوظة والمحتبسة في معهد أبي ريحان
البيروني للاستشراق، الذي تبدلت أهدافه بعد الاستقلال من معهد يلبي حاجات الاستشراق
الروسي الذي رمى إلى تعزيز وتكريس الاحتلال الروسي وتثبيت جذور السلطات
الاستعمارية والاستيطان في المنطقة بأسرها، لتصبح أهدافه وأهداف غيره من مؤسسات
التعليم المختلفة بعد الاستقلال دراسة وتحقيق ونشر تراث الأجداد العظام علماء ما
وراء النهر أمثال: الخوارزمي (783-850)، والفارابي (879-950)، والبيروني
(973-1048)، وابن سينا (980-1037)، والزمخشري (1075- 43/1144) وألوغ
بيك (1449- 1494)، وغيرهم الكثيرون، الكثيرون ممن تعتبر مؤلفاتهم جزءاً هاماً
من التراث الإنساني العالمي وحضارته المتجددة، وتعريف الجيل الناشئ بها، وتقديمها
للعالم بأسره.
وتقوم اليوم الكوادر العلمية الخبيرة
والمتخصصة في مجال دراسات التراث الأدبي الإسلامي ومخطوطاته بمتابعة الأبحاث
العلمية التي بدأت منذ دخول الكوادر الوطنية هذا المجال الهام في جمهورية
أوزبكستان منذ الثلاثينات من القرن العشرين.[3] ومن
بين تلك المجالات، مجال دراسة الدور الهام الذي لعبه أجدادنا العظام في دراسة
وتطوير وإعداد قواعد النحو والصرف العربية، وهم الذين أسهموا بقسطهم الوافر حتى
بلغ النحو العربي الدرجات العليا التي وصل إليها اليوم، وخاصة منها ما لم يتناوله
البحث والدراسة والتحقيق من قبل. خاصة وأنه كان لعلماء ما وراء النهر دور مهم في
إعداد قواعد النحو والصرف للغة العربية التي نعرفها اليوم.[4]
ومن الكوادر العلمية الوطنية التي
اهتمت بدراسة تلك المخطوطات في أوزبكستان علي بيك رستاموف، وقازاق باي
محمودوف، وزاهد جان إسلاموف، ومقصود حكيم جانوف، وأتكور جان
قارييف، وعبيد الله أواتوف، وباطير بيك حسانوف، وإيرغاش
عماروف، ومن الباحثين الشباب سليمة رستاموفا، ومخلصة ضياء الدينوفا،
ورايح بهاديروف، ويولدوز إسماعيلوفا، وبهرام عبد الخاليقوف
وآخرون كثيرون.[5]
وفي هذه الدراسة سنحاول تقديم بعض من
علماء اللغة العربية الذين ولدوا وعاشوا في منطقة ما وراء النهر خلال القرون
الوسطى، من خلال نتائج الدراسات الجارية عنهم في أوزبكستان. خاصة وأنه من المعروف
أن اللغة العربية في آسيا المركزية خلال القرون الوسطى كانت لغة العلم والفن والأدب
لوقت طويل كما سبق وأشرنا.[6] وأثبتت
الدراسات أن علماء ما وراء النهر (آسيا المركزية اليوم) قد أتقنوا اللغة العربية
وشاركوا من خلال أعمالهم بتحليل اللغة العربية وقواعدها وآدابها. وتطور إلى جانب
الأدب المكتوب باللغة العربية في المنطقة، الأدب المكتوب بالحرف العربي باللغة
المحلية (التركية القديمة).[7] وهو
ما يثبته وجود الكثير من رسائل النحو العربي، والمعاجم، والشروح لمؤلفات نثرية
وشعرية ظهرت خلال الفترة قبل الغزو المغولي لما وراء النهر.[8] وتشير
إلى إقبال أهل ما وراء النهر، وخوارزم على اعتناق الدين الإسلامي الحنيف الذي حمله
معهم الفاتحون العرب بشغف، ونشطهم أيما نشاط في تعلم اللغة العربية لغة القرآن
الكريم والسنة المطهرة والحديث الشريف، وهما مصادر الشريعة ومنبعها، فلما كانت
النهضة العلمية والأدبية في ما وراء النهر وخراسان خلال العصر العباسي ازدادوا
سعياً في ميادين العلم والثقافة والأدب العربي.
وقد اشتهر في الشرق الإسلامي علماء
كثيرون منهم أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (1075-1143) الذي أدّى قسطه
الوافر لتطوير علوم نحو وصرف اللغة العربية في صدر القرون الوسطى. وهو أشهر من نار
على علم، ولا يحتاج لتقديم أو تعريف. ومع ذلك ولضرورة البحث نقول أنه نشأ في زمخشر
(ولاية خوارزم في أوزبكستان اليوم)، ودرس ودرّس فيها، ثم سافر إلى بخارى شريف
طلباً للعلم وهو في مطلع الشباب. وتعرض خلال سفره لحادث أدى لقطع رجله.[9] ليعيش
ما تبقى من حياته عاجزاً برجل واحدة. ورغم ذلك قضى حياته في السفر والتنقل طلباً
للعلم، فسافر إلى خراسان وبلاد الشام والعراق والحجاز. وعاش أكثر من خمس سنوات في
مكة المكرمة، حيث درس فيها العلوم الدينية المختلفة والنحو والصرف والفقه والكلام
وعلم اللغة والعروض والأدب والمنطق وتفسير القرآن وأبدع فيهم.
وألف الزمخشري خلال حياته أكثر
من خمسين عملاً كتبها نثراً ونظماً.[10] وألف
كتابه "المفصل في صنعة الإعراب" خلال سنة ونصف
(513هـ/1119م-515هـ/1121م) وهو في مكة المكرمة، وللزمخشري مختصر لهذا
الكتاب معروف باسم "الأنموذج في النحو" يحوي على 25 صفحة، تتضمن عرضاً
شاملاً لقواعد اللغة العربية، ويستعمل حالياً في تدريس اللغة العربية في
أوزبكستان.[11] وهو
الكتاب الذي يعتبره العلماء في أوزبكستان وفي العالم الإسلامي على ما نعتقد من
أعظم ما كتب في أصول تعليم نحو وصرف اللغة العربية بعد كتاب سيبويه الشهير.
وذاع صيت هذا الكتاب منذ اكتماله بين العرب والعجم على السواء حتى أصبح كتاباً
أساسياً يعتمد عليه في تعليم اللغة العربية. ويروى أن حاكم بلاد الشام مظفر
الدين موسى جعل مكافأة قدرها خمسة آلاف قطعة فضية لمن يحفظ هذا الكتاب عن ظهر
قلب من البداية وحتى النهاية.[12]
وخلال حياته في مكة المكرمة أيضاً ألف
الزمخشري كتابه الشهير "الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل
في وجوه التأويل" وتناول فيه نواح في تفسير القرآن الكريم خلال ثلاث سنوات
(1132 – 1134) كان خلالها يدرس تراث العلماء السابقين. وأصبح هذا الكتاب فيما بعد درة
من الدرر الثمينة في خزائن الأدب الإسلامي العربي. ويتميز كتاب الزمخشري
هذا في أنه لفت الأنظار ولأول مرة إلى النواحي اللغوية في التفسير وركز على تحليل
الأسلوب لفهم المعنى. والنسخة الأصلية من "الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل
وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" التي كتبها الزمخشري بخط يده عام
(528هـ/1134م) محفوظة اليوم في العاصمة الإيرانية طهران.[13]
وكان محمود الزمخشري صديقا
مخلصاً ومحباً باراً لأهل مكة، ولا سيما أميرها أبي الحسن علي بن حمزة بن وهاس
الشريف الحسني. وقد كان الأمير ابن وهاس عالما بارزا وشاعرا نهل من
إبداعه الزمخشري. وكان ابن وهاس شاهداً على سعة الآفاق العلمية
والإطلاع عند الزمخشري الذي قال عنه ابن وهاس بإعجاب:[14]
جميع قرى الدنيا سوى القرية التي
تبـوأها دارا فــداء زمخـشـرا
وأجرى بأن تزهى زمخشر بامرئ إذا غد
وأسد الشـرى زمخ الشـرا
ولما جاور الزمخشري الكعبة
المشرفة بمكة المكرمة أكثر من خمس سنوات، لقب نفسه "بجار الله" وصار هذا
اللقب علما عليه. واستمرت علاقاته الودية بأهل مكة و أميرها حتى نهاية حياته.
واعتبر محمود الزمخشري اللغة
العربية، اللغة الأولى بين لغات العالم الأخرى آنذاك لأنها لغة القرآن الكريم
والحديث الشريف.[15] ولهذا
حرص على أن تكون مؤلفاته الفريدة والمفيدة والمهمة في النحو وعلوم اللغة، باللغة
العربية. ومن بين تلك المؤلفات كتاب "مقدمة الأدب" الذي انتهى من تأليفه
عام 1139، و"المفصل" و"أساس البلاغة".[16]بالإضافة
لـ "نوابغ الكلم" و"أطواق الذهب" اللذان يعتبران بحق عقدين من
الذهب الخالص في خزائن الأدب المكتوب في القرون الوسطى. وتدل مؤلفاته من خلال
موضوعاتها المختلفة على سعة الإطلاع والعلم الراسخ المتين، وهو السبب الذي كان
وراء الشهرة الواسعة التي تمتع بها الزمخشري في أوساط كل من نطق العربية أو
تعلمها في العالم بأسره، وخاصة في العالم الإسلامي حيث أطلقت عليه الألقاب كـ
"فخر خوارزم" و"أستاذ الدنيا" و"أستاذ العرب
والعجم"، أما هو فقد قال عن نفسه: "إني في خوارزم كعبة الأدب".[17] وبعد
عودة الزمخشري من مكة، استقر لسنوات في خوارزم وانتقل إلى بارئه تعالى وجلت
قدرته ليلة عرفة من عام 538هـ،1144م. حيث يذكر الرحالة العربي الشهير ابن بطوطة
في كتابه "الرحلة" أنه زار خوارزم في سنة 1333م أي في أوائل القرن
الثامن الهجري وأنه: "بخارج خوارزم قبر الإمام العلامة أبي القاسم محمود
بن عمر الزمخشري وعليه قبة".[18]
وقد تناول كثير من العلماء المسلمين
مؤلفات الزمخشري أو أشاروا إليها في مؤلفاتهم خلال القرون التي تلت وفاته،
ومن هؤلاء: ابن النديم في الفهرست، وأبو منصور عبد الملك الثعالبي
النيسابوري (350هـ،961م- 429هـ،1039م) في "يتيمة الدهر في محاسن أهل
العصر"، وياقوت الحموي (426 ـ575هـ، 1179-1229م) في "إرشاد
الأريب إلى معرفة الأديب"، وابن خلكان شمس الدين أحمد بن محمد (608ـ
681هـ،1211- ،1288م) في "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان"، وأبو
سعاد عبد الكريم محمد السمعاني (1179-1229م) في "كتاب الأنساب"، وجلال
الدين عبد الرحمان السيوطي (1445-1505م) في "بغية الوعاة في طبقات
اللغويين والنحاة"، وحاجي خليفة (1609-1697م) في "كشف الظنون إلى
أسامي الكتب والفنون"، وزهر الدين البيحاقي في "تاريخ حكماء
الإسلام"، وابن شهبة في "طبقات النحاة واللغويين" وغيرهم.
ومن بين علماء نحو اللغة العربية
أيضاً أبو الفتح ناصر بن عبد السيد المطرزي الذي ولد بخوارزم في رجب سنة
538هـ الموافق ليناير/كانون ثاني سنة 1143م وهي السنة التي توفي فيها الزمخشري.
ولذلك قيل عنه: "خليفة الزمخشري، وقد اشتغل المطرزي إلى جانب
اللغة العربية بالفقه على المذهب الحنفي والفكر المعتزلي. وفي عام 601هـ،1204م
أقام ببغداد لبعض الوقت، حيث تمتع بنفوذ واسع بين النحاة البغداديين. وتوفي في
الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة 610 هـ الموافق لأكتوبر/تشرين أول سنة 1213م.
ومن أهم مؤلفات المطرزي: 1) كتاب المصباح في النحو. 2) وكتاب المغرب في
ترتيب المعرب، وهو معجم مرتب على حسب الحرف الأول، استقاه من كتابه المفقود:
"المعرب" الذي ألفه للفقهاء وفيه العلاقة بين النحو واللغة والفقه
ويقدره الحنفية، تقدير الشافعية لكتاب "غريب الفقه" للأزهري. 3) والإقناع
لما حوى تحت القناع (وهو كتاب في المترادفات ألفه لابنه). 4) ورسالة في إعجاز
القرآن. 5) وشرح مقامات الحريري. ويدل هذا التنوع في مؤلفاته على موسوعيته
وسعة ثقافته الرفيعة.
ومن بين علماء اللغة العربية المسلمين
خلال الفترة الممتدة مابين القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، علماء أجلاء بارزين
من آسيا المركزية، ساهموا بوضع الأساس اللغوي للغة العربية تمكيناً لنهضة
"الأمة الإسلامية"، ومن بين أولئك العلماء الكبار أبو نصر إسماعيل بن
حماد الجوهري الفارابي التركي النحوي الذي ألف معجم "تاج اللغة وصحاح
العربية" ذلك المعجم المتميز حتى اليوم في تاريخ معاجم اللغة العربية.
وقد ولد الجوهري في فاراب
(فاراب اليوم على بعد 70 كم، شمال شرق طشقند عاصمة أوزبكستان) وكان لغوياً وأدبياً
وشاعراً وكاتباً. تلقى تعليمه الأولي في فاراب. ثم سافر في طلب العلم إلى العراق
ودرس هناك على أبي علي الفارسي (900-987م) وأبي سعيد السيرافي (
المتوفي في عام 368هـ،991م)، وأتيحت له الفرصة للتعمق في تفاصيل اللغة العربية
ونحوها، عندما سافر كثيراً، وتنقل في الحجاز لدراسة لهجتي قبيلتي ربيعه ومضر. ورجع
بعد ذلك إلى نيسابور حيث درس واشتغل بالتأليف حتى توفي فيها سنة 1008م. ومن أهم
مؤلفات الجوهري أيضاً: 1) كتاب العروض أو عروض الورقة. 2) وكتاب المقدمة في النحو.
وقد قال الثعالبي عنه في كتابه
"يتيمة الدهر": هو من عجائب الدنيا…في علم اللغة العربية وله مكان بارز.
وضُربت الأمثال عن حسن خطه الذي شابه خط ابن مقلة والمهلهل ويزيد".[19] ويعد
معجمه (تاج اللغة وصحاح العربية) ثورة في علم اللغة العربية. وهو من أمهات المعاجم
العربية. وقسّم الجوهري كتابه إلى أبواب رتبت حسب الحرف الأخير في جذر
الكلمة ثم رتبت الكلمات داخل كل باب إلى فصول حسب الحرف الأول في جذر الكلمة أما
الحرف الثاني في جذر الكلمة فيحدد موقعها داخل الفصل. مثلا: نريد أن نبحث عن كلمة
"كتاب" (في الصحاح). أولا نحدد الجذر: ك، ت، ب. ونجد "باب
الباء" ثم نحدد في هذا الباب موقع "فصل الكاف" وهناك سنجد كلمة
"كتاب" من أول الفصل. وكان هذا بحد ذاته ثورة في عالم صنع المعاجم
آنذاك.
ويعتبر "الصحاح" والمعاجم
الأخرى التي ألفت من بعده وبالأسلوب نفسه خزينة لكلمات القوافي بين الشعراء. ولهذا
اشتهرت المعاجم ولقيت رواجا عظيما، وتراجعت معها المعاجم السابقة التي ألفت طبقا
للترتيب الصوتي مثل: "العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي (718-791)
و"البارع" لأبي علي القالي (288-356هـ،901-967م.)
و"المحيط" لابن عباد، وكتاب "الجمهرة في اللغة" لابن
دريد (توفي عام 321هـ،934م) وغيرهم.
وفضل الجوهري ومعجم
"الصحاح" كبير على العلماء المتأخرين الذين بحثوا في علم اللغة وبدونه
ما كان ليحقق علم اللغة التطور الذي بلغه حتى الآن. لأنه كان الأساس الذي أعتمد في
المعاجم التي ألفت من بعده. وقد صرف الجوهري أربعين سنة من عمره لتأليف
"الصحاح"، الذي قال عنه إسماعيل النيسابوري:[20]
هذا كتاب الصحاح سيد ما صُنّف قبل
الصحاح في الأدب يـشـمـل أنواع ويجمع ما فُـرّق في غـيره من الكـتب وجاء بعد الجوهري
بحوالي قرنين من الزمن، لغوي ونحوى بارز من آسيا المركزية "ما وراء
النهر" أيضا، هو رضي الدين الحسن بن محمد بن السغاني (1181 – 1252م)
الذي تابع الطريق الذي بدأه الجوهري بمعاجم "العباب" و"مجمع
البحرين" و"تكملة الصحاح".
ومن بينهم أيضاً السكاكي سراج
الدين أبو يعقوب يوسف بن بكر بن محمد بن علي الذي ولد سنة 555هـ، 1169م في
خوارزم. وتوفي في قرية الكندي في سنة 626هـ، 1229م وكان علامة في المعاني والبيان
والأدب والعروض والشعر، ومتكلم فقيه. ومن أشهر مؤلفاته "مفتاح العلوم"
في ثلاثة أجزاء، خص الأول منه لعلم الصرف، والثاني لعلم النحو، والثالث لفرعي
البلاغة: المعاني والبيان، وغيرها من العلوم ويعتبر من أهم الأجزاء الثلاثة، وقد
صنف في مفتاح العلوم اثني عشر علماً. ومن مؤلفات السكاكي الهامة الأخرى: 1)
الرسالة الولدية، وهي رسالة وجهها إلى محمد ساجقلي زاده، أحد تلامذته وفيها
ضوابط علم المناظرة وقوانينها. 2) ومصحف الزهرة، عن السحر والتنجيم والعرافة
وغيرها.
والقائمة هذه يمكن أن تمتد كثيراً،
ولكننا سنكتفي بهذا القدر متمنين أن نكون قد تمكنا من التعريف بشيء يسير من الدور
الذي يقوم به المستعربون في آسيا المركزية اليوم، لتحقيق والتعريف بتراث أجدادهم
العظام من ما وراء النهر الذين أبدعوا خلال القرون الوسطى من أجل نشر وتطوير علوم
اللغة العربية ونحوها وأصولها وقواعدها.
ولا نبالغ إن قلنا أن لعلماء ما وراء
النهر دوراً بارزاً وهاماَ في تطوير علم اللغة الذي نشأ مع بداية القرن السابع
الميلادي. وكان لهم الفضل في بلوغ علوم اللغة العربية أوجها. ونحن نفتخر بفضل
أجدادنا العظام ونقدر عملهم الجليل وفضلهم في تطوير نحو اللغة العربية، وتطوير
العلوم الإنسانية الأخرى، تلك المؤلفات الخالدة التي تركوها لنا من بعدهم نشبعها
درساً وتمحيصاً ودراسة وتطويراً، والتي هي جزء هام من الثقافة العربية والإسلامية
والعالمية. واللغة العربية ليست ثروة وتراثاً قومياً للعرب وحدهم، بل هي ثروة
لجميع الشعوب الإسلامية وللعالم أجمع. لأنها لغة القرآن الكريم والحديث المطهر
والسنة الشريفة. وهي حافظة للتراث العلمي والأدبي والتاريخ المشترك للشعوب
الإسلامية قاطبة، وشاهد على إثراء الحضارة الإنسانية في مختلف العلوم. ومن هذا
الفهم ينطلق حرص الدولة والأوساط العلمية في جمهورية أوزبكستان اليوم على تعلم
وتعليم اللغة العربية وعلومها، التي من دونها لا يمكن الإطلاع على مضمون مخزون
المخطوطات العلمية الثمينة التي كتبها جهابذة العلم في أوج ازدهار الدولة الإسلامية
في القرون الوسطى، وهي المؤلفات التي هي بحق "الدرة الثمينة" التي لا
تقدر بثمن.
المراجع
1.
أبو القاسم محمود الزمخشري. نوابغ الكلم. طشقند: كامالاك، 1992. 80 صفحة.
(باللغة الأوزبكية).
2.
أحمد يوغيناكي: (750) هيبة الحقائق. مخطوطة.
3.
أحمد يسوي: حكماتلار. مخطوطة.
4.
أحمد الحوفي: الزمخشري. القاهرة: دار الفكر العربي، 1966. 331 صفحة.
5.
أتكور قارييف. قاموس المحادثة. منارة الشرق. 2-1 . طشقند. 1996. (باللغتين
العربية والأوزبكية)
6.
"أساس البلاغة" مخطوطة محفوظة تحت رقم 5234 في مكتبة أبي ريحان
البيروني.
7.
إسمة الله عبد الله. النظم باللغة العربية في آسيا الوسطى وخراسان في
القرون XII – X طشقند: دار فن للنشر، 1984. ص. 265
(باللغة الروسية).
8.
باطير بيك حسانوف: الصحاح اتجاه جديد في علم اللغة العربية ومعاجمها.
طشقند: مجموعة مقالات، جامعة طشقند الحكومية للدراسات الشرقية، 1999. (باللغة
الأوزبكية)
9.
عبد القادر زاهيدي: الثقافة العربية والإسلامية في القرون الوسطى بتركستان.
طشقند: دار فن للنشر، 1993. 119 صفحة (باللغة الأوزبكية)
10.
علي بيك رستاموف: محمود الزمخشري. طشقند: دار فن للنشر، 1971. (باللغة
الأوزبكية)
11.
كارل بروكلمان: تاريخ الأدب العربي. ج 5 ، القاهرة: دار المعارف، 1974. 293
صفحة.
12.
"الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل"مخطوطة
بخط أحمد بن محمود بن أحمد جمشيد شاشي عام 1358م.
13.
"مقدمة الأدب" مخطوطة محفوظة تحت رقم 202 في مكتبة أكاديمية العلوم
الأوزبكستانية باللغات العربية والفارسية والتركية والمغولية. وهي نسخة وحيدة في
العالم. وهناك نسخة أخرى كاملة باللغتين العربية والفارسية محفوظة تحت رقم 429.
14.
د. محمد البخاري: عرب آسيا المركزية: آثار وملامح. دمشق: المعرفة، العدد
445، تشرين أول/أكتوبر 2000. ص 184-208.
15.
د. محمد البخاري، ود. تيمور مختاروف: تحقيق المخطوطات الإسلامية في
أوزبكستان … جهود متواصلة لحماية التراث. أبو ظبي: "الاتحاد" يومي11 و13
/3/2001.
16.
محمود الزمخشري: نوابغ الكلم. طشقند: كامالاك، 1992. ص 4 (باللغة
الأوزبكية)
17.
محمود قشقاري (القرن الحادي عشر): ديوان لغة الترك. مخطوطة.
18.
"المفصل في صنعة الإعراب" مخطوطة محفوظة في مكتبة أبي ريحان البيروني
للاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الأوزبكستانية تحت رقم 5198.
19.
يوسف خاص حاجب (1017): قوتاد غوبيليك. مخطوطة.
هوامش:
[1] أنظر: د. محمد البخاري: عرب آسيا المركزية: آثار وملامح.
دمشق: المعرفة، العدد 445، تشرين أول/أكتوبر 2000. ص 184-208؛ ود. محمد البخاري،
ود. تيمور مختاروف: تحقيق المخطوطات الإسلامية في أوزبكستان … جهود متواصلة لحماية
التراث. أبو ظبي: "الاتحاد" يومي11 و13 /3/2001.
[2] كان تعليم اللغة العربية خلال العهد السوفييتي يتم حتى
مطلع الاستقلال من خلال كتب ألفها: فرانديه، وشاغال، وشرباتوف، وكافالوف، الروس.
وخاليدوف من تتار قازان المسلمين، وكلها تعتمد على اللغة الروسية. وبالتالي كانت
الكتب المدرسية تعتمد عليها بالكثير من حيث المنطق والمادة والأسلوب والمنهاج
والإخراج.
[3] أنظر: د. محمد البخاري، ود. تيمور مختاروف: تحقيق
المخطوطات الإسلامية في أوزبكستان… جهود متواصلة لحماية التراث. أبو ظبي:
"الاتحاد" 13/3/2001.
[4] أنظر: محمود الزمخشري: نوابغ الكلم. طشقند: كامالاك،
1992. ص 4. (باللغة الأوزبكية)
[5] أنظر: علي بيك رستاموف: بروفيسور، عضو أكاديمية العلوم
الأوزبكستانية، له كتاب عن محمود الزمخشري صدر في طشقند عام 1971، وعدة مقالات
منشورة؛ وقازاق باي محمودوف: بروفيسور، له عدة دراسات ومقالات منشورة عن مخطوطات
اللغة العربية؛ وزاهد جان إسلاموف: بروفيسور، يعمل على تحقيق "مقدمة
الأدب" للزمخشري، وله أكثر من 30 دراسة ومقالة منشورة؛ ومقصود حكيم جانوف: له
عدة دراسات ومقالات منشورة عن "مقدمة الأدب" للزمخشري؛ وأتكور جان
قارييف: له عدة دراسات ومقالات منشورة عن "الفائق في غريب الحديث"
و"أساس البلاغة" للزمخشري؛ وعبيد الله أواتوف: ترجم كتاب "نوابغ
الكلم" للزمخشري إلى اللغة الأوزبكية، وله العديد من الدراسات والمقالات
المنشورة؛ وباطير بيك حسانوف: بروفيسور، حقق "تاج اللغة" و"صحاح
العربية" للجوهري؛ وإيرغاش عماروف: بروفيسور، له عدة دراسات ومقالات منشورة
عن "ديوان الترك" لمحمود القشقاري؛ وسليمة رستاموفا: لها عدة دراسات
ومقالات منشورة عن "ديوان الترك" لمحمود القشقاري؛ ومخلصة ضياء
الدينوفا: لها عدة دراسات ومقالات منشورة عن "مفتاح العلوم" للخوارزمي؛
ورايح بهاديروف: له عدة دراسات ومقالات منشورة عن "مفتاح العلوم"
للخوارزمي.
[6] أنظر: عبد القادر زاهيدي: الثقافة العربية والإسلامية في
القرون الوسطى بتركستان. طشقند: ؟، 1993. (باللغة الأوزبكية)
[7] أنظر مخطوطات: أحمد يوغيناكي (حوالي عام 750هـ): هيبة
الحقائق.، ويوسف خاص حاجب (حوالي عام 1017م): قوتاد غوبيليك.، ومحمود قشقاري
(القرن 11 هـ) : ديوان لغة الترك.، وأحمد يسوي (1041-1167م): حكمتلار. في مكتبة
المخطوطات بمعهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الأوزبكستانية.
[8] أنظر: عبد القادر زاهيدي: الثقافة العربية والإسلامية في
القرون الوسطى بتركستان. طشقند: ؟، 1993. (باللغة الأوزبكية)
[10] أنظر: كارل بروكلمان: تاريخ الأدب العربي. ج 5. القاهرة:
دار المعارف، 1973. 293 صفحة؛ وعلي بيك رستاموف: محمود الزمخشري. طشقند: ؟، 1971.
(باللغة الروسية)؛ وأبو القاسم محمود الزمخشري: نوابغ الكلم. طشقند: كمالاك، 1992.
(باللغة الأوزبكية)؛ وأحمد محمد الحوفي: الزمخشري. القاهرة: دار الفكر العربي،
1966. ص 58-63.
[11] يحتفظ معهد أبي ريحان البيروني للاستشراق التابع
لأكاديمية العلوم الأوزبكستانية بسبع نسخ مخطوطة منه تحمل الأرقام التالية: 7151،
8107، 8589، 8642، 12474، 12858، 12888.
[13] أنظر: نفس المصدر السابق. ص 45؛ وفي مخطوطة "الكشاف
عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" بخط أحمد بن محمود
بن أحمد جمشيد شاشي عام 1358. وفي مخطوطات أخرى محفوظة في الإدارة الدينية في
طشقند.
[14] أنظر: أتكور قارييف: قاموس للمحادثة. طشقند: منارة
الشرق، 1996. ص 6. (باللغتين العربية والأوزبكية)
[16] أنظر: "مقدمة الأدب" قاموس مخطوط باللغات:
العربية والفارسية والتركية والمغولية، محفوظ تحت رقم 202 في مكتبة أكاديمية
العلوم الأوزبكستانية، وهو نسخة وحيدة في العالم. وهناك نسخة كاملة أخرى باللغتين
العربية والفارسية محفوظة تحت رقم 429. ومخطوطة "أساس البلاغة" المحفوظة
تحت رقم 5234.
[19] أنظر: إسمة الله عبد الله: النظم في اللغة العربية في
آسيا الوسطى وخراسان في القرون 10 – 12. طشقند: دار فن للنشر، 1984. ص 265.
(باللغة الروسية)
[20] أنظر: باطير بيك حسانوف: الصحاح اتجاه جديد في علم اللغة
العربية ومعاجمها. طشقند: مجموعة مقالات، جامعة طشقند الحكومية للدراسات الشرقية،
1999. ص 92.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق