الأربعاء، 27 يناير 2010

الشاعر المتصوف والعالم الإسلامي الكبير خوجه أحمد يسوي


الشاعر المتصوف والعالم الإسلامي الكبير خوجه أحمد يسوي

ضريح أحمد يسوي في تركستان

كتبها أ.د. محمد البخاري: مستشار رئيس جامعة طشقند الحكومية للدراسات الشرقية، بالاشتراك مع أ.د. مريم عبد الملك قزي إيشمحميدوفا: أستاذ مساعد في قسم المخطوطات بكلية الآداب/ جامعة طشقند الحكومية للدراسات الشرقية. في طشقند بتاريخ 1/6/2001. وأرسلت لمجلة الفيصل في الرياض.

مخطط الدراسة: تمهيد؛ نشأة العلامة والداعية الإسلامية والشاعر المتصوف والمربي الكبير خوجه أحمد يسوي؛ العلامة المتصوف أحمد يسوي كشاعر ومربي؛ بدايات شهرة الشاعر والمربي والعلامة المتصوف أحمد يسوي؛ ديوان حكمت، "ديوان الحكم"؛ الآثار المخطوطة للعلامة أحمد يسوي في أوزبكستان؛ الآثار المخطوطة للعلامة أحمد يسوي في تركيا وأوروبا؛ اتفاق الآراء حول صحة نسبة "الحكم"؛ الأسلوب الشعري المتميز للعلامة أحمد يسوي؛ الزهد والعشق الإلهي في شعر العلامة أحمد يسوي؛ هوامش.

تمهيد: تعتبر الأوساط الثقافية الأوزبكستانية الشاعر المتصوف والعلامة الإسلامي الكبير خوجه أحمد يسوي من أوائل وأبرز الأدباء الصوفيين الترك الذين كان لهم باع طويل في تأسيس واحدة من الطرق الصوفية التي انتشرت بشكل واسع داخل المجتمعات التركية في القرون الوسطى. كما وكان العلامة أحمد يسوي من أشهر الشخصيات التربوية التركية التي ساهمت آنذاك من خلال أعمالها الأدبية الكثيرة في نشر الدين الإسلامي الحنيف والتعليم والمعرفة في الأوساط التركية وعملت على تنقية الدين الإسلامي الحنيف من الشوائب التي لحقت به نتيجة للصراعات والأحداث الدامية التي عصفت بما وراء النهر والمناطق المحيطة بها خلال تلك الحقبة التاريخية الهامة من تاريخ العالم الإسلامي. ويعتبر البعض أن أعمال يسوي الأدبية ساهمت إلى حد كبير في تقوية جذور الدين الإسلامي الحنيف في أوساط القبائل التركية الرحل التي كانت منتشرة آنذاك على رقعة شاسعة من العالم الإسلامي تمتد من أسوار الصين شرقاً إلى آسيا الصغرى ومصر غرباً، ومن سيبيريا شمالاً إلى أواسط الهند جنوباً. حسب رأي المتخصصين أن الفضل في ذلك يعود للأدب الذي كتبه وألهب المشاعر الإنسانية والحماس الديني عند الناس البسطاء من خلال الشعر الصوفي الذي نظمه بأسلوب خاص عرف في الأوساط العلمية بآسيا المركزية وتركيا تحت اسم (حكمت لار) أي الحكم، الأسلوب الذي ارتقى في وقت لاحق وأخذ شكلاً وأسلوباً متميزاً في الشعر التركي الصوفي. فمن هو العلامة والداعية الإسلامية والشاعر المتصوف والمربي الكبير خوجه أحمد يسوي ؟

نشأة العلامة والداعية الإسلامية والشاعر المتصوف والمربي الكبير خوجه أحمد يسوي: تطالعنا مراجع كثيرة بأن العلامة أحمد يسوي ولد في أواخر القرن الخامس الهجري في قصبة سايرام الواقعة شرقي مدينة تشمكنت في تركستان الغربية (قازاقستان اليوم)، ومع الزمن تغير اسم سايرام تلك مراراً عبر تاريخها حتى استقر أخيراً على اسم اسفجاب، بينما تذكر بعض المراجع الأخرى تسميات أخرى كسريام وأق شهر أي "المدينة البيضاء".[1] والده إبراهيم كان من أشهر شيوخ المدينة، ووافته المنية والطفل أحمد لم يبلغ السابعة من عمره، وكفلت تربيته أخته جوهر شاهناز وسهرت على تربيته وانتقل معها للعيش في مدينة يسي، حيث تتلمذ هناك على يدي الشيخ الصوفي المعروف أرسلان باب.[2] وبعد فترة وجيزة انتقل الفتى أحمد يسوي إلى مدينة بخارى منارة العلم آنذاك لتكميل تحصيله في العلوم الدينية الإسلامية على يدي أحد كبار شيوخ الطرق الصوفية أبو يوسف الهمداني (1048-1140م) الذي مارس التعليم آنذاك في المدرسة النظامية التي أسسها هناك الوزير السلجوقي نظام الملك.[3] وفي بخارى تعرف أحمد يسوي على زملائه الثلاثة المشهورين الذين لعبوا دوراً كبيراً في حياة الزهد والتعبد ونشر الدعوة الإسلامية في ما وراء النهر آنذاك، وهم: عبد الله البرقي، وخوجه حسن انداقي، وخوجه عبد الخالق غجدواني.[4]

العلامة المتصوف أحمد يسوي كشاعر ومربي: وبعد وفاة أستاذه الشيخ يوسف الهمداني برزت مواهب أحمد يسوي التربوية وتولى مسؤولية زاوية الشيخ الهمداني والتدريس فيها، وسرعان ما تركها من بعده للخوجه عبد الخالق غجدواني ليقفل عائداً إلى مدينة يسي،[5] وبقي فيها إلى آخر حياته يعلم عامة الترك أصول الدين الإسلامي الحنيف والتصوف، وألف من أجل ذلك قصائد كثيرة تعرف اليوم باسم (حكمت لار)، تشبعت بالمواعظ الدينية الإسلامية الحنيفة وروح التصوف، يشرح فيها بشكل متميز بسيط، ويبسط ويسهل فهم العقائد الإسلامية والسنة الشريفة لعامة الترك. وقام تلامذته ومريديه بنشر قصائده وحكمه في شتى أقاصي الأراضي التي عاشت عليها آنذاك قبيلة الترك الرحل "آراك". وتتحدث سيرة حياة العلامة أحمد يسوي عن وتروي قصة قراره الغريب الذي اتخذه عند بلوغه سن الـ 63 عاماً من عمره، وهي السن التي بلغها الرسول العربي محمد (صلعم) وتناولها معظم الرواة الأتراك في مصادرهم، ورغبته في أن لا يعيش في هذه الدنيا أكثر من سنوات النبي محمد (صلعم)، فقام بحفر قبر لنفسه واتخذه زاوية عاش فيها ما تبقى له من سني العمر، إلى أن وافته المنية عن عمر ناهز الـ 125 عاماً قضاها بالزهد والتعبد ونشر الشريعة الإسلامية وتعاليم الدين الحنيف التي تلقاها عن أساتذته من علماء المسلمين.[6]

بدايات شهرة الشاعر والمربي والعلامة المتصوف أحمد يسوي: ويتفق الباحثون في أن شهرة الشاعر والمربي والعلامة المتصوف أحمد يسوي لم تكن بسبب شعره المتصوف فقط، بل كانت من الطريقة الجديدة للتصوف المعروفة بالطريقة "الجهرية" التي أسسها أحمد يسوي وانتشرت في أوساط قبائل الترك الرحل غير المسلمة يدعوهم من خلالها لاعتناق الدين الإسلامي الحنيف، وفي نفس الوقت يقوي من خلالها تعاليم الدين الإسلامي الحنيف في تركستان ومناطق أخرى خارج حدود ما وراء النهر وخاصة في أوساط قبائل الترك التي لم تترسخ فيها تعاليم الدين الإسلامي الحنيف بعد. وامتدت طريقته من ما وراء النهر إلى مناطق أخرى في خراسان وأذربيجان والأناضول (تركيا اليوم) تدعو للتصوف وإتباع التعاليم الدينية الصحيحة ووجوب أن يتبعها كل مسلم. خلافاً للطريقة النقشبندية الأكثر كمالاً والتي كانت واسعة الانتشار في الأوساط المتنورة توطد الإسلام في أوساطهم وانتشرت وترسخت تعاليمها في حياتهم، بينما كانت الطريقة الجهرية متجهة بتعاليمها للبسطاء الذين اعتنقوا للتو الدين الإسلامي ولم تترسخ تعاليم الدين الإسلامي الحنيف بعد في حياتهم.[7]

ديوان حكمت، "ديوان الحكم": تتحدث بعض المصادر عن جمع قصائد العلامة والداعية الإسلامية والشاعر المتصوف والمربي الكبير خوجه أحمد يسوي، في الصوفية ضمن (ديوان حكمت) "ديوان الحكم" الذي كان واسع الانتشار في الأوساط الاجتماعية التركية في آسيا المركزية وحوض نهر الفولغا، والأناضول ككتاب مدرسي يعلم الأدب والموعظة في المدارس الإسلامية آنذاك. وتعتبرها من أقدم نماذج الأدب التركي، التي تنفرد بأقدم أوزان النظم الشعري التركي، وكونها من أفضل أشكال الأدب المكتوب الذي تعتز به الشعوب التركية حتى اليوم.[8]

الآثار المخطوطة للعلامة أحمد يسوي في أوزبكستان: وتحتفظ مكتبة المخطوطات بمعهد أبي ريحان البيروني للاستشراق التابع للمجمع العلمي الأوزبكستاني اليوم بأكثر من 100 مخطوطة من (ديوان حكمت)، للعلامة والمربي المتصوف أحمد يسوي، وتذكر المصادر أن (ديوان حكمت) الذي ألفه أحمد يسوي يعود للقرن الثاني عشر الميلادي، ولكننا ونتيجة للبحث لم نجد بين المخطوطات التي يحتفظ بها المعهد اليوم على أية مخطوطة تعود لذلك التاريخ، بل كانت أقرب نسخة مخطوطة من (ديوان حكمت) تحمل تاريخ القرن الثامن عشر الميلادي. ومن نظرة متفحصة في النسخ المخطوطة التي يحتفظ بها المعهد اليوم، وجدنا أن كل نسخة منها تختلف من حيث المحتوى والمستوى التقني والدقة عن سواها من المخطوطات. وصادفنا الكثير من الأخطاء والاختلافات في محتوى بعض تلك النسخ. وطالعنا في بعضها نماذج من أشعار كتبها تلامذة ومريدي العلامة أحمد يسوي، أمثال: عظيم خوجه، وقل سليمان، وعبيدي،[9] وأقاني، وقل تيموري، وسيف الدين، وشمس وآخرون، نظموا الشعر بالأسلوب الذي اتبعه شيخهم الكبير أحمد يسوي، أو نظموا شعر يشبه الأشعار التي خلفها وراءه شيخهم الكبير. ورغم اتفاق العديد من المصادر على أن ما خلفه العلامة أحمد يسوي لا يزيد عن 4400 حكمة نظمت كلها على شكل أبيات شعرية. فإننا نجد في بعض النسخ المطبوعة في طبعات متعددة بمطابع طشقند وبخارى (في أوزبكستان اليوم) وقازان (عاصمة جمهورية تتارستان في الفيدرالية الروسية اليوم) واسطنبول (في تركيا اليوم) ابتداءً من النصف الثاني للقرن التاسع عشر الميلادي، اختلافات جوهرية من حيث عدد الأبيات الشعرية (الحكم)، إضافة لاحتوائها على أشعار (حكم) نظمها أتباع ومريدي العلامة الكبير أحمد يسوي ومن بينهم: عظيم خوجه، وقل سليمان وغيرهما.[10]

الآثار المخطوطة للعلامة أحمد يسوي في تركيا وأوروبا: ورغم إشارة الباحث التركي كمال أرسلان المتخصص في الأدب التركي (ولد عام 1930)، إلى وجود نسخة مخطوطة من (ديوان حكمت) يعود تاريخها للنصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي في تركيا، فإننا لم نتمكن ولم يتمكن غيرنا من الحصول عليها أو على صورة منها لغياب المعلومات الدقيقة عن مكان وجودها الفعلي.[11] ويشير الباحث التركي فؤاد كبرول زاده، إلى وجود مخطوطات أخرى تنسب للعلامة أحمد يسوي في مكتبة المجمع العلمي المجري، ويشير أيضاً إلى أن فهارس المجمع أوردت ذكر نسخة مخطوطة من (ديوان حكمت) نسخت خلال القرن الخامس الهجري، ولكن نتائج البحث التي قام بها البعض عن تلك المخطوطات لم تؤدي إلى أي نتيجة ولم يعثر على تلك المخطوطة أيضاً.[12] ويشير فؤاد كبرول زاده إلى أن نسخة أخرى مخطوطة لـ (ديوان حكمت) نسخت في العام 1105 هجرية، ورد ذكرها في فهارس مكتبة وافق باشا، ولم يتم العثور عليها أيضاً، مما يجعلنا نشك في موضوع توفر نسخ أخرى من (ديوان حكمت) نسخت قبل تاريخ نسخ النسخ المحفوظة في مكتبة معهد أبي ريحان البيروني للاستشراق بجمهورية أوزبكستان.

اتفاق الآراء حول صحة نسبة "الحكم": ويتفق بعض الباحثين المهتمين في التراث الأدبي للعلامة أحمد يسوي، أمثال: فؤاد كوبرول زاده (1890-1966م)، والعالم الروسي المتخصص في الأدب التركي واللغة الأوزبكية أليكساندر قسطنطينوفيتش بارافكوف (1904-1962)، في الشك بمدى صحة نسبة النسخ المتوفرة حالياً من (ديوان حكمت) للعلامة أحمد يسوي، وأشار الأديب الأوزبكي المعروف فطرت إلى:[13] أن قسماً من الحكم التي تضمنها (ديوان حكمت) نظمها تلامذة ومريدي العلامة أحمد يسوي. وهو ما يؤيده العالم التركي كمال أرسلان الذي ذكر: أن قسماً من الأبيات الشعرية الموجودة في (ديوان حكمت) كتبها تلامذة ومريدي أحمد يسوي من بعده وأضيفت لاحقاً إلى (ديوان حكمت)، وهو ما يثبته ورود أسماء أشخاص وأعلام في تلك الأبيات الشعرية عاشت بعد أحمد يسوي.[14]

ولاحظنا من خلال هذه الدراسة الموجزة أن ما نظمه العلامة أحمد يسوي الذي يعتبر برأيينا أساساً للأبيات الشعرية "الحكم" المكتوبة والمنسوبة إليه بشكل عام، أنها تتميز من حيث الأوزان والألفاظ المستخدمة إلى قدر ما، ولكن كثرة عدد الأبيات الشعرية الواردة في "الحكم" بالمقارنة مع العدد المتفق عليه والذي أشرنا إليه، يجعلنا أمام مشكلة حقيقية تتمثل في تمييز حكم العلامة أحمد يسوي عن سواها من الحكم التي كتبها مريديه على مر الزمن، ونراها تشكل عائقاً كبيراً للدراسة. ولكن من إمعان النظر ودراسة تلك "الحكم" بدقة والتمحيص في خواصها المميزة لها عن سواها، نكتشف أن "الحكم" التي ألفها العلامة أحمد يسوي تختلف تماماً عن تلك الحكم التي ألفها تلامذته ومريديه من بعده، وهي ليست في الحقيقة سوى استمرار للجوهر النصي رغم تبدل الصيغ والألفاظ المستخدمة، رغم ثبات الوزن والمساق الشعري في تلك "الحكم" واحتفاظها بروحها والطابع الذي كانت عليه دون تغيير من حيث الجوهر والمعنى.

الأسلوب الشعري المتميز للعلامة أحمد يسوي: ومما ساعدنا في التمييز بين ما نظمه العلامة يسوي عن سواه الوزن الخاص والأسلوب البسيط المتميز بسهولة الفهم والحفظ الذي استخدمه العلامة أحمد يسوي في نظم أشعاره. وهو الأسلوب الذي يشمل روح النص الشعري في القول والقافية، ويركز على المفاهيم والمعاني نفسها التي لم تلاحظ لا من قبله ولا من بعده. وان كان تلامذته ومريديه قد نظموا القصائد على نفس النمط الذي سار عليه شيخهم العلامة أحمد يسوي من حيث الموعظة الحسنة التي جاءت منها تسمية "الحكم". إلا أن أساليب البحث الحديثة تمكنا من تمييزها عن بعضها البعض من خلال الدلالات الزمانية والمكانية التي ترسمها الأبيات الشعرية التي كتبت في أيامه أو بعدها.

ويحتفظ معهد أبي ريحان البيروني للاستشراق التابع لمجمع العلوم في جمهورية أوزبكستان اليوم بنسخة مخطوطة من (ديوان حكمت) تحمل الرقم 3931، وتضم أبياتاً شعرية نظمها الأمير والشاعر عبيدي، ويضم القسم الثالث من هذه النسخة المخطوطة عدد من "الحكم" الشعرية تتفق والأبيات الشعرية التي نظمها أحمد يسوي من حيث الطبيعة والوزن والمعاني، إلا أنها تتميز عنها بالمدائح التي تكيلها للعلامة الكبير أحمد يسوي، حيث يعدد كاتبها مناقب العلامة الكبير في الأدب والمشيخة والتصوف. ودفعنا التاريخ الذي حملته المخطوطة أنفة الذكر والعائدة للقرن السادس عشر الميلادي، للتفكير بأن كاتبها كانت بحوذته نسخة أو نسخ من (ديوان حكمت) الذي نظمه العلامة الكبير أحمد يسوي بنفسه، وهو ما سمح لعبيدي بإتباع أسلوب العلامة أحمد يسوي في نظم الشعر، والتأثر بتراثه الأدبي والمحافظة على نفس الأسلوب والنمط الذي سار عليه شيخه في (ديوان حكمت) من حيث الموعظة الحسنة والحكمة الصائبة، التي تمتد بجذورها إلى ما تبينه آيات القرآن الكريم والسنن النبوية الشريفة وأحكام الشريعة الإسلامية للدين الحنيف. وتركز جل موضوعاتها على محبة لله الواحد الأحد، واكتساب نشوة الحياة من العشق الفريد للواحد الصمد، والصدق والوفاء وإتباع ما أمر به عز وجل، والتعفف واجتناب الخطايا والبعد عن ما نهى الله (جل) عنه، والسعي للكسب مما كسب منه أشرف المرسلين من أدب الطاعة والتقوى، والدعوة لحب الرسول العربي (صلعم) والزهد في عشق الله سبحانه وتعالى.

الزهد والعشق الإلهي في شعر العلامة أحمد يسوي: وهو ما يعني أن تراث أحمد يسوي الأدبي يمثل قمة الزهد والتعبد ودعوة الناس لحب الله والترفع والحرص على الإيمان وصفاء النية واستقبال كل ما قدمه لهم الحبيب المصطفى بالفرح والسرور حتى ولو كابد الإنسان وعانى المشقة في ذلك، مثال قوله:[15]

من عرف العشق ينسى نفسه ولا يهمه قطع رأسه لو بقي مع الحبيب

قوت جسمه تذوق كلام الحبيب لا يعرف طعم الطعام ولا الرغيف

يسير ولا يتوقف عن ذكره تعالى: "إنه هو الله لا إله إلا هو الحبيب"

الحب كله لله تعالى والمحبة الصافية له والعشق الإلهي يكرم المرء بفضله، وهو السر الذي يوصل المرء المتصوف الحقيقي إلى مقامه الرفيع. وهو جوهر الطريق الوحيدة للتصوف والفلاح كما يراها العلامة الكبير، وهي حالة من العشق الوجداني وحب الله جلت وعلت قدرته، والعبادة الخالصة بفرائضها وواجباتها وسننها، مضافاً إليها الزهد والتقوى وهو ما يشير إليه بقوله:[16]

لا تكن زاهدا ولا عابدا ولكن عاشقا وأوفي الصدق في طريق عشقه الشاقة

فالدنيا لمحب الحق وعاشق الله جلت قدرته هي مستنقع لا يمكن الخلاص منه إلا بعشق الله تعالى، والاستعداد لفدائه بنفسه والاستعداد للتضحية في سبيله وهو الحبيب مصدر كل السعادة. لأن الدنيا ما هي إلا الحاجز بين المحب والحبيب، وما رحلة الحياة هذه إلا جسر يوصل للحبيب. لهذا نرى أن العلامة الكبير يعتبر الموت في شعره ليس نهاية للحياة بل بداية للسعادة الأبدية التي يشير إليها في قوله: لا حزن ولا ندامة لمن افتدى سبيل المحبة بنفسه.[17] كما ويدعو العلامة أحمد يسوي في أبياته الشعرية الناس إلى صفاء الضمير والبر والتقوى مستنداً لآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة مقرونة بموهبته الفذة ورحابة ثروته في اللغة التركية.

وبقي أن نشير أخيراً لناحية هامة أخرى لابد وأن يصل إليها كل من يدرس (ديوان حكمت) للعلامة الكبير أحمد يسوي بأن هذا التراث الأدبي ما هو إلا وصف حي لسيرة حياته منذ الولادة وحتى سن الـ 63 من عمره. يحكي فيها الحوادث والوقائع التي مرت به خلال حياته بتسلسل موضوعي، ويدعو فيها علماء الترك للترفع والتزهد إلى الله تعالى، ويقول:[18]

لا يرغب العلماء فيما نقول بالتركية ولكن يسر القلوب ما يقول أهل العرفان

ولو علموا معاني الآيات والأحاديث بالتركية لخلع الكبار ملابسهم المزركشة.

ونتمنى أن نكون قد سلطنا بعضاً من الضوء من خلال هذه الدراسة المختصرة تعرف القارئ على خوجه أحمد يسوي العلامة والمتصوف والمفكر والمربي والشاعر الإسلامي الكبير الذي خدم بأعماله الخالدة التراث الأدبي التركي والإسلامي ورفعه إلى مصاف الأدب العالمي. مما دفع بالكثيرين اليوم من أنحاء مختلفة من العالم للإدعاء والفخر بنسبهم لسلالة هذا العالم الكبير والاعتزاز بأنهم من أحفاده، ومنهم من يعيش اليوم في تركيا، ومنهم من يعيش في دمشق بالمشرق العربي، ومنهم من يعيش في الديار المقدسة، ومن أشهرهم الشيخ إسماعيل شهاب الدين أوغلي المولود في يسي عام 1912.[19] ومع ذلك نرى لزاماً علينا أن نكرر ما ذكرته بعض المصادر من أنه كان للعلامة الكبير أحمد يسوي ابن وحيد هو إبراهيم توفي وهو طفل أثناء حياته، وابنة وحيدة هي جوهري خوشناص التي لم تتعرض لها المراجع التي قمنا بمطالعتها.[20]

هوامش:

[1] أنظر: ملا موسى بن ملا عيسى سيرامي: تاريخ أمينه. قازان: 1904. ص 18.

[2] أنظر: فؤاد كبرولي زادة: ترك أدبياتي دا إلك متصوف لار. اسطنبول: 1918. ص 238.

[3] Бартольд В.В.: Сочинения. Том V, М.: Наука, 1968. стр. 621.

[4] توفي خوجه عبد الخالق غجدواني حوالي عام 1220م، وهو أحد مؤسسي الطريقة الصوفية التي عرفت باسم "جماعة خوجه غان" التي قام بتطويرها فيما بعد العلامة المتصوف بهاء الدين نقشبندي وعرفت بعد ذلك بالطريقة النقشبندية واسعة الانتشار بالمقارنة مع غيرها من الطرق الصوفية المعروفة آنذاك كالطريقة الكبروية، واليسوية، والقادرية، والسهروردية وغيرها من الطرق التي كانت تسير عبر طرق متفاوتة نحو هدف واحد وهي عبادة الخالق عز وجل والتزهد بأمور الدنيا من أجل الآخرة.

[5] مدينة تركستان في جنوب قازاقستان اليوم حيث يقع ضريحه.

[6] Islam Ansiklopedisi. Istanbul: milli egitim basmevi. 1950. I cilt, 807 s.

[7] Гойиблар хайлидан ёнган чироклар. Коллектив. Тузувчи З. Жураев. Т.: 1994. 210 с.

[8] Ишмухамедова Марям: «Девани хикмат» кулёзмалари. Автореферат. Т.: Узбекистон Республикаси Х. Сулайманов номидаги кулёзмалар Институти. 1995. 7 бет.

[9] عبيدي هو حاكم ما وراء النهر بعد شيباني خان في القرن 16، كان شاعراً متنوراً ومن أتباع الطريقة اليسوية.

[10] Divani Hikmat. Segmeler. Hazirlayan k. Eraslan. Ankara. 1991. On Soz s,8.

[11] في لقاء معه أجرته مريم إيشمحميدوفا في طشقند بتاريخ 26/9/1991.

[12] أنظر: ملا موسى بن ملا عيسى سيرامي: تاريخ أمينه. قازان: 1904. ص 236.

[13] فطرت هو عبد الرؤوف بن عبد الرحيم (1886-1937م) أديب وعالم أوزبكي من أعضاء حركة التجديد "مجددي"، وله أكثر من 130 عملاً أدبياً وعلمياً، أعدمته السلطات السوفيتية بعد أن اتهمته بمعاداة الشعب.

[14] Divani Hikmat. Seqmeler. Hazirlayan k. Eraslan. Ankara. 1991. On Soz s, 10.

[15] أنظر: ديوان حكمت. المخطوطة رقم 5716/ نسخت عام 1812، موجودة في مكتبة معهد أبي ريحان البيروني للاستشراق بمجمع العلوم الأوزبكستاني. ص 62

[16] نفس المصدر السابق. ص 85.

[17] نفس المصدر السابق. ص 27.

[18] نفس المصدر السابق. ص 97.

[19] Тохир Каххор: Ахмад Яссавий. Узбекистон адабияти ва санъати. 1990, 26, Октябрь.

[20] أنظر: فؤاد كبرولي زادة: ترك أدبياتي إللك متصوف لار. اسطنبول: 1918. ص 230.


هناك 3 تعليقات:

  1. هل هناك كتب مترجمة للعربية للشاعر احمد يسوى

    ردحذف
    الردود
    1. لا أعتقد أنه هناك ترجمات إلى اللغة العربية

      حذف
  2. السلام عليكم:
    عندي سؤال لماذا نال الخوجه هذا اللقب و عرف به؟
    وأريد من فضيلتكم بعض المصادر باللغة العربية لكتابة بحث عنه.
    جزاكم الله خيرا

    ردحذف